اتصل بنا
 

عن التعليقات المسيئة للمسيحيين..محاولة للفهم كمقدمة للحل

كاتبة اردنية

نيسان ـ نشر في 2023-01-08 الساعة 20:25

نيسان ـ في كل مرة يموت أحد مشاهير المسيحيين في شرقنا العربي البائس، تتحول التعليقات على خبر جنازته أو عزائه إلى ساحة محزنة أكثر من خبر الموت نفسه. أتابع ذلك الآن في التعليقات على خبر جنازة وديع جورج وسوف، وتابعتها قبل أشهر على خبر جنازة جورج الراسي، وقبلهما "صباح" وغيرهم وغيرهم، والذين لم تبق قناة أردنية ولا عربية إلا وغطت جنائزهم بكل تفاصيلها. فبدلا أن تكون التعليقات مساحة لتقديم التعازي لذوي الفقيد ومواساتهم، أو للتعبير عن التعاطف مع جمهوره، أو حتى للسؤال عن ظروف وأسباب الوفاة، يتبارى غالبية المعلقين في جر التعليقات إلى مساحة تندرج تحت خطاب الكراهية، عبر التركيز على "مسيحية" الميت لا إنسانيته، واستغلال المناسبة للسخرية من طقوس وتقاليد ومقدسات الفقيد وأهله، دون أدنى اعتبار لآثارها المدمرة والمؤلمة في نفوس من قد يقرأها من أهله وذويه، بل ونفوس مسيحيي المشرق عموما- ممن يفترض أن يكونوا "شركاء في الوطن" وملح الأرض" وغير ذلك من تلك الكلاشيهات.
وحتى لا نحصر الأمر في أخبار جنائز المشاهير، فإن هذه التعليقات تصاحب تقريبا كل خبر يتعلق بالمسيحيين.
صادف أن وقعت وفاة ابن جورج وسّوف في يوم احتفال الكنيسة الأرثذوكسية بيوم الميلاد، وبالصدفة أيضا قرأت خبر "إحياء مسيحيي غزة لقداس الميلاد" على صفحة التلفزيون العربي على الفيسبوك، ووجدت أن غالبية التعليقات صادمة بالقدر نفسه وربما أكثر، عبر السخرية من هذه الأقلية الصغيرة في غزة، ومن المناسبة، ومن القدّاس، بل ومن المسيح والعذراء عليهما السلام- هكذا بكل صفاقة ووقاحة. ولا داعي لأن أذكر مثالا على ما قرأت.
الأسوأ من ذلك أن الأمر يتم على مرأى، بل وأزعم بتواطؤ وتشجيع، من منافذ الإعلام العربية، والتي تصيغ غالبيتها الخبر لاستدعاء أكبر عدد من التفاعلات والتعليقات، ولا تتكبد عناء شطب المسيء منها، ولا تطلب من قرائها الابتعاد عنها. أقول "بتشجيع" لأن أي دارس لأبسط مبادئ "تحليل الخطاب" سيصل إلى استنتاج أن كثيرا من عناوين هذه الأخبار- مثل "موسيقى ورقص في جنازة فلان"- تُكتب لتكون ما يسمى بـ "طُعم للنقرات Click Bait" لاستثارة تفاعل القارئ أو المشاهد عبر النقرات والمشاهدات والتعليقات والمشاركات حتى لو كانت مسيئة، فيصبح الأمر كمن يخز بعصاه بيتا للنحل.
أضحى مقياس (افعل أي شيء من أجل التفاعل) من محددات الخبر الجيد في عالم ما بعد وسائل التواصل، حتى لو كان الثمن هو المساهمة في تعميق الانقسام المجتمعي، وترويج خطاب الكراهية.
أجد نفسي الآن إزاء هذا المشهد القاتم مشغولة لا بتتبّع إن كان لتلك الإساءات دوافع قد تفهم أنّها فقهية، ولا بتحليل مسؤولية التنظيمات والأحزاب الدينية بزراعة وعي إقصائي احتجاجي في أذهان الناس، ولا بإثبات صحة فرضية أن هذه الأخبار مناسبات ممتازة لتشتيت انتباه المجتمع عما هو أهم من قبل أجهزة في الدولة، بل أجد نفسي مشغولة بالإنسان- سواء كان صاحب التعليق المسيء أو المستحسِن له.
لقد دفعني ذلك لطرح تساؤلات عديدة: ماذا يريد صاحب التعليق المسيء؟ هل يفعل ذلك بدافع الجهل؟ هل يظن أن ذلك من أشكال الدعوة؟ لماذا يتجاهل دعوات التسامح من كبار الرموز الدينية مثل سماحة شيخ الأزهر؟ هل يعرف مدى الأذى النفسي الذي يتسبب به لبعض أبناء وطنه؟ هل يتعمد هذا الأذى؟ لماذا يقبله لنفسه ويرفضه لو مورس عليه حتى بالتلميح؟ هل يرى أن المسيحي الأردني على القدر نفسه من المواطنة والحقوق؟ لماذا يلاقي خطاب الكراهية استحسان شريحة ليست صغيرة من الناس؟ كيف يمكن لهذا الشخص أن يعتبر نفسه، بعد كل هذه الإساءات، معتدلا؟
في الحقيقة لا يمكن الإجابة على هذه الأسئلة وغيرها بدون دراسات رصينة تقوم بها، وتشرف عليها، أقسام علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي في جامعاتنا، والتي يجب أن تكون بتمويل حكومي أو تبرعات من القطاع الخاص أو الاثنين معا.
في أستراليا حيث أعيش منذ ما يقارب ثلاثة عقود، تنفق الدولة (عبر مجلس أستراليا للبحوث Australia Research Council) مليارات الدولارات سنويا على منح للبحث العلمي في شتى العلوم الإنسانية لفهم قضايا مثل العنف بين الشباب عند بعض الأقليات، وتحديات اندماج المهاجرين، وتنامي اليمين المتطرف، وكل ما من شأنه أن يهدد السلم المجتمعي.
إنني وإذ أعطي هذا المثال أدرك ألا جدوى من إجراء مقارنات بين الأردن وأستراليا، أفعل ذلك لاستلهام تجارب أثبتت نجاحها، وأنه لا يمكن حل مشاكل اجتماعية بدون فهم ماهية ودوافع وحدود المشكلة، ولا يمكن فهمها بدون الاستثمار في البحث العلمي.
وبانتظار إجابات على هذه التساؤلات، وحتى لا تتسع الهوة بين شرائح المجتمع الواحد، ينبغي على الدولة أن توقف هذا النزيف، وألا تضيع المزيد من الوقت، عبر التصدي لبث وترويج كل أشكال خطاب الكراهية، وخاصة على وسائل التواصل حيث يسهل إثباتها وتوثيقها، وأن تجرّمه عبر قوانين واضحة لا تعاقب فقط صاحب التعليق المسيء بل القناة الإعلامية التي تتخاذل عن حذفه وحظر صاحبه إن تكرر.
كما وأدعو أصحاب المهنية العالية في قطاع الإعلام، وهم الغالبية، إلى كسر الصمت إزاء تواطؤ بعض منابر الإعلام مع صانعي ومروجي خطاب الكراهية، وذلك بصياغة ميثاق شرف إعلامي يرفض ذلك ويضبط سلوكيات الإعلام على مسطرة الأخلاق والسلم الاجتماعي.
أعرف أنه سيكون ميثاقا غير ملزم ولكنه بلا شك سيغذّي روح التضامن المجتمعي وسيعرّي الساعين للتربّح الرخيص من هذه السموم.

نيسان ـ نشر في 2023-01-08 الساعة 20:25


رأي: هيا منير كلداني كاتبة اردنية

الكلمات الأكثر بحثاً