صورة سينمائية للأسابيع الأخيرة من حياة لينون 'أذكى البيتلز'
نيسان ـ نشر في 2023-01-16 الساعة 18:48
لينون مع رفاقه في "البيتلز" زمن البدايات السعيدة (الموسوعة البريطانية)
نيسان ـ كان لا بد في عام 2010 لمناسبة الذكرى الثلاثين لرحيل جون لينون الأكثر التزاماً وإقداماً بين الفنانين الأربعة الذين كانوا يشكلون فريق البيتلز الغنائي، الذي كانت قد مضت سنوات عديدة على تفرقه من دون أن ينقص ذلك من أسطوريته ولو ذرة واحدة، كان لا بد أن ينتج عمل فني يخلد تلك الذكرى، وبخاصة أن لينون وكما نعرف لم يمت موتاً عادياً بل قتل بجريمة لا يزال من الصعب تفسيرها أو تحديد مبرراتها حتى اليوم. ومن هنا كان الفيلم الوثائقي الأميركي الذي عنون بـ"لينون، ن ي سي" ما يعني تحديداً: جون لينون مدينة نيويورك. باعتبار أن لينون كان مواطناً في تلك الحاضرة الأميركية ولم يعد ينتمي إلى مسقط رأسه ليفربول في إنجلترا منذ زمن طويل، أي منذ انفصل عن فريقه الغنائي وعاش في نيويورك مغرداً تارة وحده وطوراً مع رفيقته يوكو أونو. ولقد اهتم الفيلم الذي بثته محطات كثيرة في العالم حينها وبات بدوره أسطورياً كالشخصية التي يتمحور حولها، اهتم بالأسابيع الأخيرة من حياة صاحب "إيماجين" ومعظم الأغاني السابقة عليها والتي صنعت مجد ذلك الفريق، بالتالي أسطوريته منذ بداية سنوات الستين محدثة في عالم الغناء والشبيبة والاحتجاجات السياسية والاجتماعية قلبة استثنائية في تاريخ الفن.
البداية معروفة
طبعاً لا يعود بنا الفيلم إلى سنوات البداية التي نعرف جميعاً أن لينون قد لعب فيها فنياً دوراً رئيساً أحياناً وحده وفي أحيان أخرى برفقة شريكه في "البيتلز" بول ماكارتني، وفي أحيان نادرة شريكيهما الآخرين رنغو ستار وجورج هاريسون. وعلى رغم أن الأسماء الأربعة ارتبطت في ما بينها إلى أبد الآبدين، فالحقيقة أن رفقتهم لم تعمر طويلاً. ومهما يكن من أمر هنا فإن الفيلم يتجاوز ذلك كله ليركز على لينون عند بدايات خريف عام 1980 حين كان يتحرك كالعاصفة مع معاونيه وموسيقييه كي ينتهي في الموعد المضروب تماماً من إصدار سابع ألبوم له خارج شراكته مع "البيتلز"، وقد أضحى نجماً فرداً يصنف في مراتب متقدمة بين كبار مغني العالم (وصل في أحد الاستفتاءات إلى المرتبة السابعة على مدى تاريخ فن الغناء، وبقي بين الخمسين الأوائل على الدوام)، كما أنه كان يصنف في مراتب لا تقل عن ذلك تقدماً بوصفه عضواً في "البيتلز". وفي الفترة التي يتقصاها الفيلم كان لينون قد وضع اللمسات الأخيرة لذلك الألبوم السابع الذي لم يكن ليتصور أنه سيكون ألبومه الأخير، "فانتازيا مزدوجة". كان يتحرك في الاستوديو صارخاً غاضباً ملقياً فكاهات على طريقة أبناء الطبقة العاملة الإنجليزية في ليفربول ويطلب وجبات من السوشي له وللجميع.
كثير من المسرات
والحقيقة أن إنجاز الألبوم في وقت قياسي لم يكن وحده مصدر سرور لينون ورضاه، بل كانت المصادر كثيرة وكلها إيجابية بحسب ما راح يردد أمام كاميرا مايكل إبشتاين الذي كان يصور كل شاردة وواردة، أملاً في أن ينتهي من تحقيق الفيلم مع صدور الألبوم من دون أن يعرف لذلك تاريخاً محدداً. وسيكون التاريخ يوم 8 ديسمبر (كانون الأول) من العام نفسه 1980. ولسوف نعرف لماذا بعد سطور. أما قبل ذلك فلا بد لنا من معرفة شيء عن تلك الأمور الإيجابية التي كانت تثير فرح لينون عدا عن إحساسه بأن عمله على أغنيات الألبوم قد انتهى. فيوكو أونو كانت قد عادت إليه بعد خصام، وكانت قد أنجبت له ابنهما شون، وكان قد قرر أن يتجاوز فكرة نيويورك كمنفى ليجعل شون مواطناً حقيقياً فيها... وإلى ذلك كله كان واحد من مصادر فرحه إحساسه بأن أغنية "إيماجين" التي يضمها الألبوم السابع ستكون تحفته الخالدة، وهي تحمل من ناحية خلاصة فنه، ومن ناحية ثانية خلاصة فكره السياسي النضالي السلمي. كان كل شيء يفرحه في تلك اللحظات ويجعله يشعر بسعادة لم يكن ليشعر بمثلها في أية لحظة من لحظات حياته. ولم يكن يعرف أن القدر سيكون له بالمرصاد، وتحديداً ذلك القدر الذي لا يخبط إلا في ساعات نخالها ساعات السعادة المطلقة.
إعلان موت المغني
وهذا القدر سيخبط خبطته تحديداً يوم الثامن من ديسمبر أي بعد ثلاثة أسابيع من اللحظة التي خرج فيها الألبوم حاملاً بشائر انتصار فني كبير. ولسوف نرى على الفور العلاقة بين الألبوم وضربة القدر القاتلة. وهي علاقة تحمل اسم شخص كان نكرة تماماً حتى تلك اللحظة الحاسمة. شخص يدعى مارك ديفيد تشابمان لا يعرف إلا بكونه من معجبي فريق البيتلز قبل أن ينتقل إعجابه إلى جون لينون بمفرده ويطارده بإعجابه من مكان إلى مكان: يحضر التمارين في الاستوديو، ويداوم على حضور حفلات الفنان الكبير، ويحييه كلما رآه يتريض خارج مبنى داكوتا الذي كان لينون يقطن فيه إلى جوار سنترال بارك. كان يبدو شخصاً هادئاً لا يهتم إلا بالفن ويلقي التحية بنغمات هادئة، بل إن الفيلم سيقول لنا إن تشابمان كان من أول مشتري الألبوم الجديد وإنه التقى لينون في الاستوديو حين كان الفنان يصفي أعماله هناك بعد صدور الألبوم. ومن هنا حين اقترب تشابمان من الفنان إذ التقاه وكان هذا الأخير قد ترجل من سيارته الليموزين برفقة أونو، على مدخل عمارة داكوتا في نحو الحادية عشرة ليلاً وقد عاد لينون ورفيقته إلى بيتهما منهكين، لم يلق التحية هذه المرة. كل ما في الأمر أنه ومن دون إنذار راح يطلق النار على المغني: رصاصتان في الظهر ورصاصة في الكتف. خلال دقائق جرى نقل لينون إلى المستشفى وهو يصارع الموت. وفي الساعة الحادية عشرة والربع صدر بيان من قسم الطوارئ في مستشفى "روزفلت" يعلن موت المغني.
الحقيقة أن فيلم مايكل إبشتين الذي لم ينجز بالشكل الذي نعرفه به إلا في عام 2010، يتوقف بالنسبة إلى نهاية لينون عند ذلك البيان لأن الباقي معروف والحكاية جرى تداولها ألوف المرات ولم يعد يجهل أحد بقيتها. وبالنسبة إلى فيلم "لينون إن ي سي" بدا واضحاً أن ما بعد تلك النهاية لن يضيف شيئاً إلى الغاية التي توخيت من ذلك الفيلم، وبخاصة أن إبشتاين كان في اللحظات الأخيرة قد قرر أن يضيف عدداً من شهادات حميمية عن لينون لا تتناول الحادثة الأليمة نفسها بل تحكي عن ضحيتها بعيداً من الحكي عن جلاده. ومن هنا توجه إلى عدد من الذين عرفوا لينون عن قرب مثل السينمائي الطليعي المناضل جوناس ميكاس والمغني إلتون جون، والمصور بوب غروين... وبالطبع يوكو أونو التي بدت في شهادتها هنا عن رفيق دربها مؤثرة وكبيرة بأكثر مما سبق لها أن كانت في أي فيلم تحدث عنهما. والحقيقة أن تلك الشهادات من الداخل قد أعطت عن لينون نفسه صورة غير معهودة، فهو بدا هنا مليئاً بشتى أنواع التناقضات، مرحاً إلى أقصى درجات المرح.
الفن والإنسان
بدا فناناً حقيقياً لا يهتم في العالم سوى بفنه والتأثير الذي يمكن أن يكون لهذا الفن. بدا صاحب رسالة يغمرها بقدر كبير من ضروب الإبداع، لكنه بدا في الوقت نفسه مثالياً من الصعب أن يفهم حتى هو كيف ولدت مثاليته، كما بدا عاشقاً مولهاً لتلك الأنثى الصغيرة التي رافقته خلال السنوات الأخيرة من حياته ورتبت شؤونه بعد رحيله وقد تجاوزت كونه سقط مضرجاً بدمائه أمام عينيها لأسباب "لم أفهمها أبداً" كما قالت مضيفة "وعلى يد وبرصاص شخص كان يبدو لي في منتهى اللطف"، شخص "كنت أنظر إليه بوصفه ليس فقط واحداً من معجبي جون بل وكأنه واحد من حوارييه المشبعين بأفكاره ولا سيما أفكاره السلمية الإنسانية"، التي كثيراً ما عبر عنها جون لينون في أغانيه التي رفع بعضها إلى مستوى القانون الإنساني كـ"كل ما تحتاج إليه هو الحب" أو "إيماجين" اللتين وكل في زمانها استخدمت من عشرات ملايين الشبان شعاراً ضد الحروب وضد العنف وضد كل الشرور التي تعيشها البشرية.
البداية معروفة
طبعاً لا يعود بنا الفيلم إلى سنوات البداية التي نعرف جميعاً أن لينون قد لعب فيها فنياً دوراً رئيساً أحياناً وحده وفي أحيان أخرى برفقة شريكه في "البيتلز" بول ماكارتني، وفي أحيان نادرة شريكيهما الآخرين رنغو ستار وجورج هاريسون. وعلى رغم أن الأسماء الأربعة ارتبطت في ما بينها إلى أبد الآبدين، فالحقيقة أن رفقتهم لم تعمر طويلاً. ومهما يكن من أمر هنا فإن الفيلم يتجاوز ذلك كله ليركز على لينون عند بدايات خريف عام 1980 حين كان يتحرك كالعاصفة مع معاونيه وموسيقييه كي ينتهي في الموعد المضروب تماماً من إصدار سابع ألبوم له خارج شراكته مع "البيتلز"، وقد أضحى نجماً فرداً يصنف في مراتب متقدمة بين كبار مغني العالم (وصل في أحد الاستفتاءات إلى المرتبة السابعة على مدى تاريخ فن الغناء، وبقي بين الخمسين الأوائل على الدوام)، كما أنه كان يصنف في مراتب لا تقل عن ذلك تقدماً بوصفه عضواً في "البيتلز". وفي الفترة التي يتقصاها الفيلم كان لينون قد وضع اللمسات الأخيرة لذلك الألبوم السابع الذي لم يكن ليتصور أنه سيكون ألبومه الأخير، "فانتازيا مزدوجة". كان يتحرك في الاستوديو صارخاً غاضباً ملقياً فكاهات على طريقة أبناء الطبقة العاملة الإنجليزية في ليفربول ويطلب وجبات من السوشي له وللجميع.
كثير من المسرات
والحقيقة أن إنجاز الألبوم في وقت قياسي لم يكن وحده مصدر سرور لينون ورضاه، بل كانت المصادر كثيرة وكلها إيجابية بحسب ما راح يردد أمام كاميرا مايكل إبشتاين الذي كان يصور كل شاردة وواردة، أملاً في أن ينتهي من تحقيق الفيلم مع صدور الألبوم من دون أن يعرف لذلك تاريخاً محدداً. وسيكون التاريخ يوم 8 ديسمبر (كانون الأول) من العام نفسه 1980. ولسوف نعرف لماذا بعد سطور. أما قبل ذلك فلا بد لنا من معرفة شيء عن تلك الأمور الإيجابية التي كانت تثير فرح لينون عدا عن إحساسه بأن عمله على أغنيات الألبوم قد انتهى. فيوكو أونو كانت قد عادت إليه بعد خصام، وكانت قد أنجبت له ابنهما شون، وكان قد قرر أن يتجاوز فكرة نيويورك كمنفى ليجعل شون مواطناً حقيقياً فيها... وإلى ذلك كله كان واحد من مصادر فرحه إحساسه بأن أغنية "إيماجين" التي يضمها الألبوم السابع ستكون تحفته الخالدة، وهي تحمل من ناحية خلاصة فنه، ومن ناحية ثانية خلاصة فكره السياسي النضالي السلمي. كان كل شيء يفرحه في تلك اللحظات ويجعله يشعر بسعادة لم يكن ليشعر بمثلها في أية لحظة من لحظات حياته. ولم يكن يعرف أن القدر سيكون له بالمرصاد، وتحديداً ذلك القدر الذي لا يخبط إلا في ساعات نخالها ساعات السعادة المطلقة.
إعلان موت المغني
وهذا القدر سيخبط خبطته تحديداً يوم الثامن من ديسمبر أي بعد ثلاثة أسابيع من اللحظة التي خرج فيها الألبوم حاملاً بشائر انتصار فني كبير. ولسوف نرى على الفور العلاقة بين الألبوم وضربة القدر القاتلة. وهي علاقة تحمل اسم شخص كان نكرة تماماً حتى تلك اللحظة الحاسمة. شخص يدعى مارك ديفيد تشابمان لا يعرف إلا بكونه من معجبي فريق البيتلز قبل أن ينتقل إعجابه إلى جون لينون بمفرده ويطارده بإعجابه من مكان إلى مكان: يحضر التمارين في الاستوديو، ويداوم على حضور حفلات الفنان الكبير، ويحييه كلما رآه يتريض خارج مبنى داكوتا الذي كان لينون يقطن فيه إلى جوار سنترال بارك. كان يبدو شخصاً هادئاً لا يهتم إلا بالفن ويلقي التحية بنغمات هادئة، بل إن الفيلم سيقول لنا إن تشابمان كان من أول مشتري الألبوم الجديد وإنه التقى لينون في الاستوديو حين كان الفنان يصفي أعماله هناك بعد صدور الألبوم. ومن هنا حين اقترب تشابمان من الفنان إذ التقاه وكان هذا الأخير قد ترجل من سيارته الليموزين برفقة أونو، على مدخل عمارة داكوتا في نحو الحادية عشرة ليلاً وقد عاد لينون ورفيقته إلى بيتهما منهكين، لم يلق التحية هذه المرة. كل ما في الأمر أنه ومن دون إنذار راح يطلق النار على المغني: رصاصتان في الظهر ورصاصة في الكتف. خلال دقائق جرى نقل لينون إلى المستشفى وهو يصارع الموت. وفي الساعة الحادية عشرة والربع صدر بيان من قسم الطوارئ في مستشفى "روزفلت" يعلن موت المغني.
الحقيقة أن فيلم مايكل إبشتين الذي لم ينجز بالشكل الذي نعرفه به إلا في عام 2010، يتوقف بالنسبة إلى نهاية لينون عند ذلك البيان لأن الباقي معروف والحكاية جرى تداولها ألوف المرات ولم يعد يجهل أحد بقيتها. وبالنسبة إلى فيلم "لينون إن ي سي" بدا واضحاً أن ما بعد تلك النهاية لن يضيف شيئاً إلى الغاية التي توخيت من ذلك الفيلم، وبخاصة أن إبشتاين كان في اللحظات الأخيرة قد قرر أن يضيف عدداً من شهادات حميمية عن لينون لا تتناول الحادثة الأليمة نفسها بل تحكي عن ضحيتها بعيداً من الحكي عن جلاده. ومن هنا توجه إلى عدد من الذين عرفوا لينون عن قرب مثل السينمائي الطليعي المناضل جوناس ميكاس والمغني إلتون جون، والمصور بوب غروين... وبالطبع يوكو أونو التي بدت في شهادتها هنا عن رفيق دربها مؤثرة وكبيرة بأكثر مما سبق لها أن كانت في أي فيلم تحدث عنهما. والحقيقة أن تلك الشهادات من الداخل قد أعطت عن لينون نفسه صورة غير معهودة، فهو بدا هنا مليئاً بشتى أنواع التناقضات، مرحاً إلى أقصى درجات المرح.
الفن والإنسان
بدا فناناً حقيقياً لا يهتم في العالم سوى بفنه والتأثير الذي يمكن أن يكون لهذا الفن. بدا صاحب رسالة يغمرها بقدر كبير من ضروب الإبداع، لكنه بدا في الوقت نفسه مثالياً من الصعب أن يفهم حتى هو كيف ولدت مثاليته، كما بدا عاشقاً مولهاً لتلك الأنثى الصغيرة التي رافقته خلال السنوات الأخيرة من حياته ورتبت شؤونه بعد رحيله وقد تجاوزت كونه سقط مضرجاً بدمائه أمام عينيها لأسباب "لم أفهمها أبداً" كما قالت مضيفة "وعلى يد وبرصاص شخص كان يبدو لي في منتهى اللطف"، شخص "كنت أنظر إليه بوصفه ليس فقط واحداً من معجبي جون بل وكأنه واحد من حوارييه المشبعين بأفكاره ولا سيما أفكاره السلمية الإنسانية"، التي كثيراً ما عبر عنها جون لينون في أغانيه التي رفع بعضها إلى مستوى القانون الإنساني كـ"كل ما تحتاج إليه هو الحب" أو "إيماجين" اللتين وكل في زمانها استخدمت من عشرات ملايين الشبان شعاراً ضد الحروب وضد العنف وضد كل الشرور التي تعيشها البشرية.
نيسان ـ نشر في 2023-01-16 الساعة 18:48
رأي: إبراهيم العريس