اتصل بنا
 

'آلام يهوذا' تستعيد شخصية منبوذة احتفى بها الأدب

نيسان ـ نشر في 2023-01-20

x
نيسان ـ هل يصح التعامل مع "يهوذا" باعتباره شخصية تاريخية علماً أننا لم نعرفه إلا من الأناجيل؟ والأدق هو أنه شخصية دينية شهيرة، بوصفه أحد تلاميذ المسيح، وكان هذا كفيلاً بوضعه في مكانة مقدسة، لولا أن غالبية الروايات المسيحية تصمه بخيانة معلمه وتسليمه لسادة اليهود في أورشليم، الذين سلموه بدورهم للجنود الرومان فعذبوه وصلبوه. ومع ذلك قد يرى البعض أنه يمكن التعامل معه باعتباره شخصية تاريخية، في ظل الإيمان بالأناجيل باعتبارها مواثيق لأحداث وقعت في فترة زمنية محددة، بالتالي فإن أبطالها ليسوا شخصيات من نسج الخيال. وهنا، هل يجب على الروائي التزام ما أوردته النصوص الدينية عن تلك الشخصيات؟ بالطبع لا، وإلا فإنه لن يفعل أكثر من تكرار مضمون تلك النصوص، هذا ينطبق على "يهوذا" الذي حوله عدد من الكتاب إلى شخصية روائية، قد تصطدم بالمروي عنها دينياً، وقد تتعمق بالتخييل، فتصبح في بؤرة الأحداث، بسمات إنسانية قد يتعاطف معها البعض، وينفر منها البعض الآخر. ومن هنا يمكن للمرء أن ينطلق في قراءة رواية "آلام يهوذا" (دار المرايا – القاهرة) للكاتب المصري ماجد وهيب، التي يذكرنا عنوانها بالمتواتر عن فترة آلام المسيح، وتشمل العشاء الأخير، معاناة يسوع في الحديقة، واعتقال كهنة السنهدرين إياه، ومحاكمته أمام بيلاطس البنطي، ثم تعذيبه وصلبه، وتعرف تلك هذه الأحداث في الأناجيل الأربعة بـ"روايات الآلام". ويذكرنا العنوان بما ورد عن يهوذا نفسه في إطار تلك الأحداث: "يا يهوذا بقبلة تسلم ابن إنسان" (إنجيل لوقا 48-22)...
بين الأدب والأناجيل
تذكرنا رواية ماجد وهيب التي تقدم "يهوذا" بوصفه إنساناً يمكن التعاطف معه، ومع آلامه الناجمة من إنسانيته المتجلية في تشككه الذي يرقى إلى حد الهرطقة من زاوية نظر ما، بعدد لا بأس به من الأعمال الأدبية التي عالجت– ضمن أمور أخرى- علاقة المسيح بيهوذا، ومن أشهرها "التجربة الأخيرة للمسيح" لليوناني نيكوس كازنتزاكيس، وقد صدرت عام 1952، ورواية "قرية ظالمة" للمصري محمد كامل حسين وصدرت عام 1954 وترجمت إلى أكثر من 10 لغات، ورواية "يهوذا" لعاموس عوز، التي ترجمت حديثاً إلى العربية وصدرت عن دار الجمل، علماً أن نسختها العبرية حملت عنوان "إنجيل يهوذا" وصدرت عام 2014. وهناك أيضاً رواية الفرنسي أوبير برولونغو "قبلة يهوذا"، ورواية الروسي ليونيد أندرييف "يهوذا الأسخريوطي"، وقد ترجمتها رولا عادل إلى العربية وصدرت الترجمة عن دار "المحروسة" في القاهرة العام الماضي.


ولطالما شكلت شخصية "يهوذا"، حجر زاوية في تاريخ العلاقة الإشكالية بين الديانتين اليهودية والمسيحية، فكانت موضع خلاف وجدل بين الباحثين، لما يكتنفها من روايات متضاربة، عدها بعضهم تهديداً لصدقية الكتاب المقدس، كما دفعت بآخرين، كالباحث الإيرلندي سي. إس. لويس، للقول إن "ليس من الضروري أن تشير نصوص الكتاب المقدس إلى حقائق تاريخية". وذهب آخرون إلى القول إن الرواية المسيحية حول حادثة "العشاء الأخير"، وما تبعها من أحداث، إنما كانت "رواية رمزية فحسب". وبحسب الرواية المسيحية الشائعة، فإن شخصية يهوذا الإسخريوطي، "تعد رمزاً للغدر والخيانة"، مع أنه ندم على ما فعله بيسوع، فأعاد الفضة للكهنة، ثم شنق نفسه.
الفرار إلى مصر


قضى يهوذا، بحسب رواية ماجد وهيب، سنوات من طفولته في صحبة يسوع. كان ذلك في مصر وقت فرار أسرتيهما من الحاكم الروماني هيرودوس، بعد أن أمر بقتل الأطفال اليهود الذين يبلغ عمر الواحد منهم بين يوم وعامين. بعد العودة استقرت أسرة يسوع في بيت لحم، وأقامت أسرة يهوذا في قريوط. يسوع في رواية "آلام يهوذا" هو شخصية ثانوية، بمعنى أن ذكره يرد في مواضع قليلة من هذا العمل، الذي يحتل التخييل فيه مساحة معتبرة، مع المحافظة على قدسية يسوع التي لطالما شكك فيها يهوذا، بحكم طبيعته التي تنزع غالباً إلى درجة متطرفة من المثالية، خصوصاً في حلم يهوذ بعالم يخلو من الآلام وتسوده المحبة بين الجميع، لكنه سرعان ما يصطدم بأنّ لا أمل في أن يبلغ ما يتمناه، فيتفاقم شعوره بالألم، واللاجدوى، خصوصاً بعد صلب صديق طفولته ومعلمه. أم "يهوذا" لطالما عبرت عن قناعتها– في رواية ماجد وهيب- بأن ولدها سيكون له شأن عظيم في مملكة المسيح المنتظر. وحين أخذ الناس يتحدثون عن معجزات يسوع عرفت هذه المرأة أنه المسيح المنتظر وطلبت من ابنها أن يذهب إليه ويعرفه بنفسه، موقنة بأنه سيتذكره ويقربه.

ولكن بعد أن قابله وجد أنه لم يعطه شيئاً مما توقعه هو شخصياً متأثراً بقناعة أمه. سمع السيد يقول لبطرس: "أنت صخرتي، وعليك أبني كنيستي". تسلل الحقد إلى قلبه وتساءل في نفسه: "ما الذي عند بطرس وليس عندي؟". اختاره المسيح ليكون أميناً للصندوق، الذي يضع فيه التلاميذ ما تيسر مما يحصلون عليه من مال، "لكنه لم يفرح كثيراً بهذا الاختيار ورآه أقل مما يستحق" صـ 164.
آلام الشك
بحسب رواية ماجد وهيب: "ذات مرة لم يجد يهوذا ما يعطيه لأهله، فأخذ من صندوق النقود لنفسه من دون أن يخبر بقية التلاميذ... لم يفعل لخجله منهم". بعد أن شفي طفل من مرض كان يلزمه البيت، على يد المسيح، خرج ليلعب مع أقرانه ذات يوم، فغرق في بئر. حزن يهوذا وامتلأ بالحيرة والغضب، وصلى لله ليسأله: لماذا شفي يا رب إذاً؟ ليستمتع بالحياة أياماً ثم يموت؟ أحزنت والديه بمرضه طويلاً ثم أفرحتهما قليلاً بشفائه، وعدت لتحزنهما أكثر بموته. متى يا رب ينتهي البؤس والألم من حياة الناس؟". كان يسوع يردد "مملكتي ليست من هذا العالم"، فتسأل أم يهوذا: "وكيف سيخلصنا إذن إذا لم يملك؟". وبدوره يواصل ابنها حقده "أنا الوحيد الذي قابله وهو طفل صغير، ولدت في البلد الذي ولد فيه، أنا الوحيد الذي من اليهودية". ثم تزداد الحيرة حين يجد يهوذا أن يسوع لم يظهر رد فعل على مستوى حدث قطع رأس يوحنا المعمدان. كان يهوذا يتألم أيضاً من جراء عدم قناعته ببعض ما يؤمن به اليهود: "أنا لا أومن أننا شعب الله. أومن أن كل الشعوب هي شعوب الله، ولهذا أريد الخلاص للجميع". وهنا نلاحظ أن يسوع كان يؤمن بالأمر نفسه. ويؤكد أنه جاء لخلاص الجميع، وليس اليهود فحسب.
مصير أسطوري
تتوزع أحداث الرواية على 14 فصلاً، ويتولى سردها راو عليم، ما خلا مواضع قليلة أعطى فيها الكاتب زمام السرد إلى "يهوذا"، ليتحدث عن نفسه تارة بضمير المتكلم، وتارة بضمير الغائب... "آه لو أنني لم أكن ساخطاً على أحوال هذا العالم! كان من الممكن أن أعيش، لأني ما كنت سأسلم المسيح ولا كنت سأقول لك يا الله هذا الخلاص ناقص والعالم يحتاج أكثر". وهكذا يواجه "يهوذا" بحسب رواية ماجد وهيب مصيراً أشبه بمصائر أبطال الميثولوجيا الإغريقية، المقررة سلفاً من قبل قوى غيبية.
تقدم الرواية– بحسب ما أورده الناشر على ظهر غلافها الذي صممه أحمد اللباد- سيرة متخيلة ليهوذا الإسخريوطي الذي سلم المسيح بحسب ما ورد في الأناجيل، وتستعرض الأحداث قصة حياته منذ لحظة ميلاده حتى لحظة موته. ومن خلالها تعرض الرواية أفكارها وما تريد أن تناقشه من موضوعات وما تطرحه من أسئلة حول فكرة الإنسان عن الخلاص وعلاقته بالله.
تتفق الرواية مع المعلومات القليلة التي جاءت في الأناجيل عن يهوذا وهي أنه كان من تلاميذ المسيح وكان المسؤول عن صندوق أموالهم، فكان يسرق منه، واستنكر أن تُغسل قدم المسيح بعطر غالي الثمن، ثم خانه مقابل 30 من الفضة وقبله كعلامة للجنود ليقبضوا عليه ثم ندم ورمى الفضة وشنق نفسه.
على هذه المعلومات تبني الرواية من الخيال بقية الأحداث، لترسم في النهاية صورة متكاملة عن "يهوذا" وعن الأسباب التي جعلته يسلم المسيح وجعلته يشنق نفسه في النهاية، وتصور صراعاته الداخلية والخارجية.
وتهتم الرواية أيضاً برسم صورة واقعية عن أرض فسلطين في ذلك العصر، عن جغرافية المكان والخلفية التاريخية وحياة الناس الاجتماعية، وتقدم شخصيات متخيلة، منها الثانوية ومنها الرئيسة، تؤثر في يهوذا ويؤثر فيها، وتقدم إلى جوارها شخصيات أخرى حقيقية، من أهمها شخصية المسيح نفسه. وتحافظ الرواية على تقديم المسيح كما جاء في الأناجيل، وما تتخيله له من أفعال وحوارات جاء يوافق شخصيته، بحسب ما قدمتها الأناجيل.

علي عطا/ اندبندنت

نيسان ـ نشر في 2023-01-20

الكلمات الأكثر بحثاً