اتصل بنا
 

صرخة ديفيد غروسمان: الوطن يحترق

نيسان ـ نشر في 2023-01-23 الساعة 07:34

نيسان ـ الوطن في العنوان أعلاه إسرائيل، وديفيد غروسمان (68 عاما) من أبرز أدبائها وكتّابها، ومن أشهر مثقّفيها الراهنين. كان من بين مائة ألف إسرائيلي في تظاهرة مساء السبت الماضي ضد "الحكومة غير الديمقراطية"، كما وصف مشاركون فيها، وهي الثانية في أسبوع من حيث اتّساعها، الحكومة المعلنة أخيرا برئاسة نتنياهو. وإلى أعدادٍ محدودةٍ بين هؤلاء يعارضون احتلال الأراضي الفلسطينية الذي جرى في 1967، فإن أغلب المتظاهرين احتشدوا للاحتجاج على ما يُقلقهم في هذه الحكومة التي يغلب عليها التشدّد الديني المحافظ، والعنصرية وشهوة الاستحواذ والتعصّب، وإلى هؤلاء الأكثرية وأولئك الأقلية، ثمّة ساخطون في أحزابٍ لم تُحرز مقاعد في الكنيست في انتخابات نوفمبر/ تشرين الثاني الماضية، تمكّنها من الوجود في السلطة. وهذا رئيس الحكومة السابق، السيناريست والسينمائي، يئير لبيد، يستعرض مواهبه في الخطابة والتحشيد والتعبئة، ويبدو في حال الزعيم في التظاهرتين الكبيرتين، ويسوّق ادّعاءاته عن نفسه ديمقراطيا، وهو الذي أطلق أيدي المستوطنين وعصاباتهم. والبادي في نشاطه الاحتجاجي، مع أمثاله، أنه يستثمر غضبا ومخاوف لدى إسرائيليين غير قليلين يستشعرون مخاطر على قيمٍ ليبراليةٍ يستمزجونها.
ديفيد غروسمان صوتٌ ثقافي عالٍ في الدفاع عمّا سمّاها مرّة "القيم اليهودية الكونية"، والتي طالما شدّد على أن تحافظ إسرائيل على هذه القيم التي تتناقض مع جرعات العنف الشديدة ضد الفلسطينيين، غير أن منطوقَه هذا لا يذهب به إلى موقفٍ واضحٍ ومعلنٍ ضد الاحتلال نفسه، وإلى مناهضةٍ شجاعةٍ ضد الاستيطان. وصدورا عن مزاجٍ ليبراليٍ يعلي من قيم الحريّات الفردية، يرى صاحب "الزمن الأصفر" أن إسرائيل دخلت في "زمنٍ أسود"، مع حكومة نتنياهو الراهنة، الأمر الذي يوجِب على كل إسرائيلي أن يقوم ويصرخ بكل صوته. بل إنه يرى أن "الوطن يحترق"، فدولة إسرائيل، بحسبِه، تواجِه، في عامها الخامس والسبعين، "نضالا مصيريا على طابعها الديمقراطي". وبهذا، يقيم الكاتب الإسرائيلي الناشط، والحاضر في غير شأنٍ وموضوع، على وفائه لإسرائيل المتخيّلة في مداركه، يريدها قوية ذات أخلاق، وبفسادٍ أقل. ولذلك يغضبه أن يقتل الجيشُ والد الطفلة الفلسطينية هدى غالية وأشقاءها، في غزّة في عدوان العام 2006، ويرى هذا فعلا معيبا للصهونية. غير أن هذا "الشعور" الإنسانوي لا يأخذ صاحبَه إلى ما هو أبعد من مساحته. وهذا بالضبط ما قد يُسعف في تبيّن مواطن حنقِه الشديد على حكومة بن غفير وسيموطريش، وأمثالهما (ودرعي قبل إزاحته)، برئاسة نتنياهو. إنه يكتب "الآن هو الوقت الذي نؤكّد فيه من نحن حقّا، ونوع المستقبل الذي نريد توريثه لأطفالنا".
إنها المنطقة المتعلقة بالحريات الشخصية، وبالأنفاس الليبرالية العامة، بالحدود التي لا يُغادر فيها المثقف الصهيوني خوفا فيه على "الوطن" اليهودي، وهو خوفٌ متوطّن، وعميقٌ، ينسحب بالضرورة على الخوف من الفلسطيني عندما يطالب بحقوقه، وأولها التحرّر من الاحتلال، من تحكّم "دولة إسرائيل"، التي يزهو بها غروسمان، في عيشه ومقامه وأمنه وأمانه. وكذا الخوف من الفلسطيني اللاجئ الذي يطالب بحقّه في العودة إلى أرضه. هذه كوابيس تستبدّ بالكاتب القلق، وإنْ صاح مرّة، في تظاهرةٍ سابقةٍ، بحقّ الفلسطيني في أن يكون له بيت، كما حقّ الإسرائيلي في أن يكون له بيت. ومع نزوع الرجل إلى نبذ الحروب، إلا أنه لا ينفي ضرورَتها، بشرط أن تتّصف بأخلاقياتٍ يهودية، لكبح حركة حماس عن قتل الإسرائيليين، كما كتب غير مرّة. ومعلومٌ إن ديفيد غروسمان تحمّس للحرب العدوانية، التدميرية، على لبنان، في صيف 2006، ثم بعد قتل ابنه، الضابط المحارب فيها، دعا إلى وقفها.
تلحّ على من يحدّق في مشهد حشود الإسرائيليين المتظاهرين ضد النسخة الأكثر عنصريةً وتطرّفا من حكومات إسرائيل، برئاسة نتنياهو، وديفيد غروسمان وسط هؤلاء المحتجّين، البديهية التي يتعمّدون نسيانها، أو التعامي عنها، وموجزُها أن عصابة الفاشيين والفاسدين في الحكومة التي يناهضونها هي نتاج مسارٍ من التطرّف والغطرسة وممالأة النزوعات والقوى الدينية ذات الأفكار المتعالية والعنصرية، والمحافظة اجتماعيا، مسارٍ مثلته حكومات سابقة برئاسة نتنياهو ولبيد وبينت وإسحق رابين وإسحق شامير ومناحيم بيغن وأسلافهم .. كان أولئك الزُّعران يزاولون أنشطتهم ويلقون الحماية والدعم السياسي والمالي، ثم صاروا نوابا، وها هم وزراء.
هل يعرف ديفيد غروسمان أن ما يسمّيه وطنا له بدأ يحترق (مع الشّطط في التعبير) منذ زمن، أم إنه يتذاكى ويتشاطر؟العربي الجديد

نيسان ـ نشر في 2023-01-23 الساعة 07:34


رأي: معن البياري

الكلمات الأكثر بحثاً