لماذا تخشى إسرائيل جنين؟
لميس أندوني
كاتبة وصحفية
نيسان ـ نشر في 2023-01-29 الساعة 08:31
نيسان ـ لم تكن المجزرة الوحشية التي ارتكبها الاحتلال الصهيوني في جنين وليدة الساعة، وسوف تتبعها مجازر، بتخطيط مسبق وبعلم الإدارة الأميركية، بهدف التخلص من "كتيبة جنين"، أفرادا ونموذجا، في أسرع وقت ممكن، والدور الآتي هو محاولة تصفية قادة "عرين الأسود". وهذا ليس كلاما إنشائيا ولا نبوءة عرّافة، وإنما يستند إلى متابعة تحرّكات وزير جيش الاحتلال السابق، بني غانتس، وتصريحاته، وإن كانت حكومة أقصى اليمين الصهيونية الحالية تفوقه شراسة وسرعة في حسم القرارات. إذ كان غانتس، إبّان توليه موقعه، يتشاور مع الإدارة الأميركية، وأحيانا يتجاوب مع نصحها بالتأجيل والتروّي، أو بالتدرّج في تنفيذ الخطط. ولكنه كان أول من أعلن، في محاضرة له في واشنطن في الثاني من إبريل/ نيسان الماضي، أن جنين أصبحت تهديدا خطيرا لإسرائيل، وأن التعامل معها أولوية استراتيجية في الدفاع عن أمن اسرائيل، وتلت المحاضرة لقاءات مع الإدارة الأميركية ومستشار الأمن القومي جاك سوليفان، تحت شعار "زيادة التعاون الأمني"، بعد أن صوّر جنين كأنها دولة تمتلك ترسانة أسلحة نووية.
لم يكن حديث غانتس شخصيا، وإنما في محاضرة بعنوان "التحدّيات التي تواجه إسرائيل". وكان محقّا في توصيفه؛ فالدولة الصهيونية كانت تخشى دائما بؤر المقاومة التي تصبح نواة تلحقها مدن أخرى، بل والشعب الفلسطيني، وتخشى أيضا من ظهور قيادات ثورية وشعبية، وتسعى إلى تصفيتها، فتاريخ الدولة الصهيونية هو أيضا تاريخ اغتيالات للقيادات الفلسطينية، أو إبعادها عن وطنها، وفي حالة جنين: منع المدينة وكتيبة جنين من أن تصبحا نموذجا للمقاومة الفلسطينية.
ترتعب الاستراتيجية الصهيونية من نموذج مقاوم لديه حاضنة شعبية، مدينة كانت أو مخيما أو حتى بلدا بأكمله، فكتيبة جنين ولدت ونمت وسط حاضنة شعبية، والحاضنة الشعبية، كما كتب ماو تسي تونغ، هي "ضمانة استمرار النضال"، وشرح ذلك في قوله إن "على المقاتلين التحرّك بين الناس والسباحة في الماء كما تسبح السمكة في البحر، فبدون الماء يموت السمك، وبدون الجماهير تفقد الثورات حاضنتها وحمايتها".
خوف الصهاينة من النموذج لا يقتصر على الخشية من المقاومة المسلحة، فالرعب في الأساس هو من استمرار أجيال تقاوم ولم تنس، ولا ترضى بالتخلي عن حقوقها
خوف الصهاينة من النموذج لا يقتصر على الخشية من المقاومة المسلحة، فالرعب في الأساس هو من استمرار أجيال تقاوم ولم تنس، ولا ترضى بالتخلي عن حقوقها، لذلك؛ كان رد الاحتلال الصهيوني قاسيا على تمرّد بيت ساحور السلمي خلال سنوات الانتفاضة الأولى، فبمجرّد أن رفض أهل بيت ساحور، القريبة من بيت لحم، دفع الضرائب للاحتلال، حاصر البلدة الصغيرة، ومنع الأدوية والأدوات الطبية عنها وقطع الكهرباء، فلجأ أهالي البلدة إلى الأقبية وحوّلوها مراكز إسعاف ومستشفيات ميدانية. صمدت بيت ساحور، لكن الاحتلال كان يخشى من المدن القريبة أن تساندها، فقمع البلدة حتى لا ينتشر نموذج بيت ساحور.
في بيت ساحور، لم تكن هناك فجوة بين الحاضنة وقيادة العصيان المدني. وفي جنين، وجود الحاضنة يعني نمو بؤرة ثورية واتساعها، متمدّدة جغرافياً وشعبياً، واستشعار بني غانتس الخطر من جنين يأتي، في جزء كبير منه، من أن الدولة الصهيونية اعتقدت أنها أنهت المقاومة بعد اجتياح مخيم جنين عام 2002، لكن جيلا جديدا نما ولم ينس وأكمل سيرة مقاومة جنين، وعادت المقاومة على شكل "كتيبة جنين". وبالفعل امتدت، وبرز "عرين الأسود" في نابلس ليعلن فشل سياسة "الرفاه الاقتصادي" أو ما يسمّى "السلام الاقتصادي"، التي تبجّح قادة إسرائيليون بنجاحها في نابلس، متناسين أو ناسين أن نابلس هي "جبل النار" الذي لا ينطفئ.
بعد عمليات المقاومة انقلبت اللهجة الأميركية على الفور من المناشدة "بالتهدئة ووقف التصعيد" إلى "إدانة العنف الفلسطيني"
وفيما كان غانتس يتحدّث باسم المؤسسة الإسرائيلية عن خطر جنين، برزت بؤرة مقاومة في نابلس، ولما اعتقدت حكومة أقصى اليمين الجديدة أنها ستنجح حيث فشل غانتس، فارتكبت مجزرة جنين، لتردّ عليها القدس بعملية مدّدت مساحة المقاومة المسلحة، بغضّ النظر عن نوع العملية التي وسّعت المقاومة خارج إطار جنين ونابلس إلى قلب القدس.
وانقلبت اللهجة الأميركية على الفور من المناشدة "بالتهدئة ووقف التصعيد" إلى "إدانة العنف الفلسطيني"، وما تعنيه واشنطن بمصطلحي "التهدئة ووقف التصعيد" هو الإيحاء بأن هناك قوتين تتصارعان، وتطلب التهدئة من كليهما، للتغطية على العلاقة الحقيقية بين نظام استعماري استيطاني تزوّده واشنطن بأحدث الأسلحة، وشعب يدافع عن نفسه ووجوده وهويته ويمارس حقه المشروع بالمقاومة. والهدوء في عرف اللهجة السياسية الأميركية ومعظم الصحافة الغربية يعني راحة الإسرائيليين وأمنهم وأمانهم، فحياة الفلسطينيين، وفقا لهذا المنطق، ليست لها قيمة حياة الإسرائيلي وأمنه وأمانه، فالإدارة الأميركية وإسرائيل تتشاركان في محاولة "اجتثاث الفعل المقاوم"، وإن كانت واشنطن تفضّل القضاء على بؤر المقاومة بدون لفت انتباه الرأي العام العالمي، لأنها تعتقد أن استهداف المقاومين أمر مشروع، ولكن مع محاولة تجنّب "المدنيين" في العمليات العسكرية الإسرائيلية، لفصل الشعب الفلسطيني عن مقاومته وبث الرعب بين أفراده، وأخطر شيء أن تنجح أميركا وإسرائيل بتبرير اغتيال المقاومين كفئة منفصلة عن الشعب الفلسطيني، ويتجاهل العالم أن المقاوم هو إنسان فلسطيني يمارس حقّه المشروع في مقاومة الاحتلال.
ترتعب الاستراتيجية الصهيونية من نموذج مقاوم لديه حاضنة شعبية، مدينة كانت أو مخيماً أو حتى بلداً بأكمله
تتجه إسرائيل، في المشهد الحالي، إلى فرض الثمن على أهل غزة، باسم "مكافحة إرهاب حماس"، وهي تعرف تماما أنّ "حماس" مقيدة ليس بشروط اتفاقات التهدئة فحسب، بل وبنقص العتاد والأسلحة بعد أن أنهكتها سلسلة حروب إسرائيلية متوالية على غزّة، وما ألحقته بالبنية التحتية في القطاع من تدمير.
لست في معرض نقاش توقيت الكفاح المسلح، وما إذا كان استراتيجية خاطئة أو صائبة في هذه المرحلة، وإنما المقصد هو الإشارة والتنبيه إلى أن حكومة أقصى اليمين تريد فرض واقع على الأميركيين، وإن كانوا حلفاءها، أن عهد التظاهر بأن هناك أراضيَ محتلة وقانونا دوليا وحل دولتين ووصاية هاشمية على القدس قد ولّى، وإذا تخلّصت من بؤرة المقاومة وأثبتت فشل السلطة الفلسطينية في "الحفاظ على أمن اسرائيل"، فلا حلّ سوى فرض شروطها وتنفيذ شعارات قادتها بأن ليست هناك أرض محتلة، وإنما كلها أرض "الشعب اليهودي الموعودة، بأمر من السماء". ولذا، إن كانت أميركا تروج لتسليم الملف الأمني الفلسطيني في الضفة الغربية إلى الدولة الأردنية، فبالنسبة للحكومة الصهيونية: لا حكم إلا حكمها، ولا سيطرة أمنية إلا سيطرتها. وترويج المقترح الأميركي لا يخدم الأردن أو فلسطين، فهو ليس إلا خدعة يتبنّاها المستسلمون من كتّاب وسياسيين، تكاد تصل إلى تواطؤ ضد الشعبين الفلسطيني والأردني، وتهدّد مصلحة الدولة الأردنية نفسها. لكن أملنا في صمود الشعب الفلسطيني ورفض الشعب الأردني والشعوب العربية التطبيع مع العدو والمشاركة في حصار شعب محقّ في مقاومته ومؤمن بحقوقه وعدالة قضيته وتاريخ وطنه ونضاله. العربي الجديد
لم يكن حديث غانتس شخصيا، وإنما في محاضرة بعنوان "التحدّيات التي تواجه إسرائيل". وكان محقّا في توصيفه؛ فالدولة الصهيونية كانت تخشى دائما بؤر المقاومة التي تصبح نواة تلحقها مدن أخرى، بل والشعب الفلسطيني، وتخشى أيضا من ظهور قيادات ثورية وشعبية، وتسعى إلى تصفيتها، فتاريخ الدولة الصهيونية هو أيضا تاريخ اغتيالات للقيادات الفلسطينية، أو إبعادها عن وطنها، وفي حالة جنين: منع المدينة وكتيبة جنين من أن تصبحا نموذجا للمقاومة الفلسطينية.
ترتعب الاستراتيجية الصهيونية من نموذج مقاوم لديه حاضنة شعبية، مدينة كانت أو مخيما أو حتى بلدا بأكمله، فكتيبة جنين ولدت ونمت وسط حاضنة شعبية، والحاضنة الشعبية، كما كتب ماو تسي تونغ، هي "ضمانة استمرار النضال"، وشرح ذلك في قوله إن "على المقاتلين التحرّك بين الناس والسباحة في الماء كما تسبح السمكة في البحر، فبدون الماء يموت السمك، وبدون الجماهير تفقد الثورات حاضنتها وحمايتها".
خوف الصهاينة من النموذج لا يقتصر على الخشية من المقاومة المسلحة، فالرعب في الأساس هو من استمرار أجيال تقاوم ولم تنس، ولا ترضى بالتخلي عن حقوقها
خوف الصهاينة من النموذج لا يقتصر على الخشية من المقاومة المسلحة، فالرعب في الأساس هو من استمرار أجيال تقاوم ولم تنس، ولا ترضى بالتخلي عن حقوقها، لذلك؛ كان رد الاحتلال الصهيوني قاسيا على تمرّد بيت ساحور السلمي خلال سنوات الانتفاضة الأولى، فبمجرّد أن رفض أهل بيت ساحور، القريبة من بيت لحم، دفع الضرائب للاحتلال، حاصر البلدة الصغيرة، ومنع الأدوية والأدوات الطبية عنها وقطع الكهرباء، فلجأ أهالي البلدة إلى الأقبية وحوّلوها مراكز إسعاف ومستشفيات ميدانية. صمدت بيت ساحور، لكن الاحتلال كان يخشى من المدن القريبة أن تساندها، فقمع البلدة حتى لا ينتشر نموذج بيت ساحور.
في بيت ساحور، لم تكن هناك فجوة بين الحاضنة وقيادة العصيان المدني. وفي جنين، وجود الحاضنة يعني نمو بؤرة ثورية واتساعها، متمدّدة جغرافياً وشعبياً، واستشعار بني غانتس الخطر من جنين يأتي، في جزء كبير منه، من أن الدولة الصهيونية اعتقدت أنها أنهت المقاومة بعد اجتياح مخيم جنين عام 2002، لكن جيلا جديدا نما ولم ينس وأكمل سيرة مقاومة جنين، وعادت المقاومة على شكل "كتيبة جنين". وبالفعل امتدت، وبرز "عرين الأسود" في نابلس ليعلن فشل سياسة "الرفاه الاقتصادي" أو ما يسمّى "السلام الاقتصادي"، التي تبجّح قادة إسرائيليون بنجاحها في نابلس، متناسين أو ناسين أن نابلس هي "جبل النار" الذي لا ينطفئ.
بعد عمليات المقاومة انقلبت اللهجة الأميركية على الفور من المناشدة "بالتهدئة ووقف التصعيد" إلى "إدانة العنف الفلسطيني"
وفيما كان غانتس يتحدّث باسم المؤسسة الإسرائيلية عن خطر جنين، برزت بؤرة مقاومة في نابلس، ولما اعتقدت حكومة أقصى اليمين الجديدة أنها ستنجح حيث فشل غانتس، فارتكبت مجزرة جنين، لتردّ عليها القدس بعملية مدّدت مساحة المقاومة المسلحة، بغضّ النظر عن نوع العملية التي وسّعت المقاومة خارج إطار جنين ونابلس إلى قلب القدس.
وانقلبت اللهجة الأميركية على الفور من المناشدة "بالتهدئة ووقف التصعيد" إلى "إدانة العنف الفلسطيني"، وما تعنيه واشنطن بمصطلحي "التهدئة ووقف التصعيد" هو الإيحاء بأن هناك قوتين تتصارعان، وتطلب التهدئة من كليهما، للتغطية على العلاقة الحقيقية بين نظام استعماري استيطاني تزوّده واشنطن بأحدث الأسلحة، وشعب يدافع عن نفسه ووجوده وهويته ويمارس حقه المشروع بالمقاومة. والهدوء في عرف اللهجة السياسية الأميركية ومعظم الصحافة الغربية يعني راحة الإسرائيليين وأمنهم وأمانهم، فحياة الفلسطينيين، وفقا لهذا المنطق، ليست لها قيمة حياة الإسرائيلي وأمنه وأمانه، فالإدارة الأميركية وإسرائيل تتشاركان في محاولة "اجتثاث الفعل المقاوم"، وإن كانت واشنطن تفضّل القضاء على بؤر المقاومة بدون لفت انتباه الرأي العام العالمي، لأنها تعتقد أن استهداف المقاومين أمر مشروع، ولكن مع محاولة تجنّب "المدنيين" في العمليات العسكرية الإسرائيلية، لفصل الشعب الفلسطيني عن مقاومته وبث الرعب بين أفراده، وأخطر شيء أن تنجح أميركا وإسرائيل بتبرير اغتيال المقاومين كفئة منفصلة عن الشعب الفلسطيني، ويتجاهل العالم أن المقاوم هو إنسان فلسطيني يمارس حقّه المشروع في مقاومة الاحتلال.
ترتعب الاستراتيجية الصهيونية من نموذج مقاوم لديه حاضنة شعبية، مدينة كانت أو مخيماً أو حتى بلداً بأكمله
تتجه إسرائيل، في المشهد الحالي، إلى فرض الثمن على أهل غزة، باسم "مكافحة إرهاب حماس"، وهي تعرف تماما أنّ "حماس" مقيدة ليس بشروط اتفاقات التهدئة فحسب، بل وبنقص العتاد والأسلحة بعد أن أنهكتها سلسلة حروب إسرائيلية متوالية على غزّة، وما ألحقته بالبنية التحتية في القطاع من تدمير.
لست في معرض نقاش توقيت الكفاح المسلح، وما إذا كان استراتيجية خاطئة أو صائبة في هذه المرحلة، وإنما المقصد هو الإشارة والتنبيه إلى أن حكومة أقصى اليمين تريد فرض واقع على الأميركيين، وإن كانوا حلفاءها، أن عهد التظاهر بأن هناك أراضيَ محتلة وقانونا دوليا وحل دولتين ووصاية هاشمية على القدس قد ولّى، وإذا تخلّصت من بؤرة المقاومة وأثبتت فشل السلطة الفلسطينية في "الحفاظ على أمن اسرائيل"، فلا حلّ سوى فرض شروطها وتنفيذ شعارات قادتها بأن ليست هناك أرض محتلة، وإنما كلها أرض "الشعب اليهودي الموعودة، بأمر من السماء". ولذا، إن كانت أميركا تروج لتسليم الملف الأمني الفلسطيني في الضفة الغربية إلى الدولة الأردنية، فبالنسبة للحكومة الصهيونية: لا حكم إلا حكمها، ولا سيطرة أمنية إلا سيطرتها. وترويج المقترح الأميركي لا يخدم الأردن أو فلسطين، فهو ليس إلا خدعة يتبنّاها المستسلمون من كتّاب وسياسيين، تكاد تصل إلى تواطؤ ضد الشعبين الفلسطيني والأردني، وتهدّد مصلحة الدولة الأردنية نفسها. لكن أملنا في صمود الشعب الفلسطيني ورفض الشعب الأردني والشعوب العربية التطبيع مع العدو والمشاركة في حصار شعب محقّ في مقاومته ومؤمن بحقوقه وعدالة قضيته وتاريخ وطنه ونضاله. العربي الجديد
نيسان ـ نشر في 2023-01-29 الساعة 08:31
رأي: لميس أندوني كاتبة وصحفية