اتصل بنا
 

شيخوخة منتدى دافوس وانتهاء زمن صلاحيته

نيسان ـ نشر في 2023-02-03 الساعة 07:55

x
نيسان ـ بريق نجم منتدى دافوس بدأ يخبو هكذا توقع مساعد رئيس صحيفة اندبندنت عربية شون أوغرايدي، حيث أورد في مقالة له الأسباب التي من شأنها المساهمة في هذا التراجع
يتساءل الكاتب ماذا علينا أن نفعل بخصوص دافوس؟ هناك بعض الأسباب التي تدفع إلى الاعتقاد أن المهرجان السنوي الحافل لـ"المنتدى الاقتصادي العالمي" العظيم، الذي تستضيفه جبال الألب، قد خدم الأسباب التي كان ينعقد من أجلها، و"الرجل الدافوسي" Davos Man، وهي عبارة اخترعت قبل عقدين من الزمن تقريباً، بات اليوم، إن لم يكن يقترب من خطر الفناء، فإنه لم يعد بحجم قوة التأثير التي امتلكها في الماضي، إذ لوحظ بوضوح تام خلال منتدى هذا العام، أنه لم يكن هناك أي مؤشر على وجود الرئيس الأميركي جو بايدن، أو الرئيس الصيني شي جينبينغ، أو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فيما لم يحضر وجاهياً سوى واحد من زعماء دول مجموعة السبع الاقتصادية "جي 07" (هو المستشار الألماني أولاف شولتز).
يتابع أوغرايدي قوله : أنه وخلال منتدى هذا العام، ألقى رئيس الوزراء الاشتراكي الإسباني بيدرو سانشيز، خطاباً تضمن نوعاً من الانتقاد [للمنتدى] بشكل مبطن. وألقت كلمة حفل افتتاح المنتدى رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، وهو أمر لم يكن من الصعب جداً حجز ذلك الظهور لمصلحتها. كذلك تنقل غوتام أضاني، رئيس "مجموعة أضاني" الهندية، والرجل الثالث الأغنى في العالم، بين حفلات الكوكتيل المختلفة واجتماعات موائد الغداء المخصصة للأعمال.
في المقابل، شغل حيز المشاهير النجم السينمائي إدريس ألبا، وجاريد كوشنير، وملكة هولندا ماكسيما. ولكن، يجب ألا ننسى حضور هنري كيسنجر (عبر الاتصال بالفيديو، إذ أصبح في عمر التاسعة والتسعين)، ورئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، ومؤسس مايكروسوفت بيل غيتس كانا حاضرين وجاهياً أيضاً، فهما لطالما كانا من بين حضور المنتدى المعتادين، وكذلك فلطالما امتلكا ما هو مهم [من الآراء والطروحات].
بالنسبة إلى الجمهور البريطاني، ظهر اهتمام في شأن ما فعله رئيس الوزراء السابق بوريس جونسون في دافوس (والجواب: المحافظة على بقاء صورته في حيز التداول الإعلامي فيما هو يبحث عن فرص لإلقاء الخطابات، وأيضاً بحثاً عن أي وظيفة استشارية خفيفة). كذلك ألقى السير كير ستارمر زعيم حزب العمال البريطاني، خطاباً عن أوروبا.
وفي سياق متصل، غصت فنادق دافوس ومنحدرات التزلج فيه بالمشاركين هذا العام. كذلك امتلأت شوارع المنطقة بالسيارات الفارهة ونحو ثلاثة آلاف ممثل لجهات مختلفة من ضمنها وسائل الإعلام. ويجب ألا ننسى أيضاً أن عدداً من كبار الأغنياء دأبوا على الحضور في أروقة المنتدى. ويرجع ذلك إلى أنه في كل سنة، على مدى أيام عدة، تتحول تلك المدينة السويسرية الصغيرة إلى مكان لتجمع أكبر ثروة في الكون، لنقل إنها تبلغ نحو نصف تريليون دولار أميركي. وهذا ما أسميه "رفع المستوى" levelling up. الكثير من الثروة، نعم، ولكن ماذا عن السلطة؟ يبدو أن زمن الأيام المجيدة لدافوس قد ولى.
إن وصف "الرجل الدافوسي"، وإطلاقه على الأقوياء والأكثر غنى الذين يحضرون فعاليات دافوس في منتجع التزلج المعروف الذي لطالما بدا هادئاً ومزدهراً، اخترعه الأكاديمي الأميركي المثير للجدل سامويل ب. هانتنغتون. في عام 2004، ذكر هانتنغتون بازدراء أن "الرجل الدافوسي لديه القليل من الحاجة إلى الولاء الوطني. ويرى الحدود الوطنية كعائق في طور الاختفاء من حسن الحظ. ويرى الحكومات الوطنية بقايا من ماض تمثلت الغاية الوحيدة من إنشائها [أي الحكومات] هي تسهيل عمليات النخبة العالمية".
إنه كلام موزون، وأقل حدة من الأفكار الأخرى التي ارتبطت بهانتنغتون على غرار "صراع الحضارات" (والذي كان من المفترض أن ينتهي بحرب بين الغرب والعالم الإسلامي). في ذلك الوقت، تزامنت هجمات هانتنغتون على المنتدى الاقتصادي العالمي، مع زمن تحول دافوس إلى كونها أبرز المناسبات التي يحرص كثيرون على البروز من خلالها أمام "الزعامة الكونية". وتتكون تلك الزعامة من مزيج واعد من الرؤساء التنفيذيين لكبرى الشركات، والأكاديميين، وخصوصاً خبراء الاقتصاد، والسياسيين والعاملين في معاهد الفكر، ورؤساء المؤسسات الإنسانية، وكبار الموظفين الحكوميين، وكبار مسؤولي المصارف المركزية، والمحامين، وعدد قليل من أصحاب الثروات التي تقدر بالمليارات، وممثلين عن عالم المشاهير، وأفراد الأسر الملكية، والفائزين بجوائز نوبل.
ما زال وزير الخارجية الأميركي السابق كيسنجر ملتزماً الحضور، إذ دأب على حضور أعمال المنتدى منذ سبعينيات القرن العشرين، على رغم أن الفنان الموسيقي بونو [مؤسس فرقة "يو 2" الشهيرة]، كان يستقطب الاهتمام الأكبر.
في منحى متصل، لطالما كان منتدى دافوس، ولا يزال، مهيمناً عليه من قبل الأميركيين، يليهم الأوروبيون، لكن الحضور لممثلين من الدول الصاعدة اقتصادياً كالدول الخليجية، ودول مجموعة "بريكس" BRIC (المكونة من البرازيل، وروسيا، والهند، والصين) شرعوا في فرض تأثيرهم في مجريات وأعمال مركز المؤتمرات والسهرات في الفنادق المحيطة به (اليابان مثلاً وعلى رغم قوتها الصناعية فلم يمثلها أبداً أي شخص رفيع المستوى).
حتى عام 2000، طغى على اجتماعات "المنتدى الاقتصادي العالمي" حضور الذكور، بالتالي كان تعبير "رجل دافوس"، الوصف الدقيق للحاضرين، لكن المنتدى تبدل فصار اجتماعاً مبهراً، يملك مروحة حضور أوسع تمثيلاً. وكذلك صار نوعاً من المؤتمرات التي يحضرها مؤيدو العولمة، مع حضور مكون ممن يعتقدون أن الصين والهند، من خلال انفتاحهما على الاقتصاد العالمي، سيتاح لهما انتشال الملايين من الفقر، بالتالي فمن شأن ذلك أن يزيد حجم التجارة العالمية، ويقدم منتجات أرخص للمستهلكين الغربيين، بل جعل كل شخص أفضل حالاً على المستوى المادي، من دون أن يعني ذلك وجود من يدفع الثمن. وبدا أن ذلك إحساس جيد، والتطورات التي تتالت أثبتت صدقية طروحاتهم. ومن شأن ذلك أن يصح لو أن الاقتصاد العالمي ينمو بوتيرة مرتفعة جداً حالياً.
في ذلك الوقت، في بداية حقبة الألفية الجديدة، بدت وتيرة العولمة ووعودها في أعلى مستوياتها. ونظر إليها على أنها أمر جيد وخال من أي شوائب، وأكثر من ذلك أنها تمثل تطوراً لا بد منه. إن دعاة انتهاج الطريق الثالث، من أمثال الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون، ورئيس الحكومة البريطانية السابق توني بلير، كانوا من حضور دافوس المعتادين. وقد دأبوا على الاعتقاد أنه من الممكن ترويض وتحويل هذا التوسع التاريخي للرأسمالية، لخدمة أهداف اجتماعية أعظم. ونتج من ذلك الطرح شعور طيب ومتفائل، وبحسب قول معروف لرئيس الحكومة البريطانية السابق غوردن براون، كانت تلك حقبة جديدة من الزمن حيث العالم قد تعلم أن يضع فترات تعاقب "الازدهار والركود" وراء ظهره.
على رغم ذلك، ليس من علاقة بين "المنتدى الاقتصادي العالمي" واجتماعاته السنوية في يناير (كانون الثاني) بدافوس، وبين أي من تلك القضايا، التي يجب أن يشكر عليها أشخاص من أمثال دينغ خسياو بينغ [في سبعينيات القرن العشرين، قاد دينغ فترة انتقال الصين من اقتصاد اشتراكي موجه وشديد التمركز حول القطاع العام، إلى نظام يتبنى نوعاً خاصاً من الانفتاح والرأسمالية وتعزيز القطاع الخاص].
ولكل من يريد التدقيق في تلك الأمور، فلقد ساد شعور بأن "المنتدى الاقتصادي العالمي"، عبر الالتزام بمميزاته ومقاصده الحميدة، قد عمل على قيادة حركة العولمة على أساس هذا الشعار، "تحسين وضع العالم من خلال التواصل مع قطاع الأعمال والسياسة والأكاديميا، وزعماء آخرين من المجتمع للتأثير في الأجندات الإقليمية والعالمية والصناعية". ويبدو أن العمل هذا قد أنجز. أو بالأحرى، لقد بدا أن الأمور قد سارت على ذلك النحو.
ثم جاءت الأزمة الاقتصادية العالمية. وتدخلت أصوات أكثر ارتفاعاً لأشخاص وصفهم العالم الاقتصادي جوزيف ستيغليتز (وهو أميركي، وخبير اقتصادي، وخبير سياسات وهو "دافوسي" بالطبع) بأنهم "المستاؤون" من العولمة. وخلال السنوات التي تلت ذلك، أدى الانهيار المصرفي إلى انهيار على مستوى الأسواق المالية، ثم ولد ذلك أزمة أسواق العملات، فولدت منها أزمة الديون السيادية التي أدت إلى الركود والبطالة.
في تلك الفترة، أفلست اليونان (مع وجود القدرة على إدارة ذلك الإفلاس)، ولم تبد إيطاليا بعيدة عن ملاقاة المصير نفسه (لكنها أكبر من أن تترك لتنهار). ولم يدم الانتظار طويلاً بعد ذلك. وسرعان ما وصل الشعبويون القوميون كي يحاولوا حصاد بعض الرصيد السياسي السهل من خلال الرأي السائد بأن العولمة قد فشلت، ثم تحول ذلك المصطلح [العولمة] إلى كلمة بذيئة.
لقد انتقدت رئيسة الحكومة البريطانية السابقة تيريزا ماي التي صنعت معظم مسار بريكست [خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي]، بأنهم "مواطنون من دون وطن". وفي الأعوام 2010 وما تلاها، بات الديماغوجيون من أمثال البريطاني نايجل فاراج، وبوريس جونسون، والرئيس بوتين، ودونالد ترمب، والبرازيلي جايير بولسونارو، والهنغاري فيكتور أوربان، والهندي ناريندا مودي، والإيطالي سيلفيو بيرلوسكوني، ينبتون مستفيدين من الأرض الخصبة التي ولدتها أزمة الانهيار المالي العالمية، وما تلا ذلك من ركود اقتصادي وسياسات تقشف جرى فرضها على مواطنين لم يكونوا على دراية بما يجري. ونظر إلى الهجرة، وهي محرك قوي للنمو، بوصفها قوة غازية. [ووفق أولئك الشعبويين] لقد فشلت العولمة والليبرالية الاقتصادية الجديدة، فلماذا لا نجرب الحمائية الاقتصادية [أي حماية الإنتاج الوطني]، وإغلاق الحدود كبديل؟
من سخرية القدر، أن اجتماعات "المنتدى الاقتصادي العالمي" بين عامي 2008 و2010 اكتسبت أهمية أكبر في زمن أزمة الرأسمالية تحديداً. وحدث ذلك لأنه، ضمن السعي إلى إحداث مجرد تغيير [في ذلك المسار]، أعطي تبرير لأهمية نقاشات المنتدى الرفيعة المستوى بين اقتصاديين لامعين. واستطراداً، فقد لاحت في الأفق أزمة الركود العالمي التي استوجبت آنذاك جهداً دولياً متناسقاً بهدف إنقاذ البنوك والاقتصادات العالمية.
واستكمالاً، لقد سجل المنتدى الاقتصادي العالمي نقطة صحيحة لمصلحته. في المقابل، فبسبب كونه قوة داعمة للعولمة ورمزاً لها، ظهر شعور، وأنا كنت شاهداً على ذلك، بأن منتدى دافوس في عام 2009، هو السنة التي بدا فيها المنتدى كأنه على الجهة الخاطئة من مجريات التاريخ، فقد تراجع الحضور في ذلك العام. وظهر جو من الاستسلام بسبب إفلاس بعض مصارف الاستثمار الأميركية التي دأبت على حضور دافوس سنوياً. المنتدى الاقتصادي العالمي نجح في استعادة توازنه في العقد التالي، لكن الأمور لم تعد إلى سابق عهدها من جديد.
مع تراجع العولمة، ووسط انتشار شعارات فارغة مثل "أميركا أولاً" تتحكم بأكبر اقتصاد في العالم، بدا "منتدى دافوس" هامشياً أكثر فأكثر. لقد حضر الرئيس ترمب "منتدى دافوس"، وللمفارقة كان أول رئيس أميركي يفعل ذلك منذ عهد الرئيس بيل كلينتون، لكن على غرار ما فعل خلال زيارته منظمة الأمم المتحدة ومقر حلف الأطلسي، عمل ترمب على إطلاع المجتمعين في ذلك المنتدى بأنهم جميعاً كانوا مخطئين وهو وحده كان على حق. وقد تفاخر بذلك بشكل فاضح وفق ما ظهر في قوله "نحن لدينا أعظم اقتصاد لم نشهد مثله من قبل في تاريخ بلدنا. وأنا اليوم في أوروبا لأننا نسعى كي تأتي شركات أخرى للعمل في الولايات المتحدة وخلق آلاف فرص العمل، بل ملايين فرص العمل، في حالات متعددة". بغض النظر عما يمثله ترمب، فإنه لم يكن "رجل دافوس".
في زمن الأزمة المالية، بدا جلياً أن الأزمة العالمية تحتاج إلى استجابة عالمية. في المقابل، كانت الاجتماعات في "مجموعة السبع"، و"مجموعة العشرين"، هي التي وضعت تلك السياسات في الاستجابة العالمية، لكنها صيغتها النهائية تولتها الدول بشكل سيادي.
وآنذاك أيضاً، لم يكن من شأن دافوس سوى صياغة بعض الأفكار والترويج لها. ووفق ملاحظة من الخبير الاقتصادي ستيغليتز، لقد صرخت العولمة مستجدية وجود حوكمة عالمية. وفيما استمرت الاقتصادات العالمية في التجارة والاستثمار فيما بينها بشكل أكبر، كان من الطبيعي أن تصبح أكثر اعتماداً على بعضها بعضاً، بالتالي ظهرت حاجة إلى التعامل مع بعض السلبيات الجانبية للعولمة، بغية تحييدها. كذلك كان من شأن وضع نوع من الاستراتيجية العالمية أن يغدو أمراً مفيداً. ففي النهاية، شكل غياب مثل تلك الاستراتيجية أحد الأسباب في انزلاق الأمور نحو الأسوأ في ثلاثينيات القرن العشرين [إبان أزمة الكساد الكبير التي سبقت الحرب العالمية الثانية]، وإلى حد ما تكرر الأمر في الفترة ما بعد 2010.
في المقابل [إبان الأزمة المالية 2009] تحرك العالم بالفعل، مع دور صغير للمنتدى الاقتصادي العالمي، لكنه استند إلى تنسيق العمل على خفض نسب الفائدة، وحجم التحفيز المالي على المدى القصير. وقد تكفل ذلك بمنع الانتقال العنيف نحو الحمائية التجارية. بين عامي 2008 و2010 نجح "رجل دافوس" في إنقاذ الكوكب، لكنه فقد ثقة الناخبين وفشل في الفوز بالنقاشات التي تلت ذلك خصوصاً، وبشكل دراماتيكي، في المملكة المتحدة حيث أدت تلك المعطيات إلى استفتاء بريكست.
في ظل الركود العظيم الذي ضرب العالم في عام 2010، وعمليات التقشف التي تلته، وسط رفض شعبي لمسار العولمة، أصبحت مسألة مشاركة أي سياسي في "منتدى دافوس" خطوة غير حكيمة إلى حد كبير، خصوصاً لجهة نشر صورهم أثناء تناول الشمبانيا (وهذه النوعية الراقية من الكحول هي المشروب المفضل لرجل دافوس). على رغم مشاركته في أعمال "منتدى دافوس" هذا العام، حرص بوريس جونسون (في استجابته لنصيحة كبير مستشاريه سابقاً دومينيك كامينغز) على منع وزراء حكومته من حضور أعمال ذلك المنتدى عام 2020. على رغم ذلك، فإن (الوزير في حينه) ساجد جاويد قد تحدى الحظر، وشارك في دافوس، منحازاً لمبدأ العولمة بوصفه وزير مالية سابقاً، ومصرفياً سابقاً، وشخصاً يعمل في مجال الاستثمارات، مما يعني أنه لم ينجح في مقاومة الرغبة في الانضمام إلى قبيلته [المنتدى].
وفي سياق متصل، لقد واصل "منتدى دافوس" عمله بالطريقة التي لطالما اعتمدها، كتجمع كبير جداً للنقاشات في منتدى يغص بالأفراد الأذكياء، والكثير من المثقفين على اختلاف أنواعهم. وقد حضرت الدبلوماسية باعتبارها أمراً يجب أن يجري في "هوامش" المنتدى، غالباً بشكل غير رسمي، مع تبادل للمعلومات الأمنية. وبشكل دائم، هنالك صفقات تجارية يجب إنجازها، وميزانيات مالية يمكن تقديم الطلبات للفوز بها. وعلى غرار ما لاحظه جونسون ذات يوم حينما شغل منصب عمدة مدينة لندن، "كل ما عليكم فعله في دافوس هو رمي كرة ثلج باتجاه حفلة كوكتيل في منتدى دافوس إذ يمكن أن تصيب أحد العاملين في الصناديق السيادية الذي قد يمول جزءاً من مشروع لتطوير البنى التحتية".
في ملمح بارز، ضرب العالم بجائحة كوفيد مما ألغى إمكانية انعقاد المؤتمر بالحضور الشخصي، واستمر ذلك حتى عودة تلك اللقاءات في مايو (أيار) 2022. وأدت الجائحة أيضاً إلى وضع الاقتصاد بقوة خلف الجائحة [في ترتيب الأولويات]. ويعني الحجم الكبير للتحديات أن السياسات قد وضعت نفسها بنفسها بشكل افتراضي، عبر دفع التعويضات للموظفين، إضافة إلى إجراءات الإغلاق بدعم حكومي اعتمد على الاقتراض وطبع العملات. وجرى ذلك من دون أن يحتاج أي كان لإلقاء الخطابات في دافوس بغية الدعوة إلى فعل تلك الأمور.
إن زيادة التوتر الصيني - الأميركي، والحرب في أوكرانيا، شكلت عوامل إضافية خطيرة، وأدت إلى ضرب مشاعر الانتماء للعالمية والعولمة التي كانت تهيمن دائماً على اجتماعات "منتدى دافوس". في سياق متصل، فإن الأزمة المناخية أيضاً التي شكلت إحدى القضايا الأساسية في "المنتدى الاقتصادي العالمي"، قد دفعت مرة جديدة كي تتراجع على سلم الأولويات، تماماً على غرار ما حدث لهذا الملف نفسه إبان الأزمة المالية العالمية [في 2009].
في سياق متصل، لقد نجحت جائحة كورونا أيضاً في تعظيم دور المؤمنين بنظريات المؤامرة الذين ولدوا من رحم الحركة الشعبوية القومية. لطالما أبدى أولئك الناس إيماناً بوجود نوع من المؤامرة الدولية الغامضة، بالتالي، فقد تحول ذلك التجمع المخصص للنقاشات في جبال الألب [أي منتدى دافوس]، إلى تجمع "شرير" بالنسبة إلى أولئك المستعدين للاعتقاد بتلك النظريات الفارغة.
وعلى نحو مماثل، وبطريقة مفاجئة تحولت الأفكار الإبداعية والتمنيات المستقبلية والأحلام التي طالما حفزت الأفكار التجريبية في أوساط المثقفين التي ظهرت على شكل شعارات مثل "الكعكة الخفيفة في السماء" [تحولت] إلى نوع من التهديدات مثل شعار "إعادة ضبط الساعة العظيم"، أو جملة "ستتملكون لا شيء، لكنكم ستكونون سعداء"، وهي عبارات نطق بها مؤسس ورئيس منتدى دافوس كلاوس شواب.
في هذه المرحلة، يبقى كلاوس شواب مسيطراً على "منتدى دافوس". وقد نجح في تحقيق الكثير من الأشياء منذ دأبه على جمع العشرات من رجال الأعمال الأوروبيين في عام 1971، في إجازة للاسترخاء، ولقاء مخصص للعمل في جبال الألب. في البداية، أطلق على ذلك التجمع اسم "المنتدى الأوروبي للإدارة" European Management Forum، ثم تطور تدريجاً كي يتحول إلى منظمة تعمل على نطاق أوسع. وفي عام 1987، تبدل ذلك الاسم كي يصير "المنتدى الاقتصادي العالمي" وقد حدث ذلك قبل فترة قصيرة من قرار الرئيس الصيني دينغ تحرير الاقتصاد الصيني وعولمته. وتلا ذلك بروز تأثير الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف في ما بعد، مما أدى إلى سقوط جدار برلين، ومعه المعسكر الشرقي، ونهاية الاتحاد السوفياتي. وفي تلك الآونة، بدت تلك الأمور، بحسب بعض الأشخاص، بوصفها نهاية التاريخ. ومن المؤكد أن [تلك الفترة] شهدت بداية العصر الذهبي لتوسع الاقتصاد العالمي (وكذلك الحال بالنسبة إلى منطقة دافوس الصغيرة الناعسة).
وبالاسترجاع، لم يكن "المنتدى الاقتصادي العالمي" في أي يوم، على عكس الكوابيس التي يخترعها المروجون لنظريات المؤامرة، مركزاً يتجمع فيه الكثير من السلطات. ويصح ذلك على رغم أن منظمي المنتدى لطالما دأبوا على الزعم بأنه شكل المكان الذي تحققت فيه بعض الخطوات الصغيرة التي ساعدت في مسار عملية السلام في الشرق الأوسط، وإنهاء زمن العنصرية في دولة جنوب أفريقيا. في المقابل، فإن العمل المجدي والمفيد، وفق ما سبق وصفه آنفاً، قد نهض به المنتدى أثناء أزمات اقتصادية مختلفة، بالتالي، قدمت تلك المنعطفات فرصاً عدة لتوسيع آفاق المسؤولين [عن منتدى دافوس] الثقافية والفكرية. ولربما أمكن اعتبار تلك الأمور مجتمعة كقيمة مضافة أخرى للمنتدى.
حينما تفكك الاتحاد السوفياتي السابق، أسهم المنتدى في مساعدة الدول الجديدة التي حصلت على حريتها في فهم القيم الليبرالية الرأسمالية الحديثة (على رغم واقع تلك البلدان فلم تعمل كلها على نقل تلك القيم إلى دولها). واستناداً إلى ذلك، لو كان المنتدى فاعلاً بالشكل الذي يدعيه أعداؤه، لكانت قد نجحت وأثمرت في أيامنا الحاضرة، تلك الحملة التي أطلقها "منتدى دافوس" عام 2008، على يد رئيس الوزراء البريطاني السابق غوردن براون، وأمين عام الأمم المتحدة في حينه بان كي مون، ورئيس شركة مايكروسوفت بيل غيتس، والفنان الشهير بونو [للقضاء على الفقر].
وكخلاصة، فعلى رغم مقدار أهميته، فإن منتدى دافوس العالمي من شأنه أن يتراجع تدريجاً، بالترافق مع تراجع مبدأ العولمة، والعالمية، والسلطات الصحية والعلوم. وحتى لو حدثت تلك الأمور، فإنه لن يزول من الوجود. سيعود المنتدى إلى ما كانه في السابق، أي إلى صورته كندوة نقاشية حول التجارة والأعمال والاقتصاد بأكثر من كونه ندوة تشتغل في الأمور السياسية. فمثلاً، وبعد الأخذ بكل حساب، لم يحضر رؤساء الحكومات البريطانيون ممن خدموا في المنصب قبل بلير، لقاءات "منتدى دافوس العالمي"، ولا يوجد اليوم أي ضرورة معقولة تدعوهم إلى حضوره في هذه الأيام، إذا كان ذلك المنتدى قد بدأ يفقد الغرض الذي أنشئ من أجله في الأصل.
وقد يكون ذلك أمراً مؤسفاً، لأن الحوار الدولي يمثل قيمة مضافة كبيرة. وكذلك من المستطاع خدمة المصالح البريطانية من خلال التعاون مع زعماء الدول الأخرى والمستثمرين الدوليين. كدولة تجارية عظيمة، أو في الأقل كدولة تعتمد على التصدير في كسب معيشتها، إن المملكة المتحدة كانت، ويبقى لديها الكثير، كي تفوز به من العولمة.
بغض النظر عمن سيخلف كلاوس شواب في إدارة "المنتدى الاقتصادي العالمي"، وكذلك قيمة أعماله تصل إلى نحو 300 مليون دولار أميركي، فسيكون من الحكمة ألا يسود ادعاء متبجح وزائف [بحسب ما عمل شواب على ترداده بشكل دائم]، مفاده أن "زعماء المنتدى العالميين الشباب" قد ساعدوا المنتدى الاقتصادي العالمي في "اختراق" قلب الاجتماعات الحكومية في العالم. ففي أفضل الأحوال، بإمكان "المنتدى الاقتصادي العالمي" تقديم ما هو جيد من خلال التشجيع على الحوار، والمساعدة في اقتراح أو إيجاد الأجوبة للتحديات العالمية، وأن ينجح في اجتذب أسوأ الأنظمة في العالم وتقريبها من قبول مبدأ الحريات التي يتمتع بها المواطنون في دول عدة أخرى.
واستطراداً، يستطيع "المنتدى الاقتصادي العالمي" في دافوس أن يستفيد من الإصغاء إلى الأصوات التي يمكن أن تأتي من الطبقات الدنيا، والاستماع إلى استيائهم ومظلومياتهم، إذ سيكون من شأن ذلك أن يخفف حدة المواقف والمقترحات الأكثر خطورة التي تصدر وتتدحرج نزولاً من مرتفعات أعلى الهرم الاجتماعي. باختصار، إن "المنتدى الاقتصادي العالمي" يجب أن يكون أكثر انغراساً في الأمور التي تجري في القاعدة الواسعة للمجتمعات، مع الحرص على أن يكون حدثاً متواضعاً. ثمة مشكلة تكمن في أن "زعماء الكون" يميلون إلى أن لا يكونوا من الناس المتواضعين المتصلين بجذور الأشياء ووقائعها على الأرض.اندبندنت عربية

نيسان ـ نشر في 2023-02-03 الساعة 07:55

الكلمات الأكثر بحثاً