العراء ملاذاً آمناً
نيسان ـ نشر في 2023-02-12 الساعة 08:56
نيسان ـ لست "ريختريّاً" لأفسّر الزلازل وفق النظريات العلمية، غير أنّي أزعم أنّ ثمّة رسائل حاولت الطبيعة، منذ بدء الخليقة، إبلاغنا إياها، بلا جدوى، لأننا، باختصار، لم نتعلّم لغة الإشارة الخاصة بها، وربما كان الشعراء وحدهم الأقدر على فهمها، بحكم علاقتهم العضوية بفصولها ومقاماتها.
غالباً ما أرى الطبيعة عملاقاً أخرس بقلبٍ مفرط الطيبة، يتوفّر على قدرٍ بالغٍ من الشهامة، لكنّه يعجز عن التعبير عن رغباته. وفي محاولاته للتقرّب منا، يقترف "كوارث" عديدة بلا قصد منه، على غرار "ماموث"، يودّ احتضان طفلٍ صغيرٍ بخرطومه الطويل فيخنقه. ونحن نشبه ذلك الطفل الذي نأى كثيرًا عن أمه الطبيعة، فحاولت إعادته إليها بغضب، من دون أن تدري أن هذا الغضب يمكن أن يفجّر زلزالاً يبيد آلاف الضحايا، وعندما تشعر بفداحة ما اقترفته، تنهمر دموعها فيضاناً يمكن أن يودي بآلافٍ آخرين.
استناداً إلى هذه النظرية الشعرية، علينا أن نعذر الطبيعة، التي تبالغ أحياناً في ردود أفعالها كلما هزّها الشوق إلينا، فعبّرت عن هزّتها بـ"هزّة أرضية" لا نحتملها، على الرغم من أننا نحن من بادرنا بعصيانها منذ البداية ... أعني منذ قرّرنا الانفصال عنها، وعزلنا أنفسنا في "باستونات" أسميناها مدناً، ثم بالغنا في العزلة عندما أحطنا أنفسنا بالجدران المسلّحة التي أسميناها بيوتاً. وليس اعتباطاً أنّ وصفناها بـ"المسلّحة" لأنّها تشبه حصناً ندافع عنه بكل ما نمتلك من أسلحة العزلة، والفردية، والذات المتضخّمة.
والحال أنّ معركة الطبيعة ليست معنا، تحديداً، بل مع أدوات العزلة التي نتحصّن بها، فمن منظورها أنّ تجريدنا من هذه الأدوات كفيلٌ بإعادتنا إلى حضنها. ولذا نشأ نوع من العداء بين الطبيعة والبيوت بكلّ صنوفها من شقق وعمارات وناطحات سحاب، والتي تراها الطبيعة أجساماً غريبةً ناشبةً في جسدها البكر، فاختارت الزلزال سبيلاً لتحطيمها.
ولعلّ المفارقة، هنا، أنّ الطبيعة لم تشأ تجريدنا من بيوتنا وحسب، بل أرادت أن تحملنا على كره هذه البيوت التي أحببناها، والهرب منها، تماماً كما يحدُث عند أدنى هزّة أرضية، إذ يندفع الناس من داخل "حصونهم المسلّحة" بحثاً عن ملاذٍ آمنٍ يسمّى "العراء"، بينما كانوا قبل ذلك يهربون من العراء إلى البيوت، على اعتبار أنّ العراء فقرٌ وانكشافٌ وجوعٌ، ورموز تشكّل في مجموعها نقيض الدعة والرفاه، وربما الحضارة أيضاً.
والحال أنّ غضب الأم لن ينتهي إلّا بابتكار معادلةٍ نحفظ فيها مشاعرها الجريحة حيالنا، نحن الأبناء الجحْد الذين اقترفنا ما تنوءُ به جبالها عقوقًا وخطايا، عندما عثنا فيها خراباً ودماراً، وأفقدناها توازنها البيئي، وثقبْنا غلافها الجويّ بدخان مصانعنا وعوادم عرباتنا وقطاراتنا وسجائرنا.
كم خطيئةً اقترفناها بحقّ هذه الأمّ التي جرّدناها من غاباتها لشيّ اللحم، ولوّثنا بحارها لنقل براميل نفطنا، وإفقادها 30% من مواردها الطبيعية في غضون ربع قرن فقط تمتد من 1970 إلى 1995، بينما يفقد العالم سنوياً ما يزيد على ستة ملايين هكتار من الأراضي الصالحة للزراعة.
يصعب على كارهٍ للأرقام مثلي أن يحيط بكلّ خطايا البشر بحق هذه الأمّ العظيمة التي تركناها وحيدة هناك، قابعةً في جزيرة قصيةٍ لم تعد تظللها غير شجرةٍ واحدة، أو تبحث عن شهقة هواء لم تلوّثها غازاتنا السامة بعد.
ربما أرادت لنا أن نلهو معها قليلاً في العراء، كما كنا نفعل سابقاً، أو ربما، وهذا جائز أيضاً، حاولت أن تدخل بجسدها الضخم إلى بيوتنا لتشاركنا تجربة الدفء التي لم تعتد عليها من قبل، غير أنها لم تنتبه إلى أن جسدها العملاق أضخم من بيوتنا، فكان الزلزال... لها العذر في كلّ الأحوال ... تلك الطبيعة الخرساء الطيبة.
غالباً ما أرى الطبيعة عملاقاً أخرس بقلبٍ مفرط الطيبة، يتوفّر على قدرٍ بالغٍ من الشهامة، لكنّه يعجز عن التعبير عن رغباته. وفي محاولاته للتقرّب منا، يقترف "كوارث" عديدة بلا قصد منه، على غرار "ماموث"، يودّ احتضان طفلٍ صغيرٍ بخرطومه الطويل فيخنقه. ونحن نشبه ذلك الطفل الذي نأى كثيرًا عن أمه الطبيعة، فحاولت إعادته إليها بغضب، من دون أن تدري أن هذا الغضب يمكن أن يفجّر زلزالاً يبيد آلاف الضحايا، وعندما تشعر بفداحة ما اقترفته، تنهمر دموعها فيضاناً يمكن أن يودي بآلافٍ آخرين.
استناداً إلى هذه النظرية الشعرية، علينا أن نعذر الطبيعة، التي تبالغ أحياناً في ردود أفعالها كلما هزّها الشوق إلينا، فعبّرت عن هزّتها بـ"هزّة أرضية" لا نحتملها، على الرغم من أننا نحن من بادرنا بعصيانها منذ البداية ... أعني منذ قرّرنا الانفصال عنها، وعزلنا أنفسنا في "باستونات" أسميناها مدناً، ثم بالغنا في العزلة عندما أحطنا أنفسنا بالجدران المسلّحة التي أسميناها بيوتاً. وليس اعتباطاً أنّ وصفناها بـ"المسلّحة" لأنّها تشبه حصناً ندافع عنه بكل ما نمتلك من أسلحة العزلة، والفردية، والذات المتضخّمة.
والحال أنّ معركة الطبيعة ليست معنا، تحديداً، بل مع أدوات العزلة التي نتحصّن بها، فمن منظورها أنّ تجريدنا من هذه الأدوات كفيلٌ بإعادتنا إلى حضنها. ولذا نشأ نوع من العداء بين الطبيعة والبيوت بكلّ صنوفها من شقق وعمارات وناطحات سحاب، والتي تراها الطبيعة أجساماً غريبةً ناشبةً في جسدها البكر، فاختارت الزلزال سبيلاً لتحطيمها.
ولعلّ المفارقة، هنا، أنّ الطبيعة لم تشأ تجريدنا من بيوتنا وحسب، بل أرادت أن تحملنا على كره هذه البيوت التي أحببناها، والهرب منها، تماماً كما يحدُث عند أدنى هزّة أرضية، إذ يندفع الناس من داخل "حصونهم المسلّحة" بحثاً عن ملاذٍ آمنٍ يسمّى "العراء"، بينما كانوا قبل ذلك يهربون من العراء إلى البيوت، على اعتبار أنّ العراء فقرٌ وانكشافٌ وجوعٌ، ورموز تشكّل في مجموعها نقيض الدعة والرفاه، وربما الحضارة أيضاً.
والحال أنّ غضب الأم لن ينتهي إلّا بابتكار معادلةٍ نحفظ فيها مشاعرها الجريحة حيالنا، نحن الأبناء الجحْد الذين اقترفنا ما تنوءُ به جبالها عقوقًا وخطايا، عندما عثنا فيها خراباً ودماراً، وأفقدناها توازنها البيئي، وثقبْنا غلافها الجويّ بدخان مصانعنا وعوادم عرباتنا وقطاراتنا وسجائرنا.
كم خطيئةً اقترفناها بحقّ هذه الأمّ التي جرّدناها من غاباتها لشيّ اللحم، ولوّثنا بحارها لنقل براميل نفطنا، وإفقادها 30% من مواردها الطبيعية في غضون ربع قرن فقط تمتد من 1970 إلى 1995، بينما يفقد العالم سنوياً ما يزيد على ستة ملايين هكتار من الأراضي الصالحة للزراعة.
يصعب على كارهٍ للأرقام مثلي أن يحيط بكلّ خطايا البشر بحق هذه الأمّ العظيمة التي تركناها وحيدة هناك، قابعةً في جزيرة قصيةٍ لم تعد تظللها غير شجرةٍ واحدة، أو تبحث عن شهقة هواء لم تلوّثها غازاتنا السامة بعد.
ربما أرادت لنا أن نلهو معها قليلاً في العراء، كما كنا نفعل سابقاً، أو ربما، وهذا جائز أيضاً، حاولت أن تدخل بجسدها الضخم إلى بيوتنا لتشاركنا تجربة الدفء التي لم تعتد عليها من قبل، غير أنها لم تنتبه إلى أن جسدها العملاق أضخم من بيوتنا، فكان الزلزال... لها العذر في كلّ الأحوال ... تلك الطبيعة الخرساء الطيبة.
نيسان ـ نشر في 2023-02-12 الساعة 08:56
رأي: باسل طلوزي