اتصل بنا
 

قصيدة حجرية شامخة وسط سان بطرسبورغ عنوانها التاريخ والشعر

نيسان ـ نشر في 2023-03-17 الساعة 17:30

x
نيسان ـ بفارق زمني طوله قرابة 100 عام، حقق النحت الفرنسي مأثرتين نادرتين ولكن ليس في فرنسا بل في حاضرتي الدولتين الأكبر والأكثر أهمية في العالم. ففي الربع الأخير من القرن الـ18 أقام النحات الفرنسي فالكونيت النصب المعروف بـ"فارس البرونز" ولا يزال منذ ذلك الحين في موقعه بساحة "الديسمبريين" وسط سان بطرسبورغ، ليتبعه في الربع الأخير من القرن التالي مواطنه وزميله النحات بارثولدي فيقيم من ناحيته تمثاله الكبير "نصب الحرية" وسط المدخل البحري لنيويورك. ولئن كنا تحدثنا عن نصب الحرية كثيراً، فلا بد هنا من التحدث عن "فارس البرونز" والتوقف عند فرادة تميزه هو، كما يعرف كل الذين عاشوا في مدينة سان بطرسبورغ الروسية - ليننغراد السوفياتية سابقاً - أو زاروها، نصب كبير ينتصب وسط هذه المدينة التي تعتبر من أجمل مدن العالم وأعرقها. وهذا النصب منصوب هناك، بالطبع، تحية إلى القيصر بطرس الأكبر، بأمر من الإمبراطورة كاترين الثانية باقتراح من المفكر الفرنسي ديني ديدرو الذي كانت كاترين قد استشارته في الأمر. والحقيقة أن أي حديث عن "الفارس البرونزي" لا يمكنه إلا أن يبدأ بحديث الأرقام، حتى وإن كانت له ميزات معنوية أكثر أهمية بكثير.
أرقام مميزة
وربما يجدر البدء بأي حديث عن هذا النصب بذكر قاعدته من حجر الغرانيت التي يعتبر نقلها وقد عثر عليها في فنلندا واحدة من أضخم عمليتي نقل لحجر في التاريخ. فالحجر كان يزن أصلاً 150 طناً قبل أن يشذب بشكل عجائبي. أما المدة التي استغرقها العمل على تمثال الفارس نفسه فلا تقل عن 12 عاماً. أما ارتفاع التمثال مع قاعدته فلا يقل عن 13 متراً منها سبعة أمتار للتمثال نفسه. مهما يكن فإن النصب يشكل أكثر من ذلك، تحية لقصيدة بنفس العنوان للشاعر ألكسندر بوشكين. ولئن كان أهل المدينة ينسون ذكر بطرس الأكبر حين يتحدثون عن التمثال فإنهم بالتأكيد من المستحيل أن ينسوا ذكر بوشكين. هم الذين ظلوا يكنون للقيصر المؤسس احتراماً، لا سيما منذ حل العقد الأخير من القرن الـ20، وسقط النظام الحزبي المتفرد في حكم البلد واستعاد التمثال هيبته السياسية، بعد زمن كانت له فيه هيبة جمالية- تاريخية لا أكثر. ومع عودة التمثال، عادت قصيدة لبوشكين، لم تكن على أي حال غابت عن بال أهل المدينة، وأهل عموم روسيا أبداً، وهي -تحديداً- "فارس البرونز".


كتب بوشكين قصيدة "فارس البرونز" لتنشر في عام 1831، أي قبل سنوات من مقتل الشاعر، ولتصبح بسرعة، في ذلك الحين على الأقل، واحدة من أشهر قصائده الروسية، يحفظها الناس غيباً، ويلقونها أو ينشدونها في سهراتهم، أو -على الأقل- كلما استبد بهم حنين إلى عظمة غابرة أو حتى إلى الشاعر الذي أراد، من هذه القصيدة أن تستعيد ذكر تلك العظمة، من خلال حكاية التمثال، بالتالي من خلال تكريم بطرس الأكبر الذي يمثله التمثال الذي نحته فالكونيت، ممتطياً حصانه في مشهد مهيب من دون أدنى شك. والقصيدة ليست مجرد كلام، بل هي عمل فني إبداعي حقيقي، يحاول من خلال لغة الشعر وصوره، أن يقول حكاية تصب في نهاية الأمر في الدلالة التي يحملها التمثال، بعد أن تنطلق أصلاً من هذه الدلالة. ولهذه الحكاية بطل هو المدعو يفغيني، الموظف في مكتب، الذي في ليلة أرق لم تعرف عيناه النوم فيها، يعمل فكره في حياته التي يعيشها وعمله الذي لا يثمر كثيراً، كما في حبه لخطيبته باراشا. وفجأة، وهو غارق في حاله هذه، تتناهى إلى سمعه ضجة وهمهمة وصخب من الشارع المحاذي لشقته... وبسرعة يتبين أن مياه نهر النيفا قد طافت... ولا ينقذ يفغيني نفسه من الطوفان، إلا بعد أن يتعلق بتمثال أسد من البرونز، هو الجزء الوحيد الذي لم تغمره المياه من نصب في المدينة... وإذ ينظر الشاب، يرى أمامه بيت خطيبته الغارق في المياه، وإلى جواره تمثال "فارس البرونز"... فيكون من شأن هذا المنظر أن يفقده رشده، ليهيم منذ ذلك اليوم في الشوارع والأزقة غير لاو على أمر، مرتدياً ما تبقى عليه من أثمال، صارخاً في الناس، ميتاً من الجوع.
مسؤولية تمثال!
بعد فترة يحدث له أن يمر في الساحة قرب تمثال "فارس البرونز" فيلتفت إليه متذكراً آخر مشهد طاف في خياله، إذ كانت المدينة غارقة... ويلتفت إلى التمثال شاتماً إياه مندداً به، معتبراً أنه هو المسؤول الحقيقي عن المأساة التي أصابته. لماذا؟ لأن صاحب التمثال، بطرس الأكبر، كان هو أصلاً من بنى مدينة بطرسبورغ فوق امتداد مائي كان في الأصل مستنقعاً. يقف يفغيني إذاً، أمام التمثال ويتذكر كل ذلك التاريخ، ويتذكر خصوصاً حبيبته المفقودة، لكنه في لحظة من اللحظات يصاب بالهلع، إذ يخيل إليه أن التمثال قد بادله نظرة شديدة الغضب. ويركض الشاب هارباً من شارع إلى شارع وهو مؤمن، هذه المرة، بأن التمثال يطارده: أي إن بطرس الأكبر يطارده على صهوة حصانه... وتمر أيام عدة، حتى يكون اليوم الذي تكتشف فيه جثة يفغيني مسجاة فوق جزيرة صغيرة غير بعيد من بيت حبيبته باراشا، والمكان الذي قتلت فيه المياه هذه الحبيبة.
إذاً، تنتهي فصول هذه المأساة على موت يفغيني..، لكن أهميتها ليست هنا بالطبع. فالواقع أن الشاعر لم يشأ هنا أن يقدم لنا حكاية فجائعية، بقدر ما شاء أن يقدم صورة مواربة لتاريخ المدينة... ومن هنا، اختلطت لديه في القصيدة، العناصر الواقعية، والعناصر الملحمية الأبعاد التاريخية والبطولية. فالأهم هنا، هو ذلك التوازن الذي يخلقه من خلال شخصية بطله المجنون: صحيح أن هذا قد أصيب في عمق أعماقه من جراء المأساة التي حلت به. وصحيح أن لديه ما يبرر غضبه، ليس على الطبيعة وحدها، ولكن أيضاً وبخاصة، على ذلك القيصر المؤسس، الذي بنى المدينة في تحد واضح للطبيعة. هل كان عمل بطرس الأكبر هذا، منطقياً، أم كان عملاً أخرق؟ بالنسبة إلى يفغيني، كان العمل أخرق لأنه أسفر عن قتل حبيبته وافتقاده هو كل مبررات حياته ووجوده، ولكن في المقابل، وعلى رغم المأساة التي حلت في المدينة، ها هي المدينة موجودة، حقيقة واقعة في عظمتها... ومن هنا لا يمكن لمن يريد أن يشكك في معقولية هذا الوجود إلا أن يكون فاقداً رشده، وإلا أن يفقد بالتالي حياته، إذ تجرأ وشتم مؤسس المدينة. وفي هذا الإطار انطرحت على الدوام، بصدد هذه القصيدة، مسألة تعاطف القراء: فهل يتعاطف القراء مع يفغيني في مأساته، أم ينددون به جراء ما فعل، وبخاصة أنه قد يكون هو المسؤول، في نهاية الأمر، عما حل به؟ والحقيقة أن هذا كله سرعان ما طواه النسيان، لأن ما بقي من قصيدة بوشكين على مر الزمن، كان تخليدها للمدينة ولمؤسسها القيصر الكبير، لا سيما من خلال وصف القصيدة لشوارعها وتاريخها وعظمة مبانيها وطبيعتها، على رغم تقديمها كل هذا لنا، من خلال تجوال يفغيني في الشوارع وهو في وهدة الجنون وعلى حافة الموت.
مؤسس الأدب الروسي
قصيدة "فارس البرونز" التي كتبها ألكسندر بوشكين 1799- 1837 محيياً بها مدينته في المقام الأول، تعتبر اليوم من كلاسيكيات الشعر الروسي الكبير- صنوا بالطبع لذلك النصب الذي يعتبر رمزاً للمدينة وتاريخها- وواحدة من أول الأعمال الإبداعية الروسية التي عرفت كيف تمزج، في بعدها الملحمي، بين الحكاية والقصيدة. وعلى أي حال لم يكن هذا، أبداً، بالغريب، على ذلك الكاتب/ الشاعر الذي عرف دائماً بأنه من المؤسسين الرئيسين للأدب الروسي، شعراً ونثراً، على رغم أنه لم يعش سوى سنوات قليلة، لتقطع حياته وتضع حداً لها، مبارزة خرقاء تبعاً لحكاية غرامية، أودت به. وبوشكين ألف كثيراً من الأشعار والمسرحيات واقتبست بعض رواياته ونصوصه أوبرات على غرار ما حدث لـ"فارس البرونز"، منها "أوجين أونيغين" و"فتاة الكبة" إضافة إلى "ابنة الضابط"... وغيرها.

نيسان ـ نشر في 2023-03-17 الساعة 17:30

الكلمات الأكثر بحثاً