ليوناردو شاشيا رحل ومعركته ضد المافيا الإيطالية في ذروتها
نيسان ـ نشر في 2023-03-23 الساعة 05:42
نيسان ـ "أنا لا أنتمي إلى ذلك الصنف من البشر الذين يختبئون في برج عاجي أو يعيشون فيه، وذلك لأن الواقع يهمني ويجتذبني بشكل يجعل من العسير عليَّ أن أكتفي بالعيش بين أربعة جدران، حتى لو كنت - بشكل نسبي - قد فصلت نفسي عن كل ما هو لعبة سياسية أو شلل أدبية". بهذه الكلمات البسيطة حدد ليوناردو شاشيا الكاتب الإيطالي موقفه من الأدب والحياة خلال الأعوام الأخيرة من حياته، مضيفاً أنه لا يعتبر نفسه في الوقت ذاته "صانعاً للرأي العام"، قائلاً "كل ما في الأمر أن ما أكتبه - الحقيقة التي أكشفها أو أدافع عنها - سرعان ما تصبح بعد ذلك موضوعاً للنقاش والسجال والمداولة. إنني أتدخل أقل وأقل في الساحة السياسية، وأختبئ أكثر وأكثر خلف الأدب. وهذا هو برجي العاجي الحقيقي". ومع هذا فإن شاشيا، ككاتب مبدع وكابن من أبناء الجنوب الإيطالي، حيث الوجود الأساسي لـ"المافيا" وحيث تمارس أكبر قدر من النشاط والنفوذ والجرائم، لم يكف في كتاباته عن محاربتها وفضح أساليبها وهيمنتها العضوية على حياة الناس، وتأثيرها في تصرفاتهم.
معركة مستحيلة؟
والمعركة ضد المافيا كانت آخر وأخطر معركة خاضها شاشيا في حياته التي كانت - على أي حال - حافلة بالمعارك، ولكن لئن كانت معاركه أول الأمر سياسية خاضها ضد الفاشية وضد من كان يطلق عليهم اسم "الرجعيين الكاثوليك"، فإنه سرعان ما اكتشف أن المعركة السياسية الحقيقية إنما هي تلك التي تبدأ داخل المجتمع وفي عمق جذوره، لا عند مستوى البنى الفوقية. وكان هذا اكتشافاً متأخراً بالنسبة إلى إيطالي ولد في 1921 في قرية بجزيرة صقلية تدعى راكالمونو (أي القرية الخرساء أو الميتة). وحول هذا الأمر كان شاشيا يقول "إننا نحن معشر الكتاب الإيطاليين الذين غالباً ما يجد الواحد منا نفسه مولجاً بخوض شتى أنواع المعارك، نستغرق وقتاً طويلاً قبل أن نكتشف ذات يوم، في صحوة مفاجئة، أننا إنما بدأنا بخوض المعارك - الخطأ غافلين عن المعارك الحقيقية. وهذا ما قادني شخصياً إلى مبارحة المسرح السياسي بالتدرج حين كفت السياسة عن إثارة اهتمامي، إنما من دون أن أكف عن رصد لعبة البنى السياسية وآثارها وأسبابها وضروب نواقصها".
روايات برسائل
وهو رصد قام به شاشيا بالفعل في العدد الأكبر من رواياته. وهي كانت في معظمها روايات واصلت مهمتها في فضح المافيا وبناها الأكثر عمقاً، من خلال تحويلها إلى عدد لا بأس به من الأفلام السينمائية. ولعل النموذج الأفضل في هذا السياق يتمثل في فيلم "يوم البومة" المأخوذ عن رواية بالعنوان نفسه للكاتب كانت صدرت في عام 1962 لتحقق نجاحاً كبيراً ومن ثم ليشارك الفيلم الذي حققه داميانو دامياني في المسابقة الرسمية لمهرجان برلين السينمائي بعد إنجازه عام 1968. وكانت الرواية قد حققت حين صدرت نجاحاً كبيراً لم يغط عليه إثر ذلك سوى النجاح الكبير الذي حققته رواية شاشيا التالية "قنصل مصر" التي لئن تناولت مرحلة من تاريخ جزيرة صقلية سابق على ظهور المافيا، فإنها توغلت في الجذور التاريخية لذلك الظهور الذي يعيده الكاتب إلى رغبة اليسوعيين في ديمومة سيطرتهم على المدينة من طريق التصدي لعصر الأنوار الذي كان يهدد مصالحهم بعد أن "تطلينت" الجزيرة كـ"خاتمة موقتة" لسلسلة احتلالات تعاقبت عليها تاريخياً.
جريمة حقيقية
وطبعاً ستدور أحداث "يوم البومة" في زمن أكثر معاصرة لنا بكثير، بل تحديداً من خلال أحداث راهنة هي عبارة عن جريمة حقيقية اقترفتها المافيا (وتعرف باسم "كوزا نوسترا") عام 1947 حين قتلت مناضلاً نقابياً شيوعياً يدعى أكوروزيو ميراغليا. وما الرواية في نهاية الأمر سوى نوع من التحقيق حول تلك الجريمة قاده الكاتب في عام 1961 أي في العام نفسه الذي لن ينتهي إلا مع انتهاء شاشيا من كتابة روايته. وكان ذلك في زمن كان ثمة لا يزال فيه تعتيم متواطئ بين المافيا نفسها والسلطات الإيطالية والحزب "الديمقراطي المسيحي" الحاكم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية تحت ظل الاحتلال الأميركي السميك، على رغم الإعلان الرسمي عن انسحابه بعد أن دحر الفاشيين المتحالفين مع نازيي هتلر. لعل من أهم ما فعلته الرواية ومن ثم استكمله الفيلم المأخوذ عنها، هو فتح النقاش واسعاً حول وجود المافيا أو عدم وجودها، حيث بفضل التواطؤ الثلاثي بين المافيا والسلطة والكنيسة – وهو الذي سيرجع شاشيا جذوره في روايته التالية "قنصل مصر" إلى التواطؤ القديم بين آل بوربون من ملوك نابولي، والكنيسة، والعصابات العاملة في خدمة رجال الأعمال المصرين على إبعاد التعليم عن سكان صقلية.
فتح ملفات
ومن هنا فإن ما سعى إليه الكاتب من خلال "يوم البومة" إنما كان فتح الملفات، ليس فقط لفضح ما كان مسكوتاً عنه منذ قرنين من الزمن تقريباً من قبل الجهات المتواطئة، بل من قبل سكان صقلية أنفسهم الذي لم يكن من مصلحتهم الآنية، ولا في مقدورهم على أية حال، الدنو من الموضوع حتى في ما بينهم. كان الصمت سيد الموقف وكانت الأمور تحتاج إلى من يجرؤ على الكلام، على كسر الصمت. ومن هنا، من دون أن تكون رواية "يوم البوم" - التي عرفت منذ ظهورها بكونها مجرد رواية بوليسية، عملاً أدبياً كبيراً، وحتى من دون أن يكون الفيلم المقتبس عنها فيلماً فائق الأهمية، كان الأمر في النهاية نوعاً من مقدمة فنية مزدوجة لإثارة الموضوع. كان هذا هو ما يتوخاه ليوناردو شاشيا، وما تمكن من الوصول إليه خلال السنوات الأخيرة من حياته، فقد كان هذا الكاتب الغاضب والابن البار لصقلية الذي وصل الأمر بمؤرخي حياته إلى القول إنه "كاتب صقلي يكتب باللغة الإيطالية" هو الذي وضع، منذ سنوات شبابه الأولى وحتى رحيله عام 1989عدداً كبيراً من الكتب، بين روايات وتحقيقات صحافية ودراسات أدبية وترجم إلى الإيطالية نصوصاً من لغات أخرى، بحيث إن لائحة كتبه تضم نحو 100 كتاب، وكلها تتميز برصد دقيق وغاضب للواقع الإيطالي وهو رصد توجه خلال العقدين الأخيرين من حياته برصده للمافيا، التي يقول إن خطورتها بدأت تلوح بقوة منذ أواسط سنوات السبعين حين بدأت تحل محل جميع اللاعبين في الحياة السياسية الإيطالية.
وهذا الرصد لم يتسن له، بحسب قوله على أية حال، إلا بعد أن أزال عن عينيه "غشاوة السياسات الكبرى" فانكشف كله، بعد نضال طويل في صفوف الحزب الشيوعي الإيطالي، إن ثمة في هذا كله أزمة عميقة "كان من الخطأ اعتبارها أزمة فردية أو أزمة أشخاص عابرة، لأنها في حقيقتها أزمة إجمالية، أزمة تفسير. فالحزب هو في حد ذاته خطأ إجمالي. والأزمة انحدار والانحدار ما إن يبدأ حتى يتواصل إلى ما لا نهاية". ويرى شاشيا أن نقطة الانطلاق لذلك الانحدار يمكن تحديدها تاريخياً "إنها تعود إلى تقرير خروتشوف وما كشف عنه في عام 1956". وعلى هذا النحو ما إن حقق شاشيا هذا الاكتشاف حتى راح يمعن في رصد الأجواء المحلية الإيطالية، ليصل إلى أن الحرب الحقيقية هي حرب ضد البنى المحلية: بنى الفساد والمافيا والأخطاء السياسية المتراكمة. صحيح أن شاشيا حين توفي في 1989 كان غير متفائل بالمستقبل بما فيه الكفاية، لكنه كان يرى أن ثمة أشياء في إيطاليا سوف تتغير إلى الأفضل. فهل كان بإمكانه أن يرى الواقع على هذا النحو لو أنه عاش بضع سنين أخرى ليرى الفساد يعود إلى بلده، من دون أن يكون قد رحل عنها، ويرى المافيا تسترد قوتها ونشاطها في ظل حكم "فورزا إيطاليا" بيرلوسكوني وحلفائه؟ وربما تعود اليوم وسط المناخ العالمي الذي يستعيد فيه اليمين المتطرف - النازي والفاشي غالباً - ولا سيما في إيطاليا نفسها، مواقع عدة في قمة السلطة، تجعل شاشيا وأمثاله يتقلبون في قبورهم غاضبين متسائلين: هل تراهم حققوا شيئاً أساسياً في حياتهم؟!
معركة مستحيلة؟
والمعركة ضد المافيا كانت آخر وأخطر معركة خاضها شاشيا في حياته التي كانت - على أي حال - حافلة بالمعارك، ولكن لئن كانت معاركه أول الأمر سياسية خاضها ضد الفاشية وضد من كان يطلق عليهم اسم "الرجعيين الكاثوليك"، فإنه سرعان ما اكتشف أن المعركة السياسية الحقيقية إنما هي تلك التي تبدأ داخل المجتمع وفي عمق جذوره، لا عند مستوى البنى الفوقية. وكان هذا اكتشافاً متأخراً بالنسبة إلى إيطالي ولد في 1921 في قرية بجزيرة صقلية تدعى راكالمونو (أي القرية الخرساء أو الميتة). وحول هذا الأمر كان شاشيا يقول "إننا نحن معشر الكتاب الإيطاليين الذين غالباً ما يجد الواحد منا نفسه مولجاً بخوض شتى أنواع المعارك، نستغرق وقتاً طويلاً قبل أن نكتشف ذات يوم، في صحوة مفاجئة، أننا إنما بدأنا بخوض المعارك - الخطأ غافلين عن المعارك الحقيقية. وهذا ما قادني شخصياً إلى مبارحة المسرح السياسي بالتدرج حين كفت السياسة عن إثارة اهتمامي، إنما من دون أن أكف عن رصد لعبة البنى السياسية وآثارها وأسبابها وضروب نواقصها".
روايات برسائل
وهو رصد قام به شاشيا بالفعل في العدد الأكبر من رواياته. وهي كانت في معظمها روايات واصلت مهمتها في فضح المافيا وبناها الأكثر عمقاً، من خلال تحويلها إلى عدد لا بأس به من الأفلام السينمائية. ولعل النموذج الأفضل في هذا السياق يتمثل في فيلم "يوم البومة" المأخوذ عن رواية بالعنوان نفسه للكاتب كانت صدرت في عام 1962 لتحقق نجاحاً كبيراً ومن ثم ليشارك الفيلم الذي حققه داميانو دامياني في المسابقة الرسمية لمهرجان برلين السينمائي بعد إنجازه عام 1968. وكانت الرواية قد حققت حين صدرت نجاحاً كبيراً لم يغط عليه إثر ذلك سوى النجاح الكبير الذي حققته رواية شاشيا التالية "قنصل مصر" التي لئن تناولت مرحلة من تاريخ جزيرة صقلية سابق على ظهور المافيا، فإنها توغلت في الجذور التاريخية لذلك الظهور الذي يعيده الكاتب إلى رغبة اليسوعيين في ديمومة سيطرتهم على المدينة من طريق التصدي لعصر الأنوار الذي كان يهدد مصالحهم بعد أن "تطلينت" الجزيرة كـ"خاتمة موقتة" لسلسلة احتلالات تعاقبت عليها تاريخياً.
جريمة حقيقية
وطبعاً ستدور أحداث "يوم البومة" في زمن أكثر معاصرة لنا بكثير، بل تحديداً من خلال أحداث راهنة هي عبارة عن جريمة حقيقية اقترفتها المافيا (وتعرف باسم "كوزا نوسترا") عام 1947 حين قتلت مناضلاً نقابياً شيوعياً يدعى أكوروزيو ميراغليا. وما الرواية في نهاية الأمر سوى نوع من التحقيق حول تلك الجريمة قاده الكاتب في عام 1961 أي في العام نفسه الذي لن ينتهي إلا مع انتهاء شاشيا من كتابة روايته. وكان ذلك في زمن كان ثمة لا يزال فيه تعتيم متواطئ بين المافيا نفسها والسلطات الإيطالية والحزب "الديمقراطي المسيحي" الحاكم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية تحت ظل الاحتلال الأميركي السميك، على رغم الإعلان الرسمي عن انسحابه بعد أن دحر الفاشيين المتحالفين مع نازيي هتلر. لعل من أهم ما فعلته الرواية ومن ثم استكمله الفيلم المأخوذ عنها، هو فتح النقاش واسعاً حول وجود المافيا أو عدم وجودها، حيث بفضل التواطؤ الثلاثي بين المافيا والسلطة والكنيسة – وهو الذي سيرجع شاشيا جذوره في روايته التالية "قنصل مصر" إلى التواطؤ القديم بين آل بوربون من ملوك نابولي، والكنيسة، والعصابات العاملة في خدمة رجال الأعمال المصرين على إبعاد التعليم عن سكان صقلية.
فتح ملفات
ومن هنا فإن ما سعى إليه الكاتب من خلال "يوم البومة" إنما كان فتح الملفات، ليس فقط لفضح ما كان مسكوتاً عنه منذ قرنين من الزمن تقريباً من قبل الجهات المتواطئة، بل من قبل سكان صقلية أنفسهم الذي لم يكن من مصلحتهم الآنية، ولا في مقدورهم على أية حال، الدنو من الموضوع حتى في ما بينهم. كان الصمت سيد الموقف وكانت الأمور تحتاج إلى من يجرؤ على الكلام، على كسر الصمت. ومن هنا، من دون أن تكون رواية "يوم البوم" - التي عرفت منذ ظهورها بكونها مجرد رواية بوليسية، عملاً أدبياً كبيراً، وحتى من دون أن يكون الفيلم المقتبس عنها فيلماً فائق الأهمية، كان الأمر في النهاية نوعاً من مقدمة فنية مزدوجة لإثارة الموضوع. كان هذا هو ما يتوخاه ليوناردو شاشيا، وما تمكن من الوصول إليه خلال السنوات الأخيرة من حياته، فقد كان هذا الكاتب الغاضب والابن البار لصقلية الذي وصل الأمر بمؤرخي حياته إلى القول إنه "كاتب صقلي يكتب باللغة الإيطالية" هو الذي وضع، منذ سنوات شبابه الأولى وحتى رحيله عام 1989عدداً كبيراً من الكتب، بين روايات وتحقيقات صحافية ودراسات أدبية وترجم إلى الإيطالية نصوصاً من لغات أخرى، بحيث إن لائحة كتبه تضم نحو 100 كتاب، وكلها تتميز برصد دقيق وغاضب للواقع الإيطالي وهو رصد توجه خلال العقدين الأخيرين من حياته برصده للمافيا، التي يقول إن خطورتها بدأت تلوح بقوة منذ أواسط سنوات السبعين حين بدأت تحل محل جميع اللاعبين في الحياة السياسية الإيطالية.
وهذا الرصد لم يتسن له، بحسب قوله على أية حال، إلا بعد أن أزال عن عينيه "غشاوة السياسات الكبرى" فانكشف كله، بعد نضال طويل في صفوف الحزب الشيوعي الإيطالي، إن ثمة في هذا كله أزمة عميقة "كان من الخطأ اعتبارها أزمة فردية أو أزمة أشخاص عابرة، لأنها في حقيقتها أزمة إجمالية، أزمة تفسير. فالحزب هو في حد ذاته خطأ إجمالي. والأزمة انحدار والانحدار ما إن يبدأ حتى يتواصل إلى ما لا نهاية". ويرى شاشيا أن نقطة الانطلاق لذلك الانحدار يمكن تحديدها تاريخياً "إنها تعود إلى تقرير خروتشوف وما كشف عنه في عام 1956". وعلى هذا النحو ما إن حقق شاشيا هذا الاكتشاف حتى راح يمعن في رصد الأجواء المحلية الإيطالية، ليصل إلى أن الحرب الحقيقية هي حرب ضد البنى المحلية: بنى الفساد والمافيا والأخطاء السياسية المتراكمة. صحيح أن شاشيا حين توفي في 1989 كان غير متفائل بالمستقبل بما فيه الكفاية، لكنه كان يرى أن ثمة أشياء في إيطاليا سوف تتغير إلى الأفضل. فهل كان بإمكانه أن يرى الواقع على هذا النحو لو أنه عاش بضع سنين أخرى ليرى الفساد يعود إلى بلده، من دون أن يكون قد رحل عنها، ويرى المافيا تسترد قوتها ونشاطها في ظل حكم "فورزا إيطاليا" بيرلوسكوني وحلفائه؟ وربما تعود اليوم وسط المناخ العالمي الذي يستعيد فيه اليمين المتطرف - النازي والفاشي غالباً - ولا سيما في إيطاليا نفسها، مواقع عدة في قمة السلطة، تجعل شاشيا وأمثاله يتقلبون في قبورهم غاضبين متسائلين: هل تراهم حققوا شيئاً أساسياً في حياتهم؟!
نيسان ـ نشر في 2023-03-23 الساعة 05:42
رأي: إبراهيم العريس