مدن حية

نيسان ـ المدن منابر إشعاع حضاري …تولد وتكبر وتمرض أحيانا لكنها لا تموت .. تنفض الغبار عن أرصفتها وتعيد إحياء نفسها وتتزين لتأسر ناظريها، تماما مثل إمرأة فاتنة تشيب لكنها تحافظ على جمال روحها مهما تقدمت في السن.
سانت بطرسبرغ والتي عرفت بعد الثورة البلشفية بمدينة لينينغراد نسبة إلى فلاديمير اليتش لينين تحكي شوارعها لوحدها عن عظمة التاريخ .. عاصمة ثقافية روسية لا تشيخ لكنها تكبر .. طرازها المعماري يحكي عن عظمة تمتد لاكثر من ٣٠٠ عام .. هناك إرث أدبي خالد يزين ملامحها بعيدا عن حكايات القياصرة وبطرس الأول .
كان لي فرصة زيارتها عام ١٩٩١ عبر رحلة بالقطار ذهبت إليها من موسكو .. ولحسن الحظ كانت الزيارة خلال فترة الليالي البيضاء .. مدينة وقتها لا تعرف الظلام وسمائها تحكي حكاية أخرى .. كأنها تداعب الناظر إليها .. ارميتاج متحف لا يقل أهمية عن اللوفر ويحتوي على أكثر من ٣ ملايين تحفة فنية .. أما المشي على ضفاف نهر نيفا فيضفي رونقا آخر لمدينة لا تغيب عن الذاكرة .. هي مركز أوروبي وشريان حيوي على البلطيق … لا يفسد تقاسيم وجه هذه المدينة الحالمة تجاعيد التاريخ وقسوة العلاقة بين أوروبا وشرقها وغربها .
الأوروبيون الذين قسمتهم السياسة ، كانوا مقسمين في الأصل دينيا بين أتباع هذه الكنيسة والكنيسة المقابلة .. كانت عقدة الأوروبي الشرقي والأوروبي الغربي موجودة على مدار التاريخ الحديث تماما مثل الشمال والجنوب في قسوة الحياة والبرد والحرارة ولعنة الفقر والثراء .
ربما يعيد التاريخ رسم واقع أجمل لمدن تحكي شوارعها عن حضارتها ، لكن بلا شك هناك مدن باقية شواهد حية على تاريخ عنيد وعتيد لا يقبل التأويل أو التغيير .
ربما نسقط حكاية سانت بطرسبرغ أو بيترغراد أو لينينغراد على مدننا التي يسعى الغزاة إلى تغيير أسمائها ومعالمها ، لكن هناك عبق موجود يقول هذه المدن لنا مهما مر في شوارعها العابرون .. هم مارقون وهي باقية .