اتصل بنا
 

خِلفة خليل وخِلفة حسن !

كاتب وصحافي اردني

نيسان ـ نشر في 2023-05-07 الساعة 18:26

نيسان ـ لأسباب لا يعلمها إلا الله، نشأ خليل انطوائياً صموتاً في أسرة قذفها هوان اللجوء من ريف الخليل إلى قرية اردنية تطل على فلسطين . كان خليل آخر عنقود أسرة " طه وزكيّة" اللذين اختارا بخلاف رأي قريبهما المختار، السكن في هذه القرية لطيب معشر ناسها. كانت دار الطين التي تسكنها الأسرة الكبيرة في أقصى غرب القرية. فأين ما استدرت لا بد أن تكتحل عيناك بمشهد " الارض التي سطا عليها اليهود". كان الصغير خليل لصيقاً لجدّه ذرِب اللسان . هما لا يتحدثان الا نادرا، وكانا يتفاهمان بلغة العيون اكثر . كأنهما اختارا الخرس، لغة خاصة.
كان الجد موسى يقعد مبكرا قبالة فلسطين، فيحدثها ويحدث نفسه بصوت مسموع عن حراثة أرض بستان الزيتون والتين. فيقول "يا زريفة ،انا متوكل رايح احرث. لا تتأخري عليّ بلقمة الزاد". يُجهشُ موسى فجأة لحظة يتذكر، أنه ترك زريفة في مقبرة القرية قبل أن يكتسح غراب البين البلاد. لكنه يعود لسيدتَي قلبه، القرية وزريفة، فيسترسل مع شهقات الوجع : "والله ما بطلع من ارضي. خليهم يقبروني فيها، اشرف لي". موسى يختار دائما، قفلة مناجاته لحبيبتيه ب" والله وانهنت يا موسى ورموك زي الكلب برّا البلاد. كلنا رمونا. كنت رجّال وبارودتي ما تنزل من ايدي. إيه الزمن قلّاب. يم ما استحوا من شنب، كلنا شتلونا من شروشنا ".
وحده خليل ابن السنوات التسع من بين شقيقاته وأشقائه السبعة تعلقت روحه بمنوال حديث جده. كان حديث الجد، العروة التي وثّقت ارتباط روح خليل بفلسطين.
كانت الأسرة تقول : والله الختيار ما ظل براسو عقل. مع الايام تسرّبت فواجع موسى ومواجعه الى الحفيد خليل، فانغمس اكثر في الانطواء. وقالوا كذلك: خليل يشبه جده، الخالق الناطق. "معنا خرس وبين بعض متفاهمين ".
خليل، أخطأ درب المدرسة فلم يواظب على مرافقة اخوته إليها . كان ذكيّاً ونجيباً وملفتاً لانتباه معلميه، لكنه احجم عن" القراية"، دون أن يفصح.
قال ابوه : عمره ٩ سنين. خليه يساعدني بتلقيط لقمة السم. زندو قوي ويصير يحفر بيار ويحرث ويسنسل ويعزق أرض الناس. يكفيه انو يفك الخط ويعرف الحروف". توالت الأيام فصار خليل ملازماً لأبيه في شغل الحراثة وحفر آبار جمع المياه. اخشوشنت يداه وقوي ساعداه، وحافظ على انطوائية تعايشت معها الأسرة وسلّم بها الأب.
مع كل ضربة فأس ومهدّة، كان خليل يتصوّر أنها قنبلة تقتل اليهود، كل اليهود، بالضبط كما فعلوا بالدوايمة والسموع وبيت جبرين. فصور الشهداء والشهيدات وبطونهم المبقورة، ظلت ماثلة في ذهنه، لكثرة ما سمع تفاصيل مأساتها من جده. قال له : يا ابني أفلتُّ ومعي اثنان من المقاتلين من طوق عصابات الهاجاناة بأعجوبة. شاغلناهم بعض الوقت، لكننا لم نستطع الصمود أطول. كانوا مدججين بالنار، فلذنا بالبساتين، لننجو.
كان وجه خليل وهو ينصت لجده، يمتقع على الدوام وهو يهز رأسه وعيونه شاخصة، كأنه يواجه مصيره، بل كأنه بين الضحايا. قال لجده فجأة : مهو احنا يا سيدي انبقرت بطوننا زي الشهدا.
شخصت عينا الجد فسأله : الله يقبر عدوينك يا سيدي. منين جبتها هاذي. والله ما خطرت لي. والله صحيح الهوان اللي نعيشو أمضى من بقر البطون.
ومع كل حرف من الجد الذي تفاقم انطواؤه، بات حلم الانتقام من اليهود هاجساً للفتى. صار خليل يفكر في هذا الخراب الذي يعيشه اللاجئ. أيقنَ أن في صمته منجاةً من الاشتباك مع الخواء في أجواء الهزيمة التي يتسربل فيها الفلسطيني، خصوصاً.
بلغ خليل الشباب، فشهد انطواؤه تحوّلاً. "انطلق لسانه"، قال إخوته، الذين لحظوا نبرةً منه تختلف عمّا يسود على ألسنتهم. كان يقول بمناسبة ودون مناسبة :" احنا مش زلم. شو مقعدنا هون؟! نروح نفجر حالنا باليهود. هي الدنيا مش أقوى منا. إحنا اللي خليناها أقوى" .
كان منطقه يلجم كل قول. يُسلّمون بصحته، ويؤيدونه الا حسن الذين كان يقول : الأهم نزبط حالنا زي لاجئين كثيرين بعمان. صار عندهم مصالح وطلعوا من عيشة البركسات والخشس. في منهم كثيرين راحوا ع الخليج وما شاء الله.
شبّ خليل عن الطوق، وقصد عمان، بعد أن انكبّ حثيثاً على تعزيز قراءته، حتى بلغ في شهور مستوى يؤهله لكتابة تداعياته. خربش كثيرا واحتفظ بارشيفه الكتابي. كتب ما في أعماقه َورصد تحولاته الخاصّة التي قادته إلى تشكيل تصوّر عميق عن حركات المقاومة. عمل في المحاجر والورش، واتقن مهنة بناء الحجر، فتحسنّت أوضاع الأسرة. تكفّل بدراسة إخوته وأراح أبيه من الكدّ. تعلم إخوته وأخواته في معاهد التدريب بمهن يطلبها السوق. تزوجوا وارتحلوا وراء الرزق في بلاد الله الواسعة.
تزوج خليل وانجب ولدين وابنة، نهجوا نهج ابيهم. تعلموا وباتوا فاعلين سياسيين، وقرروا جماعة العودة إلى الخليل. صاروا نزلاء دائمين في معتقلات الاحتلال. كانت احكامهم مؤبدة لتنفيذهم عمليات ضد جيش الاحتلال.
وحده حسن التحق بالجامعة، فأصبح رجل أعمال وانسلّ مبكرا الى عالم مقاولات الإنشاءات. أُختير عضواً في هيئة تمثيلية وصار يشار له بالبنان. مُهِّدت الطريق أمامه بتسارع ليغدو وزيرا وأولاده يدرجون في عالم المال والمناصب الكبيرة.
أحد اولاد حسن، أُنتخبَ نائباً، وصعد سلّم المناورات التي قادته الى الوقوع في شرك الاتجار مع إسرائيليين التقوه في أوروبا.
انضمّ خليل إلى تيار يساري، وقاتل في جنوب لبنان، حتى لحظة احتياج إسرائيل لجنوب لبنان. قاد مجموعة من الفدائيين، نكّلت بالغزاة. لكن إنزالا جويّا إسرائيلياً، طوّق المجموعة المنهكة في حصار استمر أياماً داخل قلعة قديمة، أدى إلى استشهاد تسعة فدائيين، بينما القى جنود الغزو القبض على خليل وثلاثة آخرين. نقلتهم إسرائيل الى معتقلاتها في فلسطين المحتلة حتى قضوا شهداء تحت التعذيب.
قال محقق إسرائيلي لاحد ابناء خليل يستدرجه لوهدة العمالة: شوف خبيبي الفرق بينك وبين ابن عمك اللي كان نائب، هو يجول في العالم لأننا ندعم استثماراته و يجي مرحبا به على بلدتكم الأصلية. واحكليك هالشي، ابن عمك بني بيت في الخليل وصار من الاعيان.
ليش خبيبي ما تغار من ابن عمك وتنتبه لحالك؟!
بصق الشاب في وجه المحقق.
ابتسم المحقق واستلّ مسدساً كاتماً فأرداه.
وحين كان الفتى يلفظ أنفاسه شهيدا ، كان ابن عمه يقرع كأس الصداقة مع مسؤول اسرائيلي، كان من خطط لاصطياده في أوروبا!

نيسان ـ نشر في 2023-05-07 الساعة 18:26


رأي: سليمان قبيلات كاتب وصحافي اردني

الكلمات الأكثر بحثاً