اتصل بنا
 

' ما ظل زلم'

كاتب وصحافي اردني

نيسان ـ نشر في 2023-05-16 الساعة 20:08

نيسان ـ اعتلت "غياضة الحميد " التلّة الوسطانية" التي تطلُّ على خشش الخربة ومغاورها وبيوت الشعر المنثورة في الجهات الأربع، في آخر نهار صيفي شمسه كاوية( "العصر الchبير)، وقبل رجعة الرّعيان". صاحت غياضة بصوت مجلجل، نادبة مروءة العرب، وبنداء المثلومة ثقتها بذوي القربى ، هتفت موجوعةً بأسى : يا اللي توحدوا ربنا، يا اللي توجهوا قبلة مكّة خمس مرات، ازلفوا عليّ جاي".
كانت غياضة متوترة كما نابض بندقية، وهي تخوض امتحان جرأة لمغالبة الرجال من ذوي الأسنان الذين ما انبروا لتبديد ما روّجه خصوم أبيها وكارهوه : حميد سلّم اخوياه للجيش التركي. حميد لبس ثوب الخاين و الترك دسوه بين" جماعة الاشقيا" اللي تذبّح بجنودهم.
كان نداء غياضة مدويّاً، صادماً للأسماع، هازّاً للضمائر. كان نداء صبيّة على عتبة العشرين، نداء من يشوّه أهل
" القيل والقال" سُمعة أبيها الذي "زمّوه عسكر الترك يمْ اليمن".
صدمت غياضة، مألوفَ الأسماعِ التي لم تعتدْ صوتاً مدويّاً، تطلقه امرأة فتيّة على رؤوس الأشهاد، فصوت الرجل وحضوره، كان اسداً يفترس "خصمه" الأنثوي بلا شفقة.
تقاطر الناس شيباً وشباناً فزعين، خشية "سولافة شينة"، فصرخةُ امرأة في وسط الخربة اقتلعت القلوب من الصدور. أقبلوا حُفاة ً راكضين : كفى الله الشر. ويش صار فزّعتي العربان كلهم. صوتك وصل العربان الغرابا والشراقا. يا عيب العيب. هاظا مو كارنا اللي تساويه. والله يا بنت حميد سويتي شي يغضب وجه الله.
كانت غياضة تعتلي كوماً من الحجارة، منتصبةً كما رمحٍ، بطولها الفارع : اسمعوني زين. صوتي اللي طلع صوت حرّة، ما تقبل الضيم لا من الغريب ولا من القريب.
كانت تتخلّص من حزمة ثقيلة من قيود فرضها الزمن على المرأة، وهي تهدِّد : والله اللي يمس سمعة ابوي، إلّا أطخو انا.
اشهدوا عليّ، إذا صحيح إنو حميد العطية وشى بخوياه، إلّا ابني بيت عزاه هانا فوق التلّة، واشهّر بيه واتبرأ منو.
وأضافت بصوت المكلومة : مرّ ع غيبة ابوي الله يرجعو سالم غانم، اربع سنين. عمرك شفتو من عيلتنا غير كل زينة؟ عمرنا ما ساوينا الرديّة.وانا غياضة بنت حميد ازمُّ بارودتي وألاحق غنم ابوي و َزارعتو.
: حميد ماهو مدسوس وعمرو ما كان الا إزلمة السوالف الكبيرة. هذا عهد الله عليّ. كلمتي وقلتها. ضبوا لسان السو وانت تعرفوا اهلو. وفي منهم ناس انا اطل هساع بعيونهم الَمخزيٍة. يا عيب ع الشوارب واللحى اللي ما تقدر ان الكلمة يوم تطلع تساوي اكثر من الطّلَق.
كانت غياضة تجيل ناظريها بين الناس، وترمي نظرات الازرداء عديداً ممن جاءوا لمواراة سوءات ألسنتهم، بحق حميد العطية.
أفاضت غياضة بلسانها الذّرب في التقريع ورد الكيد لنحر "اللسان الطويل"، وسط صمت مطبق هيمن على الخربة..
كان الناس كأن على رؤوسهم الطير، لكنّ همهمات سرت بينهم: "وشّي هالبنت، مسحوبة من لسانها. والله تقول وما تتقهقر بوجوهنا ومي شايفتنا.
أشاعت ألسنٌ مبغضةٌ خروج "حميد العطية" عن
"فسطاط المنقادين" :" ما ودّوه ع اليمن ولا قالها الله. ضربوا قدامكو وبعديها كتْ كل اللي عندو. وشى بخوياه اللي كان زام بارودتهم ويطخ على عساكر الدولة معاهم".
اختار خصوم" حميد" أكثر لمّات الرجال في التعاليل، وأطلقوا قذائفهم :" البارح، عسكر الترك زمّوا خوياه اللي وشى بيهم من العرب الغرابا. حميد ماهو زلمة طخ وأول ما لاحوه بالسوط المبلول، اعترف".
وجمُ الرجال وهم يستمعون ما لم يطرق اسماعهم عن حميد قبلاً في" تعليلة" تلمّ شملهم على طرب امتاع لا يدانيه امتاع، في قص سير الغزو القبلي وارتحال العربان وهجراتهم وراء الكلأ والماء.
وحين تسرّب اليها همساً ما يشاع عن أبيها، اعترى غياضة مسٌّ من البلبلة، فمادت الدنيا تحت قدميها وغامت الصور والتبس عليها الأمر، لقوّة الحجة التي يتكئ عليه هذا القول.
جاءت صورة ابيها المختطف، بمنطقه وصدق أقواله وأفعاله، واستعادت استضافته خمسة رجال ملثمين ليلاً. قالت في نفسها :" يا ويلي. أبوي يسلِّم هظول الزلم للترك!
تقلّبت تلك الليلة في فراشها ولم يطاوعها النوم تحت سطوة الوساوس، فاليقين والثقة المطلقة بابيها وحشد القيم التي أنشأها عليها، باتت في مهب ريح!.
في الوسن، هتفت دواخل غياضة :" حقق خصوم ابي هدفهم و صدموا الناس ب؛" حميد خسيس".
أطرقت غياضة بعد صفنة عميقة في سحر بيان سم المُرجفين بابيها وجماعة الاشقيا:" حميد يغيب chثير ويطول، ومبيّن عليه من زمان انو مُعو مصاري من الترك، مشان يمسّكهم اعيال الناس اللي يساوي حالو زام بارودتهم ويطخ معهم ع جنود الدولة اللي تقول الله اكبر".
تمضي الأيام، ويعود حميد من اليمن. عاد شامخاً بمعرفة قحطان وأرض بلقيس وسبأ التي منها استمدّ شكيمةَ الفولاذ.
عاد وهو ممتلئ بأن القدر عوّضه بغياضة عن كل متاعبه، فأيقن أنه نسج "درزة التربية لخلفته الوحيدة" على نول جماعة " الأشقيا الاردنيين؛ المقاتلين الذين انخرط مبكراً في صفوفهم لرفع البنادق بوجه الضيم التركي واستهداف عساكره.
عاد، وإذ بربيع قلبه يولد من جديد : غياضة
تمتطي حصاناً مطهماً" يوم تزهم يم الراعي بحوض المجدرة او يم الوادي الكبير جنوبا او أرض العلاقي شرقا.
وقبل رحيله بأيام عن الفانية، همس حميد في إذن إبنته عن خاطب يرجو القرب.
ردت غياضة بحنين حيّي، كأنّها تستجدي القدر أن يطيل بعمر ابيها : طريقك ما احيد عنو ومثلك ما في.
وختمت قبل أن ترجو له نوما هنيئا : يبه، انت قلت لي مرّة، ان ريح صرصر ما خلّت ناس ولا أثر من قوم ثمودْ بواديهم.
يبه، ريح قوم ثمود غشتنا من زمان وما ظل زلم!

نيسان ـ نشر في 2023-05-16 الساعة 20:08


رأي: سليمان قبيلات كاتب وصحافي اردني

الكلمات الأكثر بحثاً