اتصل بنا
 

مجتمعُ التينةِ في مليح !

كاتب وصحافي اردني

نيسان ـ نشر في 2023-05-20 الساعة 18:11

نيسان ـ .. في مليح تينةٌ زرعها نجديٌّ في ثلاثينيات القرن الآفل، تواطأ الناس على تسميتها ب"تينة ابو حجيلان". صارت معلَماً فارقاً في قلب القرية ولسانها.
كانت تينتنا هذه، لحظة تفلّت "مليح" من إسار الخربة وعوالمها صوب قرية قيدَ نشوءٍ منوالهُ بطيءٌ.
أخذت الأيام تقسو عليها، بزحف أبنية الأسمنت على خلوتها، حتى أحاطتها إحاطة السوار بالمعصم. اليوم
تتثاءبُ "هدية الزمن" لمليح طويلاً، لكن النومِ لا يُطاوعُ جفنيها المُسهدين. حزنُها يتعاظم وشقاؤها يتكاثر كفطرٍ بريٍّ بعد رعد.
كانت التينةُ، وحيدةَ القرية ومدلّلَتها، ومهوى الافئدةِ وقبلةَ الناظرين. محظوظاً كان من يناديه ذاك النجدي ليعطيه تيناً : "تفضل عالخير يا لاقي الخير". كان طيبَ المعشرِ، سمْحَ الوجهِ والمُحيّا، رُبعةً في طولهِ، يمشي بخطىً وئيدةٍ، وكان هذا دأبه حتى في الملمات. عاش في قريتنا ردحاً من الزمن، تجاوز خمسةَ عقودٍ . لكن قلبه ومن قبله قلب عمه، كانا مشدودين الى الجنوب ترقباً للحظة العودة الى الجزيرة العربية. عاد ابو حجيلان بعد ان اصبحت "الجزيرة" جاذبة للباحثين عن حياة ومال اكثر مما هو متاح في بلادنا بكثير . جاء ابوه حسبما روى الكبار على راحلته مع رهط من النجديين الساعين لكلأ ابلهم بعد ان اجدبت بلادهم طويلاً فاضطروا للهجرة بها الى الشمال حتى بلغوا مليح. احب الحجازي صالح ابو حجيلان مليح لطيب معشر ناسها وحنوّهم عليه وابن أخيه محمد الذي نقل انه رحل عن الدنيا قبل سنوات ، في مدينة الرياض.
وفي ثنائية تحكي سيرة الزمن في القرية تتقابل "تينة ابو حجيلان" مع الدار الكبيرة"، التي ما يزال بابها يثير دهشتي بصموده امام عاديات الزمن والمتغير . ازور المكان احيانا لأتامله، ليحكي حكايات الراحلين من اهل وناس وزمن جميلين.
قالوا ان رأيهم استقر بعد شتوةٍ وثلجةٍ عانوا خلالهما الكثير على تشييد دار قبالة شجرة الحجازي صالح، لتكون ملاذا ومكانا يلتئم شملهم فيه. نقلوا ان احدا عارض فكرة الانشاء دون ان يدفع ببديل، مكتفيا بقوله "هذي حياتنا وحياة ابهاتنا وش نسوي". ودفعوا حججا من مثل ان ذلك "كار مو كارنا".
وكي يكون رأيهم مؤثراً، قال المعارضون، ان في فكرةَ الدارِ تشبّهٌاً بأهلِ مادبا التي كانوا يسافرون اليها على رواحلهم في ذهابهم الى "بابور الطحين" والتسوق من عند " جميل الضباعين" و"جريس الزوايدة" . كانوا يبتاعون الحلاوة و"الكعيكبان" والسكر و" حامض حلو" والملبوسات .
في الاثناءِ، يدفع شغفُ القصِّ الى الغوصِ في ذاكرةٍ جمعيةٍ للناس، لكني اتردد عن مواصلة الرحلة فاتوقف خشية مناطق مسكوت عنها عبر عقود، لاكتشف انني فشلت في نزع صاعق الكتابة والولوج الى تلك القصص وتفجيرها في مسعى لاماطة اللثام عن مواقف مجتمع التينة حيال الحرمان والانتظار والحلم والتناقضات في تجليها المجتمعي البسيط والمعقد معا.
كانت سويعات الإيابِ من مادبا، فرصة للتداول في شؤون حياتهم وحسمها بنفوس راضية. ذات إياب كان الجو صحوا والسماء صافية وصمت الطبيعة البكر لا يبدده الا وقع مسير رواحلهم في طرقات كانت تندثر معالمها لقلّة السائرين، قال علي الذي خبر الارتحال بعيدا عن القرية وفضاء سهولها المنفتحة على الصحراء شرقا: نحن نمارس الضجر ونجهد لنحصل على اقل القليل. وتساءل : وسط هذه الإكراهات التي نعيش لِمَ لا نرحل بعيدا؟، الى الشمال او ما هو ابعد. لنختار القدس وارض فلسطين بدل هذه الجدباء .
وحيال صمت مرافقه، مضى مستسرلا : في مشقة نحاول ان نعيش وهناك جباة ستوفدهم حكومة عمان بعد الحصاد، وسيقضي طمعهم على احلامنا في بيادر ومحصول ننتظره طيلة العام.
ذاتَ مرّة، قال يائساً، انه يحلم بسعادةٍ غامرةٍ، مثل حلمِ بدويةٍ بمئزرٍ جميلٍ يميطه الحبيبُ لحظةَ اللقاء.
كان مجتمع التينة ينتظر من يملأ الكلمات المجوّفة ممارسة او محاولة ليخرج عن السياق الممتلئ تواطؤاً. كان يلقي اسئلة ما تزال تنتظر اجاباتِها حتى اليوم.

نيسان ـ نشر في 2023-05-20 الساعة 18:11


رأي: سليمان قبيلات كاتب وصحافي اردني

الكلمات الأكثر بحثاً