اتصل بنا
 

التنميةُ المُسْتدامةُ تبحث عن ثقافةٍ صديقة

قاص واعلامي اردني

نيسان ـ نشر في 2023-06-04

نيسان ـ في البِدْءِ كان الهسيس.. أنفاسُ الحياةِ الأولى تنْبتُ في الأدغال.. داخلَ عتماتِ الكُهوف، تسبحُ في سديمِ المياه، تَشْهَقُ مع رفِّ حَمَام يطير، مع ركضِ نهرٍ نضير.. تتهجّى الزَقْزَقة، تواصلُ إشراقةَ أيامِها المُشرِقة.
على خَجَلٍ أُدْرِجت الثقافة عام 2015، في جدول الأعمال الدولي للتنمية المستدامة بوصفِها حقلًا أسياسيًّا داخل قائمة أهداف التنمية التي اعتمدتها الأمم المتحدة. اليونسكو من جهتها "ابتهجت" بهذه الخطوة وحيّت هذا "الاعتراف غير المسبوق".
ولكن، عن أيِّ ثقافةٍ تتحدَّثُ أجنداتُ الأمم المتحدة؟ وبإطلالةٍ سريعةٍ على أدبياتِ المنظومةِ الدوليةِ حولَ طبيعةِ الثقافةِ العالميةِ المَنْشودةِ، لِتُصبحَ مؤهلةً للانخراطِ في "جدول أعمال التنمية المستدامة 2030"، يتبيّن أنها الثقافةُ القادرةُ على تلبيةِ متطلَباتِ المجتمعاتِ الاقتصاديةِ والاجتماعيةِ وَالبيئية، بوصفِها الأسسَ الثلاثةَ الكبرى للتنميةِ المُستدامة. وبحسب المهندسة المعمارية الهندية يوتي هوسغرهار مخطّطة المدن ومديرةُ قسمِ الابتكارِ في الحقلِ الثقافيّ باليونسكو، والمكلّفة، على وجه الخصوص، بإدماجِ الثقافة في تحقيق جدول أعمال 2030 للأمم المتحدة، فإن علاقةً تكامليةً تعاونيةً متبادلةً يمكنُ أنْ تنْشأ وتدومَ بين الثقافة وتلك الأسس الثلاثة: "وإذا حصرنا محورةَ هذه الأهداف حول الأسس الثلاثة للتنمية المستدامة، الاقتصاديّ والاجتماعيّ والبيئيّ، أدركنا الدور المشترك الذي يؤمّنه، في كلٍّ منها، البُعدان الثقافيُّ والإبداعيّ. وفي المقابل، تساهم أيضًا الأبعادُ الاقتصاديةُ والاجتماعيةُ والبيئيةُ للتنميةِ المُستدامةِ في المحافظةِ على التراثِ الثّقافي، وَفي تغذيةِ القدراتِ الابتكارية"، كما جاء في مقالها "الثقافة في صميم أهداف التنمية المستدامة" المنشور على الموقع الرسمي لليونيسكو (احترتُ بين وضْعِ الياءِ بعدَ النّون، أو شطبِها).
المطلوب، بالتالي، ثقافةً صديقة، على مِنوال شوارع صديقة وطاقة صديقة وأدوية صديقة وقائمة تطول. أو لِنقل ثقافةً خضراء، على المنوال نفسه المحفّز لعناوين الديمومة النظيفة النقيّة، والتصالح بين مفردات الكوكب، والتوازن بين مدخلاته ومخرجاته.
خان الوكالة وأقدام الجنود..
اليونسكو دعمتْ، في سياقِ بحثِها عن ثقافةٍ صديقة، ترميمَ خانِ الوكالةِ في مدينةِ نابلس المحتلة، وأسهمت على مدى ثمانية أعوام (من عام 2004 وحتى عام 2012) مع جهاتٍ أجنبيةٍ وفلسطينيةٍ عديدة، بإعادةِ إحياءِ الخانِ الذي يعود تاريخُ بنائِه إلى العهد العثمانيّ. وبحسب هوسغرهار، التي يبدو أنها المنظّرة الأهم لليونسكو (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة)، فقد "تمّ تحويل مبنى خان الوكالة القديم إلى فضاءٍ عموميٍّ مُتعدّدِ الخدماتِ يحتضنُ أنشطةً ثقافيةً مُختلِفة".
ولكن سؤالًا مجروحًا نَطَقَ به لسان مدير مركز التراث بالبلدة القديمة في نابلس المهندس نصير عرفات، يلخِّصُ كلَّ شيء؛ فالرجل يقول في تقريرٍ صحفيٍّ، إن "نجاح مشروع ترميم الخان، يرتبطُ بشكلٍ جوهريٍّ بِمدى إمكانيةِ وصولِ الناسِ إليه"، وأوضح أن المقصود بمفردة ناس، أهل نابلس وأهل باقي مدن الضفة الغربية من جهة، والسواح المفترضين المحتملين من خارج فلسطين من جهة ثانية. علمًا أن أهل مدينة فلسطينية قد يتعذّر عليهم، وفق أجندات جنود الاحتلال، الوصول إلى مدينة مجاورة!
كأني بعرفات يقول إن رومانسيةَ الثقافةِ الصديقةِ قد لا تناسب مدينةً تقبعُ تحتَ نيرِ الاحتلال، ومرهونةً لإمكانيةِ دَوْسِ أقدامِ الجنود، في أي لحظةٍ يشاؤون، على مختلفِ تجلياتِ وجودِها فوقَ أرضِ المكانِ وعينِه، ودمعِ عاشقيه.
المفارقة أن هوسغرهار تدير في مقالها الظهر (تتغافَل) عن الدور الكبير الذي لعبه الاحتلال بتخريبِ الخان إضافة لزلزال عام 1927، فقد أكملت سلطات الاحتلال الإسرائيلي، أثناء اجتياحها مدينة نابلس خلال عملية "السور الواقي" عام 2002، هدم ما بقي صامدًا من الخان. إن هذا التغافل يعني، دون كثيرِ ذكاء، أن اليونسكو غيرُ معنيّةٍ بالتطرّق لِما يحتاجه الخان والمدينة التي فيها الخان والمدن التي حوله وحولها، من حريةٍ واستقلالٍ وأَمان، كي يصبحَ الفرحُ بِما أُنجز من إعادةِ إحياء، ممكنًا وعميقًا وَلَه معنى ومبنى، ويصبح لعنوانٍ حالمٍ واعدٍ جامع، من طراز "التنمية المستدامة"، يديْن ورجليْن.
هذا لا يعني أن يرفض الفلسطينيون مشاريعَ البِناءِ والنَّماءِ وإدامةِ الحياة، حتى لوْ تحقّقت (هذه الحياة) فوق ملمترٍ مربّعٍ من أرضِهِم. وهذا لا يعني أن لا يزرع الفلسطينيون، كما هي عادتهُم الباقيةُ الرّاقية، في كل أرضٍ نباتًا سريعَ النمو، ويحصدون، بالمقابل، في كلِّ وادٍ قتيلًا.
التنميةُ المستدامة، كما تورِد أدبياتُها، حقُّ الجميع، وضرورةٌ ينبغي أن ينخرط في عناوينها، ويستفيد من أهدافها الجميع. هذا ما يؤكده الهدف السابع عشر من أهداف التنمية المستدامة المنشور في مختلف مواقع الأمم المتحدة، وعلى امتداد العالم: "عقد الشراكات لتحقيق الأهداف". كما أن الهدف السادس عشر يتحدث عن: "السلام والعدل والمؤسسات القوية". أما الهدف العاشر فيؤكد على: "الحدّ مِن أوجهِ عدمِ المُساواة".
لا أريدُ أن أنزلقَ داخلَ حفرةِ الشّكوى، فالأمرُ لا يحتاجها، وكلُّ من يملك عينيْن محايدتيْن غير منحازتيْن، سيرى، دون مواربة، حاجةَ كثيرٍ من شعوبِ الكوكبِ المحاصرِ باحتمالاتِ التلوّث البيئيّ والتغيّر المُناخيّ، إلى تحويلِ هذه العناوين، إلى حقائقَ تجري فوق ماءِ الوُجود وهواءِ الأنْفاس ورمالِ الركايب، قبل أن تحرقَنا النارُ جميعَنا.
إن الثقافةَ الصديقةَ هي، في هذا السياق، الثقافةُ التي تقاومُ الظلمَ كيْ تبقى الساحةُ خضراء، ومواعيدُ الربيعِ خَصْبة، وحدائقُ المعرفةِ مُزْهِرة.
ثقافةُ الحارة..
يسْكنني مُذ كنتُ طفلًا صغيرًا نداء أترابي لي "يللا عالحارة". والحارةُ، أيامَنا، تختلفُ عن حاراتِ هذه الأيام، إن كانت قد بقيَت حاراتٌ هذه الأيام.
في تلك الحارات البعيدة كنّا نلعب: الزقّيطة، القلول، وقعت الحرب، الغمّاية، عالي وطوط، نركب عربات البيليا، نقود مركبات الأسلاك، نطيّر الأطباق الورقية، نرفع في عرض الشارع شبكة ونلعب الكرة الطائرة، نضع حجرين ونلعب كرة القدم الإنجليزية ذات الهدف الواحد الواقف بين حجريه حارس واحد يحاول الفريقان تسجيل الأهداف نحوه. في تلك الحارات كنا نملأ البلالينَ بالماءِ ونفجّرها فوق أجساد الصبايا. كنا نلعب بيت بيوت. كنا نبيع حلاوة السّميد التي تصنعها لنا أمهاتنا، أو العنبر (تفاح صغير مغطّى بطبقة سكريّة حمراء). كنا في العيد نركب المراجيح و(الدويخة) ويذهب الأيسر حالًا إلى الملاهي. كنا نخوض تحدّي دخول بيوت الجن وهي في أيامِنا كانت كثيرة.
كل هذا وذاك دارت الحياة عليه دورتها، وإذا بِمعظمهِ يتحوّل إلى نوستالجيا تشلعُ الأرواح، وإلى فقراتٍ في قصة قصيرة، أو مشهدٍ في مسرحيةٍ منحازةٍ إلى الزّمن الجميل.
في هذا الاسترجاع ثقافةٌ ما. فيه فكرة تسكن معظم أبناء تلك الأجيال القديمة، فكرة تحوّلت إلى أمنيات، ثم كبرت فإذا بها أسئلة تلح على أصحابها: لماذا انقطعت حبال الوصل جميعها بين أبنائنا وأحفادنا، وبين تلك الألعاب الشعبية؟ لماذا لم نحافظ على بعضها الذي يعزِّز التنافسيةَ على أقلِّ تقدير؟
(يللا عالحارة) بمعناها الحرفيّ المجرّد البسيط، تحوّلت داخل وجداني إلى مشروع، إلى دعوة جماعية وفردية، في الآنِ نفسه، ينزل، على إثرها، الأولاد والبنات إلى الحارة والشارع من جديد، بعد أن هُجِرَتْ الحارات ومساحات اللعب واللهو، لصالح الألعاب الإلكترونية، وضياع الأوقات بالتواصل الافتراضي، وباقي التفاصيل المعطّلة لفكرة النزول للشارع والحيّ والحارة، وبالتالي استعادة مختلف القيمِ والدّلالات المتعلّقة بهذا النزول، وهذه الاستعادة الجماعية/ الفردية.
من هنا، تصبح هذه الدعوةُ عموميةَ التوجه، تربويةَ الغايات، وبالتالي فهي ليست موجّهةً للأولاد فقط، ولكن أيضًا لذويهم وأسرهم وعائلاتهم ومجتماعتهم وممثليهم التشريعيين والإداريين وفي المجالس البلدية واللامركزية ومخاتيرهم ووجهائهم وحكوماتهم، في تضافر للجهود والواجبات، وصولًا لتحقيق الغاية من هذه الدعوة/ الفكرة/ المشروع.
وهي دعوة، لو تحقّقت، فإن بإمكانها تحقيق حزمة من الأهداف والرؤى:
أولًا: تعميقُ ارتباطِ الأجيالِ الناشئةِ بحيّها وبيئتِها المُحيطة، وخلْقُ علاقةٍ متجذّرةٍ ومؤثرةٍ بين المكان بالمعنى الجمعيّ والحضاريّ للأمكنة، وبين الإنسان (من مختلف الشرائح والأجيال) بالمعنى الفرديّ المجرّد، وصولًا إلى التأثير الجمعيّ العام.
ثانيًا: تأسيسُ توازنٍ ممكنٍ ومنصفٍ بين حاجات الفرد الأساسية، باعتبار هذا الفرد مواطنًا ضمن المنظومة المجتمعية المحيطة به، والمنتمي لها قانونيًا وبيئيًّا وقيميًّا، وبين الحاجات الجمعيّة، وصولًا إلى تحقيق مفهوم المواطنة الفاعلة، وتعزيز انتماء الفرد لِمحيطه ومجتمعهِ ومنظومتهِ القيّمية والدستوريّة والعقديّة (نسبة إلى العَقْد الاجتماعي). وبالتالي، تمتين أواصر ارتباطهِ بمختلف ما تقدّم، على أسسِ المشاركةِ بالفعلِ الإيجابيّ العام، وتعزيزِ إحساسِه بالمسؤوليةِ الأخلاقيةِ والقانونيةِ والاجتماعيةِ والتربويّة، كواحدٍ من مداميكِ البِناء لا (أسافينِ) الهدْم.
ثالثًا: معالجةُ ما يمكن تسميتَه الإِدْمان الإلكتروني، ومواجهةُ مختلفِ ما يمكن أن يجرّه هكذا إدمان من انجرافاتٍ تطرفيّة، وميولٍ انطوائيّة، وضعفٍ على صعيد لغةِ التواصل المباشر، واستيعابِ وتمثلِ شروطِ هذا التواصل المختلفة (تمامًا) عن شروط التواصل الافتراضيّ.
رابعًا: تدريبُ الأهلِ والمجتمعاتِ القائمةِ على الضرورة (أي تلك المُقيمة في مجمعاتٍ سكنيةٍ وإسكاناتٍ حديثة)، وتأهيلهُم وتعليمهُم معارفَ المشاركةِ الجماعية، وحيثياتِ التّشارك في المسؤولياتِ والواجبات، وذلك لِمحاربة مختلفِ مشاكلِ تلك المجتمعات، وهي كثيرة؛ منها الإحساس بالغربة، غياب الضوابط المتعلقة بعادات أهل القرى و(سوادي) البادية، قيام العلاقة بين أبناء هذه الشقق على فكرة الاستعراضِ والتّباهي والمراقبةِ، الإحجامِ وغيابِ روحِ المُبادرة، الانكفاء والعزوف عن محاولة مساعدة الحيّ، والأخذ بيدِ البيئةِ المحيطةِ نحوَ التطوّر والنظافةِ والتأسيسِ لحيويةٍ حياتيةٍ فاعلةٍ ومُبْهِجة، قادرةٍ على تعزيزِ انتماءِ هذه المجاميعِ الصناعيةِ المستهلكة، وظيفيًا ونفسيًا وبدنيًا، لمحيطِها، وَإعادة النظرِ بِمختلف ما يتحرّك ويمورُ حولَها من إيقاعِ حياةٍ مكبّل، وطاقةٍ إنسانيةٍ ملْجومة، أو مُستنفدة في الاتجاهاتِ الخطأ، والمشاغلِ المدمّرة للروحِ والقيمِ وممكناتِ البِناء والنّماء.
خامسًا: الأخْذُ بيدِ الناشئةِ نحوَ ما ينفعهُم ويمكثُ في الأرض، بعيدًا عن التطرّفِ والانحرافِ والضّياع. فَمَنْ يبدأُ حياتَه وسطَ بيئةٍ صالحة، قائمةٍ على التّشاركِ والمحبّةِ والتّسامح، وَمَنْ يستهلُّ سنواتِ عمرِهِ وسطَ أهلِهِ وأبناءِ حارتِهِ في ألعابٍ شعبيةٍ ورياضاتٍ مفيدة، محاطًا برعايةِ الأهل والناس والحكومة، لا يمكن أن يكبرَ ليدمّر كلَّ هذه المعاني، ويخرّب كلَّ هذا المنجز. ولا يمكن (إلا من كان العماءُ والظلماتُ بذرةً جينيةً فيه) أن يقتلَ كلَّ تاريخِهِ وطفولتِهِ الصحيةَ القويمةَ بحزامٍ ناسف على سبيل المثال.
ألا تتجلّى ثقافةُ الحارة، وِفْقَ ما تقدّم، بوصفها ثقافةً صديقة؟
تجربة ميديلين ودي لا بلاتا..
تُعد ميديلين (أو مادلين إن رغبتم)، وهي ثاني أهم مدن دولة كولومبيا في أميركا اللاتينية، التي تنتمي إلى شبكة اليونسكو للمدن الخلّاقة (وهي بالمناسبة مدينة بارون المخدرات بابلو إسكوبار)، مثالًا لِما يُمكن للموسيقى أن تبعثه من حيويّة في وسطٍ حضريّ، بِفضل أبعادِها الثقافيةِ والتربويةِ والتجديديّة. وعلاوة على مساهمتها في ترسيخ الثقافة المدنية والعدالة الاجتماعية والسِّلم، خاصّة لدى الشباب، تجلب هذه المدينة آلافَ السيّاح وتُولّد مداخيلَ ومَواطِنَ شُغل، بتنظيمِ فعالياتٍ موسيقيّة متنوّعة، وسوقٍ للموسيقى مُثمرة جدًّا.
لم تعد المدينة، بالتالي، أرضَ رعب. هناك حيث يلعب مهرجان الزهور فيها، المتصاحبُ مع موسيقى تمْلأ الشوارع، وتصْدح، مثل عبيرِ الزهور، بقيمِ الجمال والأُلْفة، وتبحثُ عن نقاطٍ يمكن أن يلتقي حولَها أبناءُ الكوكبِ أجمعين، استطاعَ السكّان ومن يديرُ شؤونَهم أن يجعلوا مدينتَهم محجًّا سياحيًّا مطرزًا بالبهاءِ والرّوعة والمسرّات. موكبُ مُزارعي الزّهور Desfile de Silleteros يجوبُ المدينة.. الأكاليلُ فوقَ ظهورِهم.. الجوُّ مفعمٌ بالنَّغم.. حفلاتٌ موسيقيةٌ وفعالياتٌ ثقافيةٌ وأنشطةٌ رياضيّة.. ها هي الثقافةُ الصديقةُ تُشِعُّ مِن جديد.
في سياقٍ متّصل، يمثّل تشجيعُ تجارةِ المنتوجاتِ والخدماتِ الثقافيةِ حافزًا للأسواقِ المحليةِ والوطنيّة، كما يُساعد على خَلْقِ مواطِنَ شُغْلٍ لائِقة (الغاية رقم 8.3، والغاية رقم 8.5 من الهدف الثامن للتنمية المستدامة: العمل اللائق ونموّ الاقتصاد) وعلى دفعِ الإنتاجِ المحلّي. وتساهم السياسات الثقافية التي تكرّس التعامل التفاضليّ مع المنتوجاتِ المحليّة، على تقليصِ الفوارقِ داخلَ الدّول وفيما بينَها (الهدف الأول: القضاء على الفقر).
في هذا الصدد، يعد مشروع "المسرح الأرجنتيني دي لا بلاتا" في بوينس آيرس، نموذجيًا. فبفضل تمويل من الصندوق العالمي للتنوّع الثقافي، تمّ تمكين ما لا يقل عن 610 من الشباب والكهول العاطلين عن العمل، من التكْوين في مجالِ إدارةِ العروضِ وغيرِها من المهنِ المتعلّقةِ بالفنون الركْحية. وبهذا التكْوين، أصبحَ لهم من الكفاءةِ ما أهّلهم لإيجادِ مواطنَ شُغل، أو لِبعث مؤسّساتهم الخاصّة.
ثقافةٌ صديقةٌ اختارت، هذه المرّة، حقلَ المسرحِ فضاءً لها، وفتحتْ لِهذه المئاتِ من الأرجنتينيينَ بيوتًا، وأتاحتْ لهم أبوابَ رزق، وأنارتْ في الجوارِ مصادرَ شغفٍ لا ينتهي.
ثقافةُ الوَاحات..
تسعى "المبادرةُ الدوليةُ للمحافظةِ على واحاتِ النّخيل لمواجهةِ التغيّر المُناخيّ" التي تنفّذ بتعاونٍ بنّاءٍ بينَ جائزةِ خليفةِ الدوليةِ لِنخيل التّمر والابتكارِ الزراعي، ومنظمةِ الأغذيةِ والزراعة التّابعة للأممِ المتحدة، وجهاتٍ ذاتِ عُلاقةٍ في سِتِّ دولٍ عربيّة هي: السودان، المغرب، موريتانيا، الأردن، مصر وفلسطين، لإنقاذِ الواحات العَطْشى في تلك الدّول، وتنميتِها، وتثمينِ مخزونِها الزراعيِّ والثقافيِّ والاجتماعيّ، وصوْنِ تنوّعِها البيولوجيِّ، وتعزيزِ أمنِها الغذائيّ، والمحافظةِ على تراثِها الماديِّ واللاماديّ، وبما يرتقي لأن يكون حفرًا عميقًا في الموروث، وإسهامًا سخيًّا في تعزيزِ روافِعِ التنميةِ المستدامة.
تلك ثقافةٌ خضراء، كَأَنْ تزرعَ الإماراتُ ملايينَ أشجارِ القرمِ "غابةُ الاتّحادِ لأشجارِ القَرْم"، مشكّلةً منها سياجًا يحيط الدولةَ على امتدادِ حدودِها، مقلّلةً في الجوّ غازات الدّفيئة (تمتصّ شجرة القرم الواحدة سنويًّا، زهاءَ 12 كيلوغرامًا من ثاني أكسيد الكربون)، مانحةً كثيرًا من أنواع الطيور موطنًا تفضّله عن غيره، رافعةً من جودةِ المياه، وموفّرةً حمايةً طبيعيةً من الفيضانات، وبالتالي، صانعةً (بعيدًا عن الإنْشاء) ثقافةً صديقةً بِالمعنى والمبنى؛ ثقافةُ الواحةِ المُعانقةِ، في المَدى الأخضر، شجرةً، بيئةً، أغنيةً ولوحةً صديقة.
يا لَهُ مِن أنين..
يا له من أنين.. أنينُ البِحار على جوْفِها.. هناك حيث يتوقّع العلماءُ أن تصبحَ كميةُ السّمك، يومًا ما، أقل من كميةِ البلاستيك الرّابضِ في القيعانِ يتوعّدنا بِغَدٍ مُشْبَعٍ بالتلوّث. تحترّ المحيطات عامًا تلوَ آخر.. نصف وفيات الجِمال في بلدٍ عربيّ، بحسب الأرقام الرسمية هناك، سببها الأكياس البلاستيكية.. أوروبا تحترّ، ترتفع درجات لهيب الشمس فيها عامًا بعد آخر.. الكربون يفسد القصائد.. 10 بالمائة من الوفيات حول العالم هي، بحسبِ دراسةٍ استغرَقتْ 20 عامًا، ونُشرت في مجلة "لانسيت" الطبية، إمّا بسبب تطرّف الحَر، أو تغوّل البرْد،. أي أن للحَرِّ والبرد 60 بالمائة من قدرة قتل السرطان، و50 بالمائة من قدرة قتل أمراض القلب، إحصائيًّا على الأقل. أين الشِّعر في كلِّ ذلك؟ لعلّه في أغنيةٍ تُناجي الوَتَر، وتُنْشُدُ دربًا للعُبور.
التنمية المستدامة تستنجدُ بِأبناءِ الأرض.. تبحثُ عن ثقافةٍ صديقةٍ تشجّعُ على احترامِ التنوّعِ الثقافيِّ في إطارِ احترامِ حقوقِ الإنسان.. ثقافةٌ تَحْفِرُ وعيهَا في تقاديرِ المُناخ وتقلّباته (الهدف الثالث عشر من أهداف التنمية المستدامة: العمل المناخيّ)، وتُسْهِمُ في خلقِ وسائل مشرقة للحياة، وتفعيلِ سبلِ الاقتصادِ الأخضر، وتحافظُ على التراثِ غيرِ المادّيّ، تمامًا كما حدث في أوغندا حيث دعَمَ مشروعٌ أمميٌّ هناك، عمليةَ تكوينِ حرفيين، أغلبهم من الشباب، وتدريبِهم على صناعةِ النسيجِ من لحاءِ الأشجار، وهي صناعةٌ يرجِعُ عهدُها في أوغندا إلى آلاف السنين. وقد أتاحَ هذا المشروع الاستغلالَ الدائمَ لشجرةِ "الموتوبا" المنتشرةَ بكثرةٍ في بلادِهم، لكنّها أُهمِلتْ بسببِ الحروبِ الأهليّة. المشروعُ ساعَدَ، إلى ذلك، في تحقيقِ الأهدافِ البيئيةِ الصديقة، وتوفيرِ المَداخيل، مع ضمانِ المحافظةِ على صناعةِ نسيجِ الّلحاءِ الذي يُعد، هُناك، كنزًا من كنوز التراث غير المادّي.
على خَجَلٍ أُدرِجت الثقافةُ في عناوينِ التنميةِ المُستدامة.. كأنَّ الريحَ تحتَ الهزيعِ الداكنِ لم تنبُتْ، في البدءِ، من قصيدةٍ غاضبة.. كأن الكهفَ لم يكُن بيتَ أجدادنِا الذين حرثوا الأرض، ورَفعوا لَنا أعمدةَ المَجاز..
في البِدْء... انبثقَ الزَّرعُ بحكمِ غريزةِ البقاء.. متنعمًا بقارورةِ العُذوبة.. سابحًا في سهلٍ ممتدٍّ مِن نقاء.. النُّضْرَةُ كانت هناك.. منذ أوّل الخلْقِ كانت.. تسندُ بعضَ وجعِ الأرض.. تعانِقُ الخُضْرَةَ.. ترسّخُ وجودَها عميقًا في جذورِ الخَصْب..
في البدْءِ كان الأمَل.. وَسوف يبقى العنوانَ اللامعَ في المُقَل

نيسان ـ نشر في 2023-06-04


رأي: محمد جميل خضر قاص واعلامي اردني

الكلمات الأكثر بحثاً