اتصل بنا
 

نشيد الروح الخائفة

نيسان ـ نشر في 2023-06-06 الساعة 22:08

x
ذكريات طفولية في الأردن: مشقة السير مع الأب وتجربة الطرد من المسجد
نيسان ـ تقدم هذه المتوالية السردية تاريخا وواقعا متخيلين للآراميين الذين أنجزوا فعلا حضاريا متقدما في شرق المتوسط يراهن الإنسان فيه على ذاته وعقله لينشئ حياة مستقرة ومزدهرة في بيئة لا تقدم الطعام أكثر من أربعة شهور في السنة.
لمواجهة التحديات أبدعوا منظومة حضارية خدمت الإنسانية حتى اليوم، مثل الصناعات الغذائية وتخزين الطعام والخبز والملح والنبيذ والتجارة والمقايضة والكتابة وتنظيم القوافل التجارية بين العالم وبناء المدن والمحطات التجارية والأنظمة البريدية والسفن الشراعية.
عرف شرق المتوسط الآرامي التشكلات الحضارية الأولى مثل النار والقرى والمدن والزراعة والتجارة والخبز والزيت والنبيذ والملح والكتابة والحرف والصناعات والأدوات، كما شهد أيضا ظهور الديانات السماوية بعد الطبيعية والأرواحية. ربما تكون تسمية الناس بالآراميين والساميين والجاريبيين نسبة إلى السماء؛ كما نقول اليوم مسلمين أو مسيحيين أو يهود. التسمية تعني الذين يؤمنون بالسماء، سواء متبعين أنبياء يوحى إليهم من السماء أو متبعين رموزا سماوية، أو يؤمنون بالله متبعين بأنفسهم ما يعتقدون أنه ما تريده السماء.
كان مبتدأ الطريق بما هي التجارة والمقايضة والقيمة المضافة إلى السلع مشروعا آراميا بدأ بتهجين الإبل واستخدامه في النقل وتطوير السفن الشراعية لتكون قادرة على السفر بعيدا وبحمولات كبيرة تصل إلى ستمائة طن، ثم نشأت حول الطريق مدن وحضارات.
الشمال والجنوب
بدأ الآراميون يتلاشون ببطء بابتداء الألف الميلادية الثانية، لكنهم بمجي المئة السادسة عشر دخلوا في الضياع. تحكي الرواية عن مآلات الآراميين منذ القرن السادس عشر، وكيف حاولوا أن ينظموا وجودهم وعلاقاتهم فأنشأوا إمارات وتحالفات محلية، وهاجر بعضهم إلى المدن والحواضر مثل استنبول والموصل وأورفا، ثم بدأوا بالهجرة إلى أوروبا والولايات المتحدة، وتداخل وجودهم وواقعهم المعاصر مع سياسات الدولة العثمانية والصراعات المحلية في شرق المتوسط، ثم تداعيات الاستيطان اليهودي في فلسطين، التي صارت بعد الحرب العالمية الأولى تعني غير ما كانت عليه طوال التاريخ الجغرافي.
ظل الآراميون يلازمهم توق إلى السلام واستعادة حياة الإنسان القادر أن يعمل بنفسه ولنفسه ويعلم نفسه بنفسه ويداوي نفسه بنفسه دون حاجة إلى الدول والممالك أو الحروب والصراعات. وحاولوا أن ينشئوا إمارات وتحالفات تتعاون مع الدولة العثمانية لتنظيم التجارة والاستقرار والأمن، ولكن الصراعات الداخلية والقبلية والسياسات العثمانية أطاحت بكل محاولاتهم، ثم تحول كثير منهم للعمل في المراكز والمدن مثل استنبول والإسكندرية وانطاكيا وأورفا في التجارة والطب وصناعة السفن.
في ظل أنظمة السجلات والمِلل فقدوا هويتهم الدينية والثقافية التي كانت تميزهم لكنها لا يمكن تصنيفها في خانات الأديان السائدة وصار لزاما عليهم أن يسجلوا أنفسهم مسلمين أو مسيحيين أو يهود، ولم يعودوا يعرفون أنفسهم، حتى بدأ يتشكل بعث ووعي جديد منذ بداية الالفية الميلادية الثالثة يتمثل الطبيعة ويستلهمها، وينشئ في ذلك مذاهب واتجاهات فلسفية وروحية.
الشك والغواية
أنشأ الآراميون في إدارتهم للخوف والبقاء وتحسين البقاء وفي التأمل منظومة فكرية ودينية مستمدة من السماء، وقبل ذلك سادت الأديان المستمدة من الأرواح والأسلاف أو من الطبيعة، ونعرف من أنبياء الآراميين بيلام بين بورا، الذي تحدثت عنه التوراة في سفر العدد، على أنه كاهن عموني عاش في القرن الخامس عشر قبل الميلاد، أو بعد ذلك بمائة عام. عثر عام 1967 على نص آرامي في مدينة دير علا في وادي الأردن؛ يعود إلى القرن العاشر قبل الميلاد يؤشر ما تبقى منه إلى نبوءة رواها بيلام في المعبد على الناس وقد تخيل الكاتب نصا طويلا (نسبيا) لهذه النبوءة.
في التأمل تستحضر الرواية جزءا من تاريخ وتشكل الأديان والأفكار الدينية، وتعرض مشاهد معاصرة ومعارف دينية متنوعة، ويصحب التأمل عادة إن لم يكن دائما شك وغواية. في الغواية تعرض الرواية مشاهد وتجارب مستمدة من قصة ناسك شاب أمضى أربعين عاما يبحث عن اسم الله الأعظم وفي رحلته تدور أحداث وتتشكل مشاهد على مدى العصور. وفي الشك تحكي عن مذاهب واتجاهات دينية آرامية مثل الصابئة والاسماعيلية والحنيفية.
الطريق
في اشتغال الآراميين بالتجارة وتنظيم القوافل منذ استطاعوا تهجين الإبل تتشكل مدن وقصص كثيرة على مدى العصور قائمة على الطريق والقوافل والسفر بعيدا في البر والبحر، كما تنشأ مدن تجارية وقيم وثقافات مستمدة من الطريق والتجارة، وتتشكل أيضا أسرار مهنية وصناعات وحرف وأعمال كثيرة تضيف قيمة كبيرة إلى السلع والقدرة على تخزينها وتنظيم القوافل والأعمال مثل الملح والبريد والسفن والملاحة البحرية والبرية، وصباغة الأقمشة والأدوات والأنظمة المالية والتجارية والقضائية.
كانت أعظم تجليات الطريق منظومة الإيلاف للحج والتجارة والتي تحولت على مدى الزمن إلى منظومة تجارية وحضارية ودينية وثقافية، كما كان يجري تبادل المعرفة والأخبار والسلع والخدمات، وتطورت العلاقات الاجتماعية والمصاهرات.
وتشكلت أيضا مدن ومراكز ومحطات لتنظيم التجارة والبريد، ولأجل تنظيم تجارتهم حول العالم هاجر الآراميون واستوطنوا كثيرا من المدن والحواضر مثل روما والإسكندرية وقرطاجة واسبانيا، ويظن أنهم وصلوا إلى القارة الأمريكية، كما سافروا في البحر بعيدا إلى الهند وشرق آسيا، ويذكر قثامى الكسداني والذي عاش في القرن الثاني قبل الميلاد أن أدومى (ينتسب إليه الأدوميون في جنوب الأردن) أحد حكماء الآراميين وعظمائهم سافر في سالف الزمان إلى الهند وعلم الهنود كيف يصنعون الخبز الذي لم يكونوا يعرفونه من قبل وعلمهم الحشمة واللباس وكثيرا من أساليب الحياة وقيمها.
الحكمة
تتحدث الرواية عن كتاب الفلاحة النبطية والذي كتبه بالآرامية في القرن الثاني قبل الميلاد قثامى الكسداني، ويعرض كثيرا من أنظمة الزراعة الآرامية وفلسفاتهم ومعتقداتهم وكذلك معارف ومهارات عامة منذ تشكلها لدى الأراميين منذ آلاف السنين، ويتحدث عن أنبياء وفلاسفة آراميين، مثل أدمى وصغريث الكنعاني وسوناي وصرديا الكنعاني وطامثرى وكاماش النهري وينبوشاد وماسا السوراني ودواناي وطالا كرناش.
كانت مآلات الآراميين انحسارا يشبه الإبادة، ليست إبادة مادية، بل ثقافية وروحية؛ حتى إنهم لم يعودوا يعرفون أنفسهم، وصارت مدنهم العامرة قرى وخرائب مهجورة، وتحولت فئات منهم إلى التشرد والعزلة والتهميش. وفي ذلك تقدم الرواية مشاهد معاصرة لقرى آرامية مازالت تحمل أسماءها القديمة، وكانت من قبل مدنا عامرة مزدهرة، لكنها صارت قرى فقيرة مهمشة ومهجورة، وتحولت إلى مسرح للتجارة غير المشروعة بالآثار والرعي الجائر؛ الذي حولها الى أراض قاحلة، وأما من تبقى فيها من أهلها فقد صاروا فلاحين فقراء منسيين وجماعات من المهمشين ممن كانوا يعملون في حرف ومهن سادت ثم انحسرت أو انقرضت أو من الجماعات والقبائل التي تعرضت للانتقام والإذلال والتجاهل، لكنهم ظلوا يحملون في صمت وعزلة بقايا الوعي بذاتهم وتاريخهم ووجودهم.
المدينة
تشكلت آلاف القرى والمدن الآرامية، من أشهرها أورسالم المدينة العمورية العتيقة والتي ورثها الكنعانيون ثم تداولت عليها الأمم والأديان، وتحكي الرواية مشاهد وقصصا معاصرة؛ واقعية ومتخيلة عن مآلات الآراميين وشعورهم بالنبذ والاغتراب، والمدن الآرامية بعدما فقدت روايتها المنشئة وعلاقتها بالطبيعة والكون، ولم تعد مراكز للإنتاج والزراعة والتجارة، لكنها تحولت إلى ساحات شبه عشوائية من الساكنين والمستهلكين، وهيمنت عليها جماعات وقيم خارجة عن سياق تشكيل المدن والأمم، ونشرت فيها الخوف والاستهلاك من غير إنتاج، أو أعادت تنظيمها في علاقات طبقية مغلقة لا تسمح بالتداول والتفاعل بين الأفراد والمجتمعات.
وفي المقابل فإن المدينة الآرامية تشكلت من مجموعات من القرى، وهذه بدورها تشكلت حول تدبير الحياة الأساسية والسلام والاستقرار، ونشأت مدن لتكون مراكز اقتصادية واجتماعية للفلاحين والتجار، ونشأت مدن لتكون مراكز لتنظيم وحماية التجارة، ونشأت أيضا مدن سياسية لتكون مركزا شبه فيدرالي للمدن، مثل بيت راس وأورسالم وبترا، ونشأت أيضا منظومة ثقافية واجتماعية لتكريس العدل والسلام بأقل جهد وتكاليف ممكنة.

نيسان ـ نشر في 2023-06-06 الساعة 22:08

الكلمات الأكثر بحثاً