اتصل بنا
 

كامل العجلوني: عارف سعد البطاينة .. ما لم يعرفه الناس!

نيسان ـ نشر في 2023-06-21 الساعة 08:17

x
نيسان ـ انتقل الدكتور عارف سعد البطاينة إلى رحمة الله يوم التاسع من أيار 2023م، عن ثلاثة وتسعين عاماً أنجز بها الكثير، وما جاء في إعلانات النعي وبعض الكتابات التي نشرت ذكرت بعض الأمور عنه لا تتعدى الواجب الاجتماعي، تحدث الناس عن أصله ونسبه ورتبه العسكرية وكونه نائباً ووزيراً وعيناً، ولكن من معرفتي له عن قرب كصديق وزميل وطبيبٍ خاصٍ له لم يعطَ الرجل حقه، ولم يتبين كم من الخدمات الجليلة والتي تعتبر أساسية في تقدم الخدمات الطبية كان عارف من ابتدأها او طوّرها أو شارك في تأسيسها، ولذا وفاءً للمرحوم التي تربطني به علاقة متينة منذ عام 1975م وهو تاريخ عودتي إلى الأردن، وكان عارف في حينه أحد اختصاصيي المدينة الطبية الذين يشار لهم بالبنان.
رغم أن تخصصه لا يحتل أولوية في خدمات لها الصفة العسكرية، فالخدمات الطبية الملكية أُنشأت أولاً لتقدم الخدمات الطبية للفئة التي تخدم القوات المسلحة من الرجال ولم تكن الخدمات النسائية جزءاً منها لفترة طويلة، ولولا إدخال مشروع العناية الطبية بعائلات منتسبي القوات المسلحة والامن العام والجهات الأمنية الأخرى لما كانت اختصاصات النسائية جزءاً من خدماتها.
إن نمو الخدمات الطبية من تقديم الخدمات الأساسية لمنتسبي الجيش العربي إلى مؤسسة طبية أكاديمية رائدة هي منجز من منجزات الأردن العظيمة، وعندما أقول مؤسسة أكاديمية لا تعني بالضرورة جامعية او ملحقة بكلية طبية بالمفهوم الكلاسيكي، فالمؤسسات الطبية مثل مايو كلينك والمستشفيات التعليمية المشهورة في أمريكا ليست بالضرورة جزءاً من التعليم الطبي التقليدي الذي محوره الأساسي كليات الطب.
ومع خبرتي منذ دراستي في جامعة هايدلبيرغ منذ 1960م وتخرجي وتعاملي الطبي دراسة وعلاجاً وبحثاً مع أغلب الأنظمة الطبية في الدول الأوروبية وانجلترا وأمريكا وغيرها من البلدان حول العالم، أسمح لنفسي بالقول أنه لا يوجد شبيهاً للخدمات الطبية الملكية تأسيساً وعملاً ونمواً وتفوقاً.
والمجال في هذا المقال لا يسمح للتحدث عن ذلك بالتفصيل فقد أوردت كثيراً من هذه المعلومات والإنجازات الموثقة في كتب لها علاقة مباشرة بهذا الموضوع وهي: تاريخ كلية الطب بالجامعة الأردنية دراسة شاملة معززة بالشهادات والوثائق، وتاريخ جامعة اليرموك وأحداثها 1976-1986م، وجامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية ومسيرتها 1986-1995م، وتاريخ الطب الحديث في الأردن وفلسطين منذ القرن التاسع عشر.
وللتذكير فقط فإن من شاركوا في بناء الخدمات الطبية كثر ولا يمكن الحديث عنهم في هذا الموجز، وعليّ الاعتراف بفضل الكثير منذ بداية الخدمات إلا أنني آثرت أن أخص بالذكر اثنين منهم ومجموعة أخرى، هم الذين تركوا آثاراً طيبة في الخدمات الطبية الملكية تشهد ليومنا هذا على إنجازاتهم التي أعطت الخدمات الصبغة الفريدة في تميزها عن كل ما يشبهها أو يماثلها في العالم، حيث لم تكن الخدمات الطبية في جيوش العالم تحتل المركز الأول في أي بلد مقارنة بغيرها من القطاعات الاكاديمية والمؤسسية، أما الأردن فقد كانت الخدمات الطبية الملكية مكة الطب دون منازع لفترة طويلة وليس في الأردن فقط بل على مستوى المنطقة.
وهؤلاء هم:
1- الدكتور عبد السلام المجالي (1925-2023م)، الذي كان الباني لمدينة الحسين الطبية، ونقلها من خدمات جيدة تقدم في بركسات عسكرية مستشفى ماركا او المستشفى الرئيسي إلى مدينة طبية متكاملة.
2- الدكتور داود حنانيا، الذي بفضل علمه وتكوينه الشخصي وعلاقته الشخصية مع المرحوم جلالة الملك الحسين الذي حرص كل الحرص على دعم الخدمات الطبية والمدينة الطبية لتصبح مؤسسة أكاديمية بامتياز، وأصبحت قبلة المرضى من كل أنحاء العالم العربي، وأول المؤسسات العسكرية التي لم تكتف بتقديم الخدمات العامة، بل تجاوزتها إلى التخصصات الكبرى وتوجهها للتخصصات الفرعية في كل مجالات الطب، فأصبح لديها مركز القلب والشرايين وجراحتها، والامراض الدماغية والعصبية وجراحتها، أمراض الكلى ونقلها، وكل فروع الطب التي لا حاجة لذكرها لضيق المجال.
3- إعداد الأطباء المتميزون في الخدمات الطبية، والبناء التدريبي والتخصصي منذ بدايات الخدمات الطبية، ولم يكن ذلك صدفة بل عمل المسؤولون في الخدمات الطبية على إيفاد أفضل الخريجين لدراسة الطب في أرقى الجامعات في بعثات علمية ومنهم:
• المبتعثين إلى بريطانيا – الفوج الأول سنة 1951م: الدكتور إسماعيل زايد، الدكتور محمد النجار، الدكتور داوود حنانيا، الدكتور اميل فريج، الدكتور سمير جميعان، الدكتور إبراهيم القنة.
• الفوج الثاني سنة 1952م: الدكتور سمير فرّاج، الدكتور محمود فياض، الدكتور عارف البطاينة.
• الفوج الثالث 1953م: الدكتور ستيفان شمروف، الدكتور طارق السحيمات، الدكتور غيث الشبيلات، الدكتور صالح مبيضين .
كان عارف البطاينة من بين هؤلاء الأوائل الذين كانوا طليعة الرجال الذين يحملون المسؤولية، ثم انضم لهؤلاء أفضل الأطباء الأردنيين من خريجي الجامعات العراقية والسورية والمصرية ليشكلوا أضخم فريق طبي ومن أولئك أيضاً على سبيل المثال لا الحصر: الدكتور أشرف الكردي، الدكتور حلمي حجازي، الدكتور طارق سحيمات، الدكتور جلال حدادين، الدكتور عبد الكريم أبو نوار، الدكتور عادل حداد، الدكتور حمزة طلافحة، الدكتور صالح وريكات، الدكتور عقيل التوتنجي، الدكتور عبد السلام العطار، الدكتور إسحاق مرقة، الدكتور صالح العرموطي، الدكتور بسام العكشة، الدكتور يوسف القسوس، الدكتور نائل العجلوني، الدكتور بشير الجراح، الدكتور نايف الهباهبة، الدكتور غازي بقاعين، الدكتور فالح الناصر، الدكتور سهيل صالح، الدكتور محمود فياض، الدكتور محمد سلامة اللوزي، الدكتور حاكم القاضي، الدكتور صفوان خصاونة، الدكتور وليد عبيدات. وغيرهم ممن خانتني الذاكرة عن ذكر أسمائهم لهم مني الاعتذار مسبقاً.
ولنعد للدكتور عارف فقد كان متابعاً ملحاحاً في كثير من الأوقات، يستغل هدوءه ليعمل وينجز، وفي أحيان أخرى يزأر ويتمرد، ولفهم الشخص علينا العودة إلى خلفيته الاجتماعية وتكوينه الإنساني.
المولد والنشأة:
ولد الدكتور عارف سعد البطاينة لأسرة مشهورة في منطقة البارحة بالقرب من مدينة اربد عام 1930م، وتلقى تعليمه الابتدائي في كلية بيرزيت، والثانوي في مدرسة الفرندز في رام الله وتخرج منها في العام 1950م، درس في الجامعة الامريكية في بيروت وحصل على الشهادة الجامعية المتوسطة في العلوم، بعدها التحق عارف بجامعة لندن (ويستمنستر) ومنها حصل على شهادة البكالوريوس في الطب العام عام 1960م.
الخلفية الاجتماعية:
عارف بن سعد البطاينة، الشيخ الجليل الذي يعرفه كل من له اهتمام بتاريخ البارحة من أعمال اربد، واربد وشمال الأردن وجنوب سوريا، من عائلة امتدت بعلاقاتها الواسعة مع عدد كبير من أهالي البلاد العربية آنذاك، وكان والده الشيخ سعد البطاينة شيخاً كبيراً يعرفه المجتمع بكرمه، عاملاً دون كلل أو ملل لإصلاح المجتمع وإدامة السلم المحلي والمحبة والمؤاخاة فيه، كان الشيخ سعد قيادياً عرفه الملك عبد الله عن قرب وأُعطي لقب الباشوية وهو أعلى لقب في ذلك الوقت اعترافاً من الدولة بقيمته المجتمعية وتأثيره، وكان الشيخ سعد البطاينة من أعمدة مؤتمر ام قيس الذي حدّد فيه الأردنيون موقفهم من الانجليز وحكمهم، وطالبوا بحكم وطني يمثله الهاشميون، وكان سمرست المعتمد البريطاني آنذاك، وكان الشيخ سعد مؤثراً في عمليات المؤتمر وفعّالاً في صياغة قراراته وتوصياته الوطنية التي يعرفها الجميع، وعند وفاته صدرت الإرادة السامية على توجيه لقب باشا إلى ابنه الشيخ محمد بن سعد بن باشا العلي وإعلانه زعيماً لبني جهمة خلفاً لوالده.
وحسبي أن أقول أن أخ د. عارف نجيب السعد كان من أوائل من قاد الصفوف لمحاربة الاحتلال الإيطالي في ليبيا، واستشهد عام 1914م. ولعارف من الاخوة أحد عشر، والاخوات ثلاثة عشر، وعمل إخوته بين الزراعة والسلك الدبلوماسي، وبلغ بعضهم مواقع متعددة في السلك الوظيفي، إضافة إلى منزلتهم الاجتماعية وأذكرهم:
الاخوان: فايز السعد، نجيب السعد المعروف بنجيب الحوراني، زايد السعد استشهد في منطقة الكورة – لواء عجلون في عام 1921م خلال حركة تمرد الكورة، مشعل السعد، بركات السعد، محمد السعد، محمود السعد، مفلح السعد، أحمد السعد، منصور السعد، ناصر السعد (أطال الله بقاءه).
الاخوات: عذراء السعد زوجة سالم الهنداوي والد ذوقان الهنداوي، شماء السعد، شريفة السعد، صبحة السعد زوجة فواز البركات الزعبي – الرمثا، رشدة السعد، فضاء السعد، جواهر السعد، حصة السعد، مها السعد، نوفة السعد، فزّة السعد، نورة السعد، يمنى السعد.
والجدير بالذكر أن والدة المرحوم عارف هي تركية الحاج علي موسى الزعبي، من عائلة الزعبي شيوخ منطقة الرمثا وشمال الأردن.
توفي سعد العلي البطاينة سنة 1929م قبل أن يولد د. عارف السعد البطاينة، وكان د. عارف السعد آخر أولاد سعد العلي البطاينة، عندما كبُر د. عارف تولى أخوه الاكبر آنذاك الباشا محمد السعد رعايته وتكفل بتعليمه في المراحل الأساسية، وقد تلقى د. عارف تعليمه في مدارس بيرزيت ورام الله، وأنهى دراسته الجامعية الأولى من الجامعة الامريكية في بيروت، وقد ابتعث في عام 1952م إلى بريطانيا على نفقة القوات المسلحة.
ولا يمكن أن ننسى في هذا المقام زوجة عارف السعد البطاينة الراحلة هيفاء طه/ الفاهوم ام علاء، التي كانت شخصية هادئة من عائلة عربية عريقة من الناصرة، كان لها الأثر الطيب والنصيب الاوفر في تكوين عائلة عارف البطاينة والتي تضم من الأبناء علاء ومحمد والبنات نسرين ونادين، وقد ارتقت بتاريخ 6/6/2009م إلى السماوات العلى فجأة، وقد اجتمع أولادها حولها لإحياء مناسبة عائلية كريمة.
كان لموت ام العلاء المفاجئ أثر كبير في نفس عارف الذي اعتبرها فاجعة لم يتوقعها وقتاً ولا ظرفاً، وقد قال لي: "موتها قصم ظهري يا كامل"، وقد رأيته حزيناً مستسلماً لإرادة ربه.
عارف في تخصصه:
1- كان رئيساً لقسم النسائية والتوليد بعد أن حاز على أعلى الشهادات من بريطانيا، وكما يقول د. داود حنانيا كان لعارف دائرة كبيرة من المعارف من العرب والأجانب وخاصة الانجليز حيث تخرج وتخصص وعمل، ولاحقاً مع أهل الاختصاص من الأمريكيين، وكان يعود إليهم في الاستشارات المهنية والأكاديمية، وكانوا عوناً له في رفع مستوى الأداء في عمله والرقي به، واستغل عارف هذه العلاقة لتمكين أطباء من التخصص في المعاهد المعروفة في بريطانيا وأمريكا.
2- لم يكن عارف اختصاصي نسائية وتوليد عادياً، فقد عمل بجهده لتطوير خدمات هذا التخصص والرقي به، فكان أول من أدخل جراحة المنظار في خدمة تخصص النسائية والتوليد، وقد بدأ بالقسم في الخدمات الطبية عندما كان غير معروف في الأردن سواءً في القطاع الجامعي أو القطاع الخاص.
3- كان عارف أول من اهتم بعلاج العقم، حيث كان أول من أدخل خدمة أطفال الانابيب في الأردن In-vitro-Fertilization (IVF)، وقد عمل لتعميمها ولكن ظروف العمل في الخدمات الطبية وصبغتها العسكرية حالت دون إشهار هذه الخدمة الذي تولاها لاحقاً الدكتور زيد الكيلاني والذي بنى مستشفىً خاصاً يُعنى بذلك، وللحق والتاريخ كان عارف قد سبقه في ذلك في هذا المجال.
4- جعل عارف إجازة الامومة والطفولة ثلاثة أشهر بعد أن كانت شهراً واحداً، مما جعل العمل للأمهات والأطفال مقبولاً نوعاً ما.
5- جعل الفحص الطبي قبل الزواج إلزامياً، وهي خدمة لم يكن يحلم بها الأردنيون، وإذا ما طُوّر هذا الفحص سيكون خدمة اجتماعية إنسانية للحصول على حقوق الرجل والمرأة في المؤسسة الزوجية.
6- أسس الجمعية العربية لاختصاص الامراض النسائية والتوليد، وكان عضواً فاعلاً في الجمعية العربية للاختصاصات الطبية، وترأس المجلس العلمي لفترة طويلة في هذا التخصص.
7- عندما كان وزيراً عَمِل على جعل التلقيح الاصطناعي IVF مجاناً للمحتاجين عندما كانت الحكومة تقريباً تعتبر علاج المرأة والرجل العاقر ليس من أولويات وزارة الصحة، ولم يشمله أي تأمين.
عارف والسرطان:
كان عارف البطاينة أول من بدأ السجل الوطني للسرطان، وقد حصل على مساعدات خارجية كانت في العادة تنفق في الأمور الهامشية، ولكن بدأ مشروعاً وطنياً مهماً أصبح القاعدة المعلوماتية الصلبة للتخطيط والعلاج لهذا المرض القاتل.
مركز الامل – مركز الحسين للسرطان لاحقاً
قصة هذا المركز طويلة جميلة من حيث النتيجة، مضنية من ناحية الجهد والعمل، لا أريد أن أتطرق لكثير من تفاصيلها فقد أرّخ لها د. عبد الله الخطيب.
لقد تزامنت فكرة إنشائه مع إصابة جلالة الملك الحسين بهذا المرض، ووفاءً من الشعب الأردني وتعبيراً عن محبتهم للقائد وجهود اتحاد الجمعيات الخيرية التي كان يرأسه د. عبد الله الخطيب وجهده الشخصي وتحمسه للفكرة أو بالأحرى كان صاحب الفكرة، وأشهد للتاريخ أن هدفه كان إنشاء مركز لعلاج السرطان في الأردن، وقد جاءني وفريقه عندما كنت وزيراً للصحة ليكون هذا المركز في وزارة الصحة وأنا – والعياذ بالله من كلمة أنا- من قال له يجب أن يكون هذا المركز أكاديمياً.
وفي يوم رافقته والدكتور نبيه معمر لرئاسة الجامعة الاردنية حيث وافق د. عبد السلام المجالي على الفكرة وقدم الأرض والمساعدة، وقد جمعت التبرعات محلياً وعربياً وعلى مستوى الدول الأخرى، وقطع المشروع شوطاً كبيراً، إلا أن الحسد والغيرة والتشويش على صاحب الفكرة ومنفذها جعل ثلة من الناس يتهمون د. عبد الله بالانتفاع الذاتي من المشروع وأن له مآرب أخرى.
ورغم أن جلالة الملك الحسين كان يساند المشروع مساندة كاملة ويثق بعبدالله الخطيب ثقة لا يشوبها شيء، إلا أن الملك رحمه الله أراد أن يتأكد من نزاهة العمل، فكانت المفاجأة الكبرى هي تلك الرسالة الملكية التي وجهها جلالة الملك الحسين بتاريخ 19/7/1994م الى رئيس الوزراء الدكتور عبد السلام المجالي بتشكيل لجنة ملكية برئاسة وزير الصحة في ذلك الوقت الدكتور عارف البطاينة للقيام بدراسة أوضاع مركز الامل، وقد جاء هذا الحدث بدون مقدمات إلا أن دوافعه كانت معروفة، فقد استطاع البعض استعداء القصر ضد المشروع وضد عبد الله الخطيب شخصياً ،بالإضافة الى نقل صورة غير صحيحة عن مسيرة الامل، وقد كان إحساس الفريق الوطني أننا قد اجتزنا هذه المرحلة إلا أنه كان هناك من له مصلحة في تعطيل مسيرة الامل أن هناك من يضع العصي في الدواليب وجاء نص الرسالة على النحو التالي:
دولة الأخ الدكتور عبد السلام المجالي حفظه الله
رئيس الوزراء
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
فقد تابعنا باهتمام كبير عددا من المشروعات الجديدة ذات الصلة بالقطاع الصحي في المملكة والتي يقوم على تأسيسها القطاعان العام والخاص وكنا وما زلنا حريصين اشد الحرص على ان تكون المشروعات الجديدة خاصة المستشفيات والمراكز الصحية مستندة الى رؤية واضحة ودراسات مستقبلية من النهوض بالغايات التي أنشئت من اجلها وتهيئتها لإدامة الصلة مع الجديد في العلم والتكنولوجيا بما يجعل بلدنا مركزا متميزا في ميدان الرعاية والخدمات في القطاع الصحي بل وفي القطاعات كافة، خدمة للمواطن الذي يظل دائما أغلى ما نملك.
وقد كان مشروع مركز الامل للسرطان من بين هذه المشروعات التي حظيت باهتمامي وقد تابعنا مسيرة وحماس الناس له، وإن كنا نعتقد أن مثل هذه الحماسة المباركة وزخم الاعلام الذي يقدمها يجب أن لا تفرض على اهل الخبرة والعلم في هذا الميدان أي توجه لا يقوم على الأسس الاكاديمية والعلمية الدقيقة التي تأخذ باعتبارها تجربة العالم في هذا المجال وتراعي حاجات الوطن وظروفه وتطلعاته، ولما كان المشروع يقترب من الانتقال الى المرحلة العملية فإننا نرى ضرورة القيام بمراجعة شاملة دقيقة لمسيرته وضبط منهجي لجوانبه الإدارية والمالية والاكاديمية واستقصاء افضل السبل لتحقيق النفع من منشآته ورفده بالخبرة المتميزة التي تنهض بما يتوقع من مسؤولياته في مجال مرض السرطان او غيره من الامراض التي لا يمكن خدمة الناس من خلال المركز لمكافحتها و تقديم افضل ما وصل اليه العالم من خبرة و تقنية لمعالجتها لذلك نأمر بتشكيل لجنة تتولى القيام بما تقدم من دراسة و متابعة و اشراف وإدارة وتمويل على ان يكون تشكيلها على النحو التالي:
- معالي وزير الصحة رئيساً
- معالي د. كامل العجلوني - رئيس جامعة العلوم والتكنولوجيا عضواً
- عطوفة د. يوسف القسوس - مدير الخدمات الطبية الملكية عضواً
- الدكتور علاء طوقان - كلية الطب /الجامعة الاردنية عضواً
- السيد عبد الله الخطيب – رئيس اتحاد الجمعيات الخيرية عضواً
آملاً ان تتخذوا الإجراءات اللازمة لذلك.
صدر في عمان الموافق 19/أيلول / لسنة 1994 ميلادية.
وكما سبق أن أشرت بدأت هذه الحملة ضد مركز الامل تأخذ مجرى آخر وخرجت عن المألوف، فقد وصلت الى أن تستعدي حتى الملك على المشروع.
وكان عارف رحمه الله رئيساً للجنة، ومن كرم الحسين رحمه الله لم يكن د. عبد الله الخطيب متهماً بل كان عضواً في اللجنة لمراجعة الموضوع وكتابة التوصيات.
وفي أول اجتماع ترأسه د. عارف يقول عبد الله الخطيب في كتابه: تدخل الدكتور كامل العجلوني رئيس جامعة العلوم والتكنولوجيا وأنهى الامر وهو يؤكد بأن ما قام به عبد الله هو المطلوب وأن علينا أن نطلع على محور سير العمل لمناقشته في جلسة قادمة، وسارت أمور اللجنة خلال الثلاث جلسات التي تلت تلك الجلسة ونحن لا نخرج عن تلك الحدود التي حاول وزير الصحة تأكيدها وهي مستقبل المركز، وكان المطلوب هو خروج الاتحاد العام وفريق العمل الوطني من الصورة، وكان خوفي أن لا يتم إكمال المشروع إذا تم انتقال ملكيته الى أية جهة خارج الاتحاد العام على اعتبار أن خروجه يعني توقف العمل نهائيا. وكان جلالة الملك يتابع أعمال اللجنة من خلال رئيسها، وقد سمعت بأن وزير الصحة قال لجلالة الملك في إحدى جلساته بأن عبد الله الخطيب هو في الواقع (بلدوزر ما هو سامع ولا رادّ) واضعاً أمام ناظريه هدفاً واحداً لا يحيد عنه وكان تشبيهاً صادقاً، فالغرض كان واضحاً بالنسبة لي إلا أنه بالنسبة للجنة لم يكن هناك وضوح.
واستمر عمل اللجنة بشكل هامشي إلا أن العمل في مركز الامل لم يتوقف، وكان هناك رغبة في إنجاز المشروع بالسرعة الممكنة، وعلى غير توقع دعا رئيس اللجنة الى اجتماع عاجل بعد انقضاء ما يزيد عن أربعة أشهر من آخر لقاء للجنة وقدم ورقة تتضمن أفكاره والمحاور الرئيسية لمشروع مركز الامل للسرطان كما يراها والتي جاء بها:
1. أرى أن الخوض بالأمور المالية ليس له معنى ولا جدوى، وأن اللجنة بتكوينها ومحدودية الوقت عند أعضائها غير مؤهلة للقيام بذلك، ولذا نقترح ألا نتدخل في الأمور المالية السابقة ونبدأ من تاريخه مع تقديم الشكر لكل من ساهموا بوصول هذا المشروع الى المستوى الحالي، ويتبين هنا أنه لم تقدم أي اتهامات أو تقصير لعبد الله الخطيب.
2. نقترح أن يبقى اسم المشروع مستشفى الامل دون إشارة مباشرة للسرطان ويبدأ به علاج السرطان والأمور التي لها علاقة مباشرة او غير مباشرة بمثل هذا المرض مثل أمراض الدم ودراسة الكروموسومات.
3. أن تستمر اللجنة الملكية تعمل كمجلس إدارة مؤقت للمستشفى حتى يتم وضع التشريع المناسب.
4. أن تقوم اللجنة الملكية بتعيين مدير عام ومدير اداري ومدير فني لمشاركة اللجنة في إدارة المستشفى من الآن فصاعداً، ويقترح أن يتم التعيين المشار إليه عن طريق لجنة بحث (Search Committee) او الترشيح الفردي، ولا مانع أن يكون أول مدير لهذا المستشفى غير أردني شريطة أن تتوفر فيه الشروط الاكاديمية والعلمية اللازمة لإدارة مثل هذا المستشفى مع خبرة مناسبة في احدى المستشفيات المماثلة.
5. أن يدار مستشفى الامل كمستشفى خاص يدفع له مقابل أي خدمة مقدمة سواء كان المتحمل للتكاليف المريض نفسه او الحكومة او أي جهة رسمية او خاصة شريطة ان لا يكون مستشفىً ربحياً وأقرب مثل من الناحية الربحية والاستقلالية لهذا المستشفى الإسلامي.
6. أن تبدأ اللجنة التحضيرية موازنة للعام القادم وبناء على الأموال المتوفرة يبدأ بفتح أسرّة تتناسب مع حجم الموازنة.
7. يطلب من الاتحاد العام للجمعيات الخيرية أن يقرر من الآن حجم الدعم للسنة القادمة بالإضافة الى قرار يخصص نسبة مئوية من مردود اليانصيب لصالح المستشفى.
8. تتقدم اللجنة بطلب للحكومة بتخصيص مساعدة للمستشفى هذا العام.
9. في ضوء الإمكانات والخبرة المستقاة في اول ستة أشهر من عمل المستشفى يصار الى تحضير اللوائح الداخلية الإدارية والمالية والاكاديمية.
وقد اجتمع جلالة المغفور له الملك الحسين باللجنة، وفي الاجتماع بدأ الرئيس حديثه بشكل مريح قائلاً: الله يصبر عبد الله علينا فنحن ‏جميعاً في هذه الغرفة أطباء، وما أصعب التعامل مع هذه الفئة فكل ‏منّا له ميوله واتجاهاته وفي قناعتي أننا جميعاً نرغب في أن نرى ‏مركز الأمل عاملاً إلا ان المشاكل التي أمامه ليست سهلة، ولعل ‏وزير الصحة يضعنا في صورة ما توصلت إليه اللجنة.‏ وهنا أذكر وأسجل للتاريخ ومهما قيل لولا مساندة د. عارف البطاينة لهذا المشروع لتوقف هناك، ودخلنا في مهاترات وعطل العمل وانتهى المشروع، ولكن عارف أنهى الموضوع سالماً معافى وتم بناء مستشفى الامل.
عارف البطاينة وزيراً للصحة:
حمل الدكتور عارف البطاينة حقيبة وزارة الصحة أربع مرات، وفي أربع حكومات، ابتدأت بحكومة المرحوم سمو الأمير زيد بن شاكر بتاريخ 21/11/1991م، ثم في حكومة المرحوم الدكتور عبد السلام المجالي المشكّلة في 29/5/1993م، وفي حكومة الامير زيد بن شاكر الثالثة بتاريخ 8/1/1995م، وكذلك في حكومة دولة السيد عبد الكريم الكباريتي بتاريخ 4/2/1996م وشغل المنصب حتى 19/3/1997م.
وكان من إنجازاته:
1- إنشاء سجل السرطان الوطني وفق أحدث المستجدات التي اقتضاها المشروع، والذي كان الأول من نوعه في المنطقة العربية، وتم ذلك بمساعدة مراكز الاختصاص في السرطان في الولايات المتحدة، وبحسب البطاينة فقد تم تنفيذ الرغبة الملكية بتأمين جميع الأردنيين في هذا المركز الذي أصبح يحمل اسم مركز الحسين للسرطان.
2- إدخال مفهوم ضبط الجودة في المراكز الصحية وبمساعدة الخبراء والمتخصصين من الولايات المتحدة الامريكية.
3- مشروع التأمين الصحي لجميع طلبة مدارس المملكة ممن هم دون سن السادسة والذي تم العمل به وتنفيذه بعد مغادرة البطاينة للوزارة.
4- إنشاء وحدات خاصة في وزارة الصحة والخدمات الطبية لمعالجة مرضى التلاسيميا، وقد تم إرسال فريق طبي متخصص لهذه الغاية إلى اليونان برئاسة اللواء الدكتور محمد اللوزي آنذاك، حيث وجود مركز عالمي لمعالجة مثل هذه الحالات.
5- المساعدة في إنشاء المركز الأردني لمعالجة حالات الإدمان، وكان ذلك بالتعاون مع مديرية الامن العام.
يقول الدكتور سعد الخرابشة وزير الصحة الأسبق وأمين عام الوزارة ورئيس الفريق لدراسة مسح الامراض في الأردن عام 1996م:
هذه السطور تلخص أبرز ما خبرته من إنجازات للمرحوم معالي الدكتور عارف البطاينة أثناء توليه حقيبة وزارة الصحة لعدة مرات خلال تسعينيات القرن الماضي، وقد كان لي شرف الخدمة في معيته خلالها كمدير لمكافحة الأمراض.
1- تم القضاء على مرض شلل الأطفال واستئصاله نهائياً من الأردن عام 1992م حيث كانت الأردن من أوائل الدول في العالم التي تتخلص من هذا الوباء.
2- تم تأسيس نظام رصد فعّال للأمراض السارية قادر على رصد ومراقبة حدوث حوالي 40 مرض ساري في المملكة.
3- تم إنشاء السجل الوطني لأمراض السرطان.
4- عندما تولى د. عارف وزارة الصحة كان هناك الكثير من الهرج والمرج عن الوضع الصحي ونسبة شيوع الامراض المزمنة، وكان الأردن قد قطع شوطاً مهماً في مكافحة الامراض السارية، وكانت دراسة الباحثين من جامعة العلوم والتكنولوجيا قد أشارت إلى ارتفاع نسبة الإصابة بالسكري وارتفاع التوتر الشرياني واختلاط الدهون وزيادة الوزن والسمنة، وكانت الجهات المعنية الطبية منقسمة بين المصدق والمكذب كالعادة في المجتمع العربي. لم يعمل عارف على إطلاق التصريحات المؤيدة أو المكذبة، بل دعا فريقاً صحياً وبالتعاون مع منظمة الصحة العالمية، وطلب من د. سعد الخرابشة المسؤول آنذاك قبل أن يتقلد منصب الأمين العام للوزارة، أن يترأس فريقاً بحثياً لدراسة كافة الامراض المزمنة وشيوعها ومضاعفاتها، مستعملاً بروتوكولاً علمياً معروفاً بالتعاون مع CDC الأمريكي وبدعم من منظمة الصحة العالمية، ونشر تقريراً عن هذه الدراسة عام 1996م، وتم إجراء دراسة وطنية على مستوى المملكة هي الأولى من نوعها في الأردن عام 1996م بعنوان: أنماط المراضة في الأردن Patterns of morbidity in Jordan حيث تضمنت هذه الدراسة وصفاً لأنواع الأمراض الشائعة في المجتمع الأردني حسب فصول السنة الأربعة بالإضافة لدراسة عوامل الإختطار لأمراض القلب والسكري، وأجريت هذه الدراسة بالتعاون ما بين الوزارة وجامعة جونز هوبكنز وبدعم من USAID وقد خرج تقرير هذه الدراسة بخمسة مجلدات، وقد كان لي شرف قيادة الفريق التنفيذي لهذه الدراسة وبإشراف المرحوم د. عدنان عباس أمين عام الوزارة خلال حقبتي وزارة المرحوم د. عارف البطاينة والذي كان ساعده الأيمن في كل هذه الإنجازات.
وأخيراً إن جاز لي أن أشهد في أبي علاء فأقول: أنه كان وزيراً كبيراً أعطى كرسي الوزارة مهابة، كان يترفع عن صغائر الأمور، حازماً لا يرضخ للضغوط والمحسوبيات ولديه قدرة كبيرة على تقييم من يعمل معه، باختصار كان شيخاً ووزيراً.
دوره في التدريب الأكاديمي:
قلت بداية أن عارف لم يكن أكاديمياً بالمعنى الكلاسيكي، ولكنه كان مسانداً واستاذاً سريرياً يعنى بتعليم طلبة الطب، وعمل على إيجاد أماكن التدريب لهم، ومن الاعمال التي قام بها وبجدارة:
- كان من أوائل من عملوا على إشراك الخدمات الطبية الملكية في العملية التعليمية لطلاب كلية الطب.
- أستاذ مساعد سريري واستاذ مشارك سريري.
- أستاذ سريري في جامعة العلوم والتكنولوجيا بكلية الطب 1997-2000م.
عارف مرشحاً لرئاسة منظمة الصحة العالمية
في سنة 1997م كان على منظمة الصحة العالمية انتخاب رئيس تنفيذي جديد، وهذا منصب رفيع تتنافس عليه الدول بشكل فردي أو جماعي (مثلاً مجموعة الدول العربية، ومنظمة شرق البحر الأبيض المتوسط وأوروبا والامريكيتان وأفريقيا)، وفي اجتماع عقد تزامناً مع اجتماع المنظمة في سنة 1997م رشحت مجموعة الدول العربية د. عارف البطاينة لهذا المنصب.
كان ترشحه عام 1997م لشغل مركز المدير العام لمنظمة الصحة العالمية أمراً في غاية الأهمية ومجهولاً من قبل الأغلبية، حيث عندما سألت أقرب المقربين لعارف عملياً ومهنياً إما أنكروا هذا الترشح، والآخر ذهب إلى تسميتها كذبة للأسف، ولولا أنني كنت شاهداً ومشاركاً فيها لوقعت في محيط الوهم بوجودها.
ترشح د. عارف لهذا المنصب الرفيع الذي يسميه بعض العارفين وزير صحة العالم، وهذا منصب مهم في العالم لأهميته وتأثيره على الصحة، والصحة تؤثر على الاقتصاد والسياسة. للتذكير فقط وللدرس الذي أدته جائحة كورونا، فالكل يعلم أنها كانت أكبر مؤثر على الصحة في حينه، انتشارها وعدد الوفيات التي سبقتها وإدخالات المستشفيات، والتي لم تؤثر فقط على هؤلاء المرضى وإنما قللت الاهتمام بالمرضى الآخرين: كمرضى السرطان، ومرضى السكري، والتوتر الشرياني، والسمنة، واختلاط الدهون، والامراض السارية الأخرى. بالإضافة إلى الكلفة الاقتصادية الكبيرة والتي أدت إلى اقتراب كثير من الدول والمجتمعات إلى حد الانهيار والافلاس.
والدول تتبنى مرشحيها وتعمل على دعمهم لوجستياً، وكانت في تلك السنة بين أقوى المرشحين Gro Harlem Brundtland التي فازت بالمنصب بين 1998-2003م وكانت رئيسة لوزراء بلادها قبل ذلك (النرويج)، وعندما رشحت نفسها عملت النرويج بكل قواها الدبلوماسية والاقتصادية والعلمية لدعم ترشحها، وكان فريقها في جنيف مؤلفاً من 22 فرداً من النرويج، بالإضافة إلى سفارة النرويج، بينما مجلس وزراء الأردن تأخر حتى الشهر الأخير في الموافقة على ترشحه ولم يقدم أي دعم له سياسياً كان أو دبلوماسياً، ولم يكن معه إلا سفير الأردن في جنيف عبد الله المدادحة والعبد الفقير كامل العجلوني متبرعاً، وكانت النتيجة واضحة بروتلاند ومعها الغرب وأمريكا وكثير من دول أفريقيا، وعارف وحيداً ولكنه تابع حتى الدور ما قبل النهائي. أسوق هذا للتذكرة ودعم المرشح الأردني للمراكز العالمية.
دور عارف في تنفيذ بناء مستشفى الملك عبد الله المؤسس
يقول الدكتور فايز خصاونة وزير الزراعة الاسبق نائب رئيس جامعة العلوم والتكنولوجيا لشؤون المستشفى آنذاك: لقد كان بناء الكليات الطبية إنجازاً ضخماً مهّد بدوره لإنجاز آخر وهو بناء المستشفى التعليمي ليخدم الكليات الطبية. وقد تغيرت الحكومات غير مرة خلال تلك الفترة، وتغير معها وزراء الصحة، وكلما جاء رئيس وزراء ووزراء جدد ووزير صحة جديد، كان رئيس الجامعة يبدأ جولاته الإقناعية من جديد، ثم جاءت فرصة مواتية لطرح القضية على رأس الدولة، فاغتنم الرئيس مناسبة زيارة جلالة الملك الحسين رحمه الله إلى الجامعة وشرح لجلالته حاجة الجامعة وحاجة المحافظة إلى مستشفى لتقديم العناية الطبية المتخصصة لأبناء المحافظة، وسيرفع من مستوى تلك الخدمات، فوافق جلالته على الطلب وأوعز إلى دولة رئيس الوزراء الشريف زيد بن شاكر الذي كان بمعية جلالته بأن يقوم بالإجراءات اللازمة نحو ذلك. وما هي إلا أيام حتى تبلّغ الرئيس أن وزارة التخطيط تطلب باستعجال شديد تقريراً يحتوي على المبررات الفنية لإنشاء المستشفى وكيف سوف يشكّل قيمة مضافة للمنطقة وللمملكة.
ولولا أن القرار كان مسنوداً برغبة ملكية سامية لتم إجهاضه، وهنا كانت جهود د. عارف البطاينة وعلى كل الأصعدة لنزع القرار، فبعد أن تمت الموافقة الأولية على المشروع وتم تقييمه بحدود 55 مليون دينار، عرض على مجلس التعليم العالي ثم على مجلس الوزراء بسبب قيمته المرتفعة أولاً وبسبب تمويله بقرض بكفالة الحكومة ثانياً، فحوّله سيادة الرئيس زيد بن شاكر (سمو الأمير لاحقا) إلى اللجنة المالية الاقتصادية في مجلس الوزراء وكانت برئاسة معالي المهندس علي السحيمات، وكنت إبانها وزيراً للزراعة.
أخذ المشروع بحثاً مطولاً في اللجنة ولم تصل إلى توافق للسير فيه. كان تقرير اللجنة يطلب إعادة دراسة المشروع من ناحية فنية، وعندما عرض التقرير على الجلسة الكاملة لمجلس الوزراء، اتضح مدى معارضة وزير التخطيط للمشروع بالدرجة الأولى وعدد من الوزراء الآخرين، عندما تبين أن الاعتراض كان على إقامة المستشفى بستة طوابق، وأنه ربما كان من الأفضل أن يقام بتوسعة أفقية بدلاً من العمودية وبما لا يزيد على طابقين.
وللتاريخ، لا بد لي من الإشادة بتأييد الدكتور عارف البطاينة وزير الصحة آنذاك للمشروع، وعمل الاتصالات والاجتماعات والاستعانة بكل ما أمكن الاستعانة به للاستمرار بالمشروع.
أعيد المشروع للجامعة، وطُلب إليها أن تتم دراسته من شركة عالمية وعلى حساب الجامعة، ولكن المناورة كانت قد أصبحت معروفة للجميع وخصوصاً لرئيس الجامعة، وهنا كان لا بد من تحشيد الرأي وخصوصاً عند سيادة رئيس الحكومة وعند جهات أخرى، لكن أيضا كان لا بد من الإيفاء بما طلبه مجلس الوزراء. وتحت مطرقة عامل الوقت تصرفت الجامعة بسرعة بطريقة لا أعلم تفاصيلها حيث كنت إبانها لا أزال وزيراً، ولكني علمت أنها تمت بحنكة فائقة، وأن الدراسة التي قدمتها الشركة الاستشارية الأجنبية هي في الحقيقة دراسة أعدتها الجامعة وأقرتها الشركة.
أعيد عرض المشروع على مجلس الوزراء وتم إقراره، عندها طرح العطاء واشترت خمس شركات وثائقه، وبعد فتح العروض ودراستها من اللجنة المختصة في الجامعة قررت إحالته. وباختصار كان د. عارف البطاينة فارس معركة بناء المستشفى، ولولاه ولولا جهوده واتصالاته مع كل الجهات لما نجحت.
مواقف وطنية:
كان الفقيد صاحب قرار جريء لا ترتجف يداه ولا يتردد طالما أنه مقتنع بما يقرر، ما جعله مضرب مثل في القيادة والإدارة الحصيفة.
1- ذات يوم عندما كان وزيراً للصحة جاءته ممثلة للبنك الدولي تعرض عليه قرضاً مُيسّرا بعشرات الملايين بشرط ألا يبني مستشفى جديداً وان لا يُوسِّع مستشفى قائماً، فسألها ماذا أفعل إذن بالقرض؟ فقالت أي شيء تراه مُناسباً يمكنك شراؤه، سيارات وأثاث واصرف كما تشاء من المكافآت، فكانت إجابته: قبل أن تدخلي مكتبي لم أكن كوزير للصحة بحاجة الى أي قرض وبعد أن دخلتِ أرفض أي قرض، وبعد إلحاحها عليه لقبول القرض قال لها بحزم أن لديه عمل يحتاج الى وقت، المندوبة غادرت المكتب بمشاعر تختلف تماماً عن تلك التي دخلت بها، فقد كانت تظن أنّ وزير الصحة سيفرح بملايينها غير المشروطة، لكنها لم تكن تعرف أن عارف البطاينة ليس أي وزير بل ليس أي رجل.
2- أزمة مرض جنون البقر: حين أوقفت لجنة الأمصال والمطاعيم استيراد هذه المواد من المملكة المتحدة بسبب مرض جنون البقر، تدخل السفير البريطاني آنذاك للسماح باستيراد هذه المواد من المملكة المتحدة، فقال له معالي وزير الصحة الدكتور عارف البطاينة: لن أوافق إلا بعد موافقة لجنة الأمصال والمطاعيم الوطنية، ولم توافق لجنة الامصال وأيّد عارف قرار اللجنة رغم غضب السفير البريطاني.
3- المساعدات الأمريكية: فرض المساعدات الأمريكية ضمن بروتوكول يضمن أن معظم هذه المساعدات تعود للولايات المتحدة بطريق مباشر أو غير مباشر، فأوفد معالي وزير الصحة الدكتور عارف البطاينة، الأمين العام الدكتور عدنان عباس للتباحث في شأن صرف هذه المساعدات حسب برنامج وزارة الصحة، ولم يتم الاتفاق على برنامج وزارة الصحة، واعتذرت الوزارة عن قبول هذه المهمة.
كيف عمل عارف على إعادة الثقة في الادوية المصنعة في الأردن بطريقة علمية لا بتصريحات سياسية؟
تصنيع الادوية: من الأمور الهامة في تاريخ الأردن الطبي هي في الفترة التي شغل بها د. عبد الرحيم ملحس والذي خرج بعد تصريحات أشار بها في كل الصحف وتناولتها المواقع المتاحة حينئذ هي سوء نوعية الغذاء وعدم تطابقه مع المواصفات العالمية التي تضمن الشروط الصحية. ولم يقف معالي المرحوم د. عبد الرحيم ملحس عند الغذاء بل تعداه إلى الدواء وكان هذا التصريح يشمل والله أعلم في رأيه الدواء المستورد والمصنّع ولكن أغلب الجهات المعنية هاجمت وشككت في الدواء الأردني المصنّع محلياً والذي يصدّر إلى أغلب الدول العربية وكثيراً من الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا وافريقيا.
إن تصريح وزير الصحة الأردني كان اتهاماً واضحاً وتشكيكاً في سلامة وفعالية الدواء والصادرات الدوائية تقارب المليار دولار وهي من أوائل الصناعات التي يعتمد عليها الدخل القومي مما شكّل ضربة قوبة للاقتصاد والخدمات الطبية الأردنية.
وباختيار عارف لخلافة د. عبد الرحيم ملحس واجه عارف مشكلة كبيرة كان عليه أن يعيد تأهيل الصناعة الدوائية إن لم يكن في التصنيع ولكن في ذهون المستهلكين وكان ذلك عملاً شاقّاً مضنياً يحتاج إلى اقتران الحجج العلمية والبراهين الثبوتية مع الدبلوماسية والاقناع على مستوى صانعي القرار في الدول المستوردة والمستهلكين من أطباء ومواطنين، وقد ركز عارف على الأسس العلمية وتطبيق المعايير الدولية ونجح في ذلك نجاحاً باهراً لم يتوقعه أحد.
وطبّق في تصنيع الادوية حسب "ممارسة أسس التصنيع الجيد"Good Manufacturing Practice، فشكّل لجنةً لهذه المهمة، حيث وضعت اللجنة هذه الأسس وأصبحت نافذة المفعول، بقرار من معالي وزير الصحة الدكتور عارف البطاينة.
تسعون عاماً ونيّف لم يكذب ولم يتملق ولم يجامل على حساب الحق والأخلاق والكرامة – عاشر وتعامل مع الملوك والأمراء والنبلاء ورجال الدين وشيوخ العشائر المخضرمين والأطباء والمقيمين وطلاب الطب لم يؤذ احداً بكلمة جارحة أو تصرف فض كان طبيباً وقائداً ذكياً إنسانا منسجماً مع ذاته حباه الله بحس مفرط للتفريق بين مقدر العمل والمتملق، المؤمن بما يقوم به والمنافق.
من خلال خمسين عاماً لم أسمع منه ما يؤذي أحداً، لم يكن يهمز ولا يلمز، عرف فقيدنا الكثير عن ضعف من عملوا معه وأحياناً سوء أمانتهم ليس من قال وقيل ولكن بالبراهين المادية ورغم ذلك لم يؤذِ أحداً منهم بقول أو فعل حتى في الوقت الذي كان يقدر على ذلك بل تجاوز ومشى دون الوقوف هنيهة واحدة ليفكر في الإساءة أو سوء التصرف.
كان صاحب موقف ورأي سديد، كان صعباً صلباً يقول الحق دون مواربة او تملق، كان يحب جميع من يعاشرهم، كان واضح الرؤيا صادق القول.
والله من وراء القصد..

نيسان ـ نشر في 2023-06-21 الساعة 08:17

الكلمات الأكثر بحثاً