من رزنامة السلطة الرابعة
نيسان ـ نشر في 2023-07-18 الساعة 18:37
نيسان ـ عبدالسلام الطراونة
ذات زمان مضى وانقضى، تنمرت احدى الحكومات في بلدنا العزيز على مؤسستي الرأي والدستور معاً.. فقد وضع رئيس الحكومة انذاك قرده على طحيناتنا.. وانتهجت الحكومة في عهده طرقاً شتى وأساليب عديده لمحاربتنا في رزقنا واخذت تطارد الاعلان في محاولة لتجفيف موارد دخلنا تمهيداً لكسر شوكتنا في المؤسستين المذكورتين وادخالنا في بيت طاعة الحكومة عنوةً!!
وبلغ من دهاء رئيس الحكومة ان انتهج اسلوباً باطنياً ماكراً في التعاطي معنا بحيث كان يصافحنا نحن اصحاب الصحف باليمنى بحراره وكان يخفي في يده الثانيه خنجر الحسم ومحاصرة الاعلان والتضييق على موارد الدخل في المؤسستين الوطنيتين الرأي والدستور!!
وقد حاولنا من جانبنا انتهاج سبل الحكمة والصبر والتروي في التعاطي مع الرئيس ووزرائه اثناء الخلاف "الخفي" الناشب بيننا بهدف العدول عن استهدافنا واختصار الشر من قصيره!! ولكن دون جدوى!! فقد مضت الحكومة في غييها وشرعت في رفع وتيرة الخلاف واستفزازنا نحن اصحاب الصحف والزملاء العاملين في مجال الصحافه دون ان يرف لها جفن!!
باختصار شديد ركبت الحكومة رأسها ونحن ايضاً ما قصرنا وركبنا رؤوسنا ولم يعد للوساطات مكان ولا للصلح مطرح!!
وانطلاقاً من قناعتنا الأكيده بأنه لا ملاذ لنا بعد الله عز وجل سوى جلالة الملك الحسين من اجل وضع حد لجور الحكومة ورفع سيف الظلم المسلط على رؤوسنا فقد ارتأينا، والحالة هذه، بأن نجتمع لجنة من أصحاب الصحف تضم الأستاذ جمعه حماد والأستاذ محمود الشريف والاستاذ محمود الكايد والاستاذ طارق المصاروه وكاتب السطور العبد الفقير لله واسمي عبدالسلام الطراونه.
وكان الهدف من وراء الاجتماع تدارس الأمر واتخاذ أنجع السبل للدفاع عن المؤسستين الوطنيتين اللتين تعيلان الاف الاسر الاردنيه والحفاظ على مصادر رزقنا وموارد دخلنا في وجه تلك الهجمة الشرسه من قبل الحكومه!!
واستقر الرأي بأن نكتب افتتاحية موحده تنشر في الجريدتين في وقت واحد وتكون هذه الافتتاحيه الموحده بمثابة مظلمة أو شكوى خطيه مرفوعة الى جلالة قائد الوطن نشرح من خلالها استهداف الحكومه لمصادر دخلنا المتأتيه من الاعلانات وبالتالي اضعاف دور الصحيفتين وذبولهما على المدى البعيد!!
وتتضمن الافتتاحية الموحده مناشدة جلالة الحسين، الملك العادل الذي لا يظلم عنده أحد لأن يرفع عنا سيف ظلم الحكومة المسلط على رقابنا ونؤكد لجلالته بأننا اصبحنا في وضع صعب لا نملك معه سوى اغلاق الصحيفتين وتسليم مفاتيحهما للحكومه لتتولى هي بنفسها تسيير وادارة دفة الامور وننسحب نحن اصحاب الصحف الامر الذي يعني بأنه لن تعود هناك صحافة في الاردن وهذا امر يبعث على القلق عمودياً وافقياً لما له من دلالات خطيره!!
وتم الاتفاق بأن ارابط أنا في جريدة (الدستور) ويرابط في الوقت ذاته زميلي الاستاذ محمود الكايد في جريدة (الرأي) انتظاراً لكلمة السر واشارة البدء التي ستأتينا من العملاقين الكبيرين طيب الله ثراهما الاستاذ جمعه حماد والاستاذ محمود الشريف عند الساعة الواحده فجراً ليصار الى نشر (الافتتاحية الموحده) في صبيحة ذلك اليوم متضمنة الشكوى الخطيه والصحفيه المرفوعة الى مقام قائد الوطن الحسين الغالي.
وتشاء الصدفه، لا يا ربي سامحني ليش الكذب، تشاء الوشايه ان تخدم الحكومه ورئيسها الذي اعلن الحرب علينا دون مبرر وتسعفه في اللحظة الأخيره .. فقد اتصل رئيس الحكومة انذاك عند الساعه العاشره والنصف مساء ذلك اليوم مع الاستاذ جمعه حماد لأمر ما .. وقيل له بأن الحاج جمعه طيب الله ثراه ليس في المنزل ولا في البيت ولا يعرف مقسم الجريده مكان تواجده!!
ثم اتصل رئيس الحكومة بعد ذلك مع الاستاذ محمود الشريف طيب الله ثراه وسمع نفس الجواب!!
فأدرك رئيس الوزراء أن امراً ما يطبخ في الخفاء .. فأجرى اتصالاته وحرك قرون الاستشعار المبثوثة هنا وهناك ليبوح له طرف ثالث بأن اصحاب الصحف والعاملين فيها مستاؤون من اجراءات الحكومة ضد الصحف وهم بصدد رفع شكوى لا تُعرف ماهيتها الى قائد الوطن مع ما يستتبع من نتائج قد لا تكون في صالح الحكومه!!
وعند الساعة الواحدة الا ربعاً من فجر ذلك اليوم رن جرس الهاتف في مكتبي بجريدة (الدستور) ورن في الوقت ذاته هاتف مكتب زميلي في (الرأي) الاستاذ محمود الكايد طيب الله ثراه.. وكان المتحدثان هما الاستاذ جمعه حماد والاستاذ محمود الشريف.. وكان فحوى الاتصال يفيد بأنه لا حاجة لنشر (الافتتاحيه الموحده) لان الحكومه تراجعت قبل ساعة عن قراراتها الجائره وان الوئام قد ساد محل الخصام!
ولعلي لا اجانب الصواب اذا قلت بأن الصحافة قد تغلبت على الحكومه من خلال عدالة الحق ودوام الصبر واعتماد الحنكة والرويه وكفى الله الصحفيين شر الصراع والمواجهة مع الحكومه!!
أما الورقه اثانيه التي انتزعتها من رزنامة السلطة الرابعة فانها تقول: ذات صباح عندما كنت رئيساً لتحرير صحيفة (صوت الشعب) غادرت مكتبي لتفقد المطبعه.. وفي طريقي صادفت زميلي المرحوم محمد طمليه الكاتب الساخر وصاحب القلم المبدع فألقيت عليه السلام ورد بالمثل.. وسألته ان كان قد كتب مقاله..فكان رده بأنه لايستطيع الكتابه لأن مزاجه (مُش ولا بد).. فقلت مازحاً: عندما يروق مزاجك وتكتب ابعث بمقالك لي.. وعند عودتي من المطبعه وجدته ما يزال "يقصدر" في ردهات الجريده ولم يكتب مقاله بعد!!
فقلت له: يا أخا العرب.. تعال نحتسي القهوة في مكتبي..فرد ضاحكاً: دعوة رئيس التحرير لا ترد!! وسرنا يداً بيد الى مكتبي .. وطلبت ممن حولي بأن يحضروا القهوة.. والقرطاس..ثم اعطيته قلمي وقلت له: يا اخ محمد..القلم بيدك .. والورق امامك وفنجان القهوة ثالثهما.. والامر متروك لك من حيث الكتابه او عدم الكتابه!!
فصمت برهة- ثم قال: سأكتب مقالاً لكن شريطة أن تنشره بحذافيره ولا تحذف منه حرفاً واحداً..فقلت: لك ذلك يا محمد!!
حاصله.. بعد نصف ساعة فرغ من مقاله.. وها انذا اقتطف وبالحرف الواحد بعضاً من مفاصل ما كتب على النحو التالي: (جئت ذات صباح الى جريدتي (صوت الشعب) ..واخذت اتمشكح في ردهاتها.. التقاني السيد رئيس التحرير عبدالسلام الطراونه.. والذي القى علي التحيه فرددت بمثلها.. وأطراني بكلام جميل.. ولا ادري كيف أغواني بدامثته المعهوده وادخلني الى مكتبه لاحتساء القهوة معه.. فقال لمن حوله: ائتوني بالقرطاس.. واعطاني قلمه الخاص.. وتبسم وقال: يا محمد ان القلم بيدك والورق أمامك.. فان شئت ان تكتب فاكتب يا رعاك الله!! فماذا عساني اكتب ايها الساده؟! هل تتوقعون مني ان اكتب وانتقد مسيرة السلام ومعاهدة السلام ورئيس التحرير اسمه عبدالسلام؟! أم ترون بأن اوجه سهام النقد لمعاهدة السلام فيما أحد اركانها شخصية تحظى بالاحترام وله هيبة أخشى سطوتها ويحمل ذات الاسم الذي يحمله رئيس التحرير!!
أم تريدونني أن اخربش سطراً ضد الاتفاقية والمعاهدة ومجرياتها؟! والان اقول بعد ان كتبت ما كتبت فانه لم يعد امامي سوى ان اطلق ساقي للريح وانفذ بريشي هرباً من سطوة قلم رئيس التحرير زميلي عبدالسلام الطراونه وسطوة الجهات المعنيه وغير المعنيه ..وسلامتكو!!
وفي اليوم التالي هاتفني دولة رئيس الوزراء انذاك الراحل الكبير الدكتور عبدالسلام المجالي طيب الله ثراه والذي اكن له كل الاحترام والتقدير وقال بلهجته المحببه: يا فصيح ..يا عبدالسلام بلغني ان كاتباً لديك في (صوت الشعب) يشاغب علي وينتقد معاهدة السلام والجهود المبذوله التي اعادت لنا الارض ومعظم حقوقنا ..فقلت: يا دولة الباشا هذا زميلي محمد طمليه وهو كاتب ساخر كتب مقالاً فيه بعض النقد لاتفاقية السلام واوعزت بنشره منطلقاً في ذلك من مراهنتي على سعة صدرك واحترامك للرأي الاخر!! فضحك رحمه الله وقال: ياخوفي يا عبدالسلام انك شريك في هذه التكنولوجيا التي صدر عنها المقال!!
فضحكنا معاً.. وانتهى الامر على خير!! ونفذ محمد طمليه بريشه بناءً على رغبته!!
والواقعه الثالثة من الرزنامه تبوح بما يلي: كان ذلك في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي اذا لم تخنني الذاكره عندما تم ترشيحي أنا وزميلي المرحوم الاستاذ بدر عبدالحق من قبل نقابة الصحفيين لحضور مؤتمر (الاتحاد الدولي للصحفيين) وتمثيل الاردن في المؤتمر المذكور والذي عقد في (نيودلهي) برعاية رئيسة الوزراء السيده انديرا غاندي. وبالمناسبه المرحوم (بدر) شهادتي به مجروحه لكن ذلك لا يمنع من ان اقول بأن له من اسمه نصيب فهو (بدر) في سماء الصحافه وقلمه نصير الحق ومرساله!!
حاصله.. حزمنا حقائبنا وجهزنا امورنا وتوكلنا على الله وقلنا وين انت يا نيودلهي؟!
وعند الوصول الى فندق (كانيتشكا) حيث تقيم الوفود المشاركه في المؤتمر الدولي رأينا في ردهة الفندق السيد بسام ابو شريف الذي جاء لحضور المؤتمر المذكور ترافقه السيده الفاضله زوجته فسلمنا عليهما ثم ذهبنا الى غرفتينا لاخذ قسط من الراحه استعداداً لحضور جلسات المؤتمر التي ستبدأ في صبيحة الغد!
بالمناسبة الاستاذ بسام ابو شريف شخصية فلسطيميه مشهوره وهو معروف كأحد اركان منظمة التحرير الفلسطينيه واحد مؤسسي الجبهه الشعبيه لتحرير فلسطين وهو ايضاً صاحب وثيقة (حل الدولتين) على ارض فلسطين والتي صدرت في العام 1988 وتحولت فيما بعد الى برنامج سياسي لمنظمة التحرير الفلسطينيه.
حاصله استيقظنا انا وبدر مبكرين في صباح اليوم التالي وتناولنا طعام الافطار ثم طلبنا تكسي لتوصلنا الى مقر المؤتمر ..لكن السياره تأخرت.. ولأن بصلتي محروقه وخاصة اثناء السفر والالتزام بالمواعيد بدقه فقد اقترحت على صديقي (بدر) بأن نستقل احدى عربات (الركشو) او (التك توك) ان شئت.. و(الركشو) لمن لايعرف هو عباره عن عربه صغيره لها ثلاث عجلات ويسوقها شاب أو حصان وبطيئة الحركه.. باختصار هي عربه بدائيه صغيره تتسع لشخصين او ثلاثه "وليس عليها القيمه" وقلت (لبدر) مين عارفنا هون في نيودلهي المهم نصل يا اخوي على المؤتمر!! فوافق وبينما نحن في الطريق الى (الركشو) او (التك توك) واذا بالاستاذ بسام ابو شريف ينتظر وصول السياره..فقلنا له من قبيل المجامله : استاذ بسام نحن سنستقل (ركشوا) ليوصلنا الى المؤتمر فان احببت ان ترافقنا ونتشاطر الجلوس في (الركشو) فان هذا يشكل مصدر سعادة لنا علماً بأن وسيلة الركوب هذه يا استاذ بسام ليست قد المقام!! فرحب بالفكره على الفور وامتطينا ثلاثتنا ظهر (الركشو) .. انا على اليمين وبدر في الوسط والاستاذ بسام على اليسار.. وانطلق (الركشو) بسرعه تعادل سرعة السلحفه على مقياس ريختر.. ولما كنا في عجلة من امرنا للوصول قبل بدء المؤتمر فقد اخذنا ثلاثتنا نستحثه باللغه الانجليزيه بأن يغذ الخطى كي نلحق بالمؤتمر!! ومن كثرة الالحاح التخم المسكين.. وكبا جواد (الركشو)!! وهات حيّكها!!
فقد وجدنا انفسنا نحن الثلاثه (بسام ابو شريف وبدر عبدالحق والعبد الفقير لله عبدالسلام الطراونه) كومة واحده على الرصيف.. وعلى بعد امتار قليله منا خيال الحصان سائق (الركشو) وعند سقوط (الركشو) صحنا ثلاثتنا بلسان عربي غير ذي عوج وقلنا يا ساتر .. يا ساتر..! اما قائد الرحله المغوار فقد صاح بالانجليزيه والهنديه!!
وبدل ان نشعر بالحرج والضيق والاكتئاب نتيجة الحادث الاليم وجدنا انفسنا نضحك بصوت عال رغم اننا كنا بوضع لا نحسد عليه!!
ثم صحونا من الكبوه ..وسندنا (الركشو) الى وضعه الصحيح استعدادا لمواصلة المشوار الى المؤتمر..واخذنا مقاعدنا نحن الثلاثه ولكن بحذر هذه المره..انا على اليمين وبدر"مشخص" في الوسط ورفيقنا في الحادث الاستاذ بسام على اليسار!
وبينما كان الاستاذ بسام ابو شريف مشغولاً بترتيب اوراقه واصلاح هندامه في اعقاب الحادث.. فقد التفت الي صديقي (بدر) وقال مازحاً بصوت خفيض: يا عبدالسلام يا اخوي ..هل لاحظت اننا كنا خلال الحادث نضحك بشده بدل ان نرتبك ونحزن فما هو تفسيرك؟!
قلت انا من ناحيتي يا بدر كنت اضحك لسبب بسيط وهو انه سيعوزني الجواب اذا سُئلت من(الدائره) عند عودتي الى عمان عما كنت افعله في نيودلهي بمعية الاستاذ بسام ابو شريف الركن الاساسي في الجبهة الشعبيه!! فماذا عساني اقول؟! والشيء ذاته ينطبق على شريكنا في الحادث الاستاذ بسام ابو شريف فماذا تراه يقول لو سئل ذات يوم: ما الذي كنت تفعله (يا بسام) مع اثنين من الصحفيين الاردنيين المحسوبين على النظام في المملكه الاردنيه الهاشميه!!
وسألت بدر (رحمه الله) وماذا عنك انت يا بدر والذي كنت تطخطخ من الضحك اثناء الحادث؟ فقال ضحكت يا عبدالسلام وشر البلية ما يضحك.. ان تكون نهايتي على يد (ركشو) أو تيك توك حقير بدل ان تخبطني سياره فارهه وعليها القيمه!!
وضحكنا ثانيه وبصوت عال.. مما اثار فضول الاستاذ بسام والذي قال: ما بالكما تضحكان يا جماعة الخير وما السبب.. اشركاني معكما!! فقلت له: سنفعل ذلك بعد انتهاء جلسة المؤتمر التي بدأت للتو!! وها انذا ابوح لرفيقنا في حادث (الركشو) الاستاذ بسام ابو شريف الان عن سبب ضحكنا في نيودلهي ذات زمان وبالتحديد في الثمانينيات!!
لقد فاتني ان اقول بأن اول المهنئيين بسلامتنا نحن الثلاثه اثر الحادث كان ابن عمي المهندس أحمد سلمان الطراونه والذي كان وقتها في نيودلهي ضمن وفد اردني في زيارة للهند من اجل تسويق الفوسفات.
فقد هرع الى فندقنا مشكوراً للاطمئنان على سلامتنا ورويت له القصه بأكملها وقلت له: نحن بخير يا ابن العم..ولكن ارجوك لا تجيب سيره للحادث..وخليها بسرك!!
ذات زمان مضى وانقضى، تنمرت احدى الحكومات في بلدنا العزيز على مؤسستي الرأي والدستور معاً.. فقد وضع رئيس الحكومة انذاك قرده على طحيناتنا.. وانتهجت الحكومة في عهده طرقاً شتى وأساليب عديده لمحاربتنا في رزقنا واخذت تطارد الاعلان في محاولة لتجفيف موارد دخلنا تمهيداً لكسر شوكتنا في المؤسستين المذكورتين وادخالنا في بيت طاعة الحكومة عنوةً!!
وبلغ من دهاء رئيس الحكومة ان انتهج اسلوباً باطنياً ماكراً في التعاطي معنا بحيث كان يصافحنا نحن اصحاب الصحف باليمنى بحراره وكان يخفي في يده الثانيه خنجر الحسم ومحاصرة الاعلان والتضييق على موارد الدخل في المؤسستين الوطنيتين الرأي والدستور!!
وقد حاولنا من جانبنا انتهاج سبل الحكمة والصبر والتروي في التعاطي مع الرئيس ووزرائه اثناء الخلاف "الخفي" الناشب بيننا بهدف العدول عن استهدافنا واختصار الشر من قصيره!! ولكن دون جدوى!! فقد مضت الحكومة في غييها وشرعت في رفع وتيرة الخلاف واستفزازنا نحن اصحاب الصحف والزملاء العاملين في مجال الصحافه دون ان يرف لها جفن!!
باختصار شديد ركبت الحكومة رأسها ونحن ايضاً ما قصرنا وركبنا رؤوسنا ولم يعد للوساطات مكان ولا للصلح مطرح!!
وانطلاقاً من قناعتنا الأكيده بأنه لا ملاذ لنا بعد الله عز وجل سوى جلالة الملك الحسين من اجل وضع حد لجور الحكومة ورفع سيف الظلم المسلط على رؤوسنا فقد ارتأينا، والحالة هذه، بأن نجتمع لجنة من أصحاب الصحف تضم الأستاذ جمعه حماد والأستاذ محمود الشريف والاستاذ محمود الكايد والاستاذ طارق المصاروه وكاتب السطور العبد الفقير لله واسمي عبدالسلام الطراونه.
وكان الهدف من وراء الاجتماع تدارس الأمر واتخاذ أنجع السبل للدفاع عن المؤسستين الوطنيتين اللتين تعيلان الاف الاسر الاردنيه والحفاظ على مصادر رزقنا وموارد دخلنا في وجه تلك الهجمة الشرسه من قبل الحكومه!!
واستقر الرأي بأن نكتب افتتاحية موحده تنشر في الجريدتين في وقت واحد وتكون هذه الافتتاحيه الموحده بمثابة مظلمة أو شكوى خطيه مرفوعة الى جلالة قائد الوطن نشرح من خلالها استهداف الحكومه لمصادر دخلنا المتأتيه من الاعلانات وبالتالي اضعاف دور الصحيفتين وذبولهما على المدى البعيد!!
وتتضمن الافتتاحية الموحده مناشدة جلالة الحسين، الملك العادل الذي لا يظلم عنده أحد لأن يرفع عنا سيف ظلم الحكومة المسلط على رقابنا ونؤكد لجلالته بأننا اصبحنا في وضع صعب لا نملك معه سوى اغلاق الصحيفتين وتسليم مفاتيحهما للحكومه لتتولى هي بنفسها تسيير وادارة دفة الامور وننسحب نحن اصحاب الصحف الامر الذي يعني بأنه لن تعود هناك صحافة في الاردن وهذا امر يبعث على القلق عمودياً وافقياً لما له من دلالات خطيره!!
وتم الاتفاق بأن ارابط أنا في جريدة (الدستور) ويرابط في الوقت ذاته زميلي الاستاذ محمود الكايد في جريدة (الرأي) انتظاراً لكلمة السر واشارة البدء التي ستأتينا من العملاقين الكبيرين طيب الله ثراهما الاستاذ جمعه حماد والاستاذ محمود الشريف عند الساعة الواحده فجراً ليصار الى نشر (الافتتاحية الموحده) في صبيحة ذلك اليوم متضمنة الشكوى الخطيه والصحفيه المرفوعة الى مقام قائد الوطن الحسين الغالي.
وتشاء الصدفه، لا يا ربي سامحني ليش الكذب، تشاء الوشايه ان تخدم الحكومه ورئيسها الذي اعلن الحرب علينا دون مبرر وتسعفه في اللحظة الأخيره .. فقد اتصل رئيس الحكومة انذاك عند الساعه العاشره والنصف مساء ذلك اليوم مع الاستاذ جمعه حماد لأمر ما .. وقيل له بأن الحاج جمعه طيب الله ثراه ليس في المنزل ولا في البيت ولا يعرف مقسم الجريده مكان تواجده!!
ثم اتصل رئيس الحكومة بعد ذلك مع الاستاذ محمود الشريف طيب الله ثراه وسمع نفس الجواب!!
فأدرك رئيس الوزراء أن امراً ما يطبخ في الخفاء .. فأجرى اتصالاته وحرك قرون الاستشعار المبثوثة هنا وهناك ليبوح له طرف ثالث بأن اصحاب الصحف والعاملين فيها مستاؤون من اجراءات الحكومة ضد الصحف وهم بصدد رفع شكوى لا تُعرف ماهيتها الى قائد الوطن مع ما يستتبع من نتائج قد لا تكون في صالح الحكومه!!
وعند الساعة الواحدة الا ربعاً من فجر ذلك اليوم رن جرس الهاتف في مكتبي بجريدة (الدستور) ورن في الوقت ذاته هاتف مكتب زميلي في (الرأي) الاستاذ محمود الكايد طيب الله ثراه.. وكان المتحدثان هما الاستاذ جمعه حماد والاستاذ محمود الشريف.. وكان فحوى الاتصال يفيد بأنه لا حاجة لنشر (الافتتاحيه الموحده) لان الحكومه تراجعت قبل ساعة عن قراراتها الجائره وان الوئام قد ساد محل الخصام!
ولعلي لا اجانب الصواب اذا قلت بأن الصحافة قد تغلبت على الحكومه من خلال عدالة الحق ودوام الصبر واعتماد الحنكة والرويه وكفى الله الصحفيين شر الصراع والمواجهة مع الحكومه!!
أما الورقه اثانيه التي انتزعتها من رزنامة السلطة الرابعة فانها تقول: ذات صباح عندما كنت رئيساً لتحرير صحيفة (صوت الشعب) غادرت مكتبي لتفقد المطبعه.. وفي طريقي صادفت زميلي المرحوم محمد طمليه الكاتب الساخر وصاحب القلم المبدع فألقيت عليه السلام ورد بالمثل.. وسألته ان كان قد كتب مقاله..فكان رده بأنه لايستطيع الكتابه لأن مزاجه (مُش ولا بد).. فقلت مازحاً: عندما يروق مزاجك وتكتب ابعث بمقالك لي.. وعند عودتي من المطبعه وجدته ما يزال "يقصدر" في ردهات الجريده ولم يكتب مقاله بعد!!
فقلت له: يا أخا العرب.. تعال نحتسي القهوة في مكتبي..فرد ضاحكاً: دعوة رئيس التحرير لا ترد!! وسرنا يداً بيد الى مكتبي .. وطلبت ممن حولي بأن يحضروا القهوة.. والقرطاس..ثم اعطيته قلمي وقلت له: يا اخ محمد..القلم بيدك .. والورق امامك وفنجان القهوة ثالثهما.. والامر متروك لك من حيث الكتابه او عدم الكتابه!!
فصمت برهة- ثم قال: سأكتب مقالاً لكن شريطة أن تنشره بحذافيره ولا تحذف منه حرفاً واحداً..فقلت: لك ذلك يا محمد!!
حاصله.. بعد نصف ساعة فرغ من مقاله.. وها انذا اقتطف وبالحرف الواحد بعضاً من مفاصل ما كتب على النحو التالي: (جئت ذات صباح الى جريدتي (صوت الشعب) ..واخذت اتمشكح في ردهاتها.. التقاني السيد رئيس التحرير عبدالسلام الطراونه.. والذي القى علي التحيه فرددت بمثلها.. وأطراني بكلام جميل.. ولا ادري كيف أغواني بدامثته المعهوده وادخلني الى مكتبه لاحتساء القهوة معه.. فقال لمن حوله: ائتوني بالقرطاس.. واعطاني قلمه الخاص.. وتبسم وقال: يا محمد ان القلم بيدك والورق أمامك.. فان شئت ان تكتب فاكتب يا رعاك الله!! فماذا عساني اكتب ايها الساده؟! هل تتوقعون مني ان اكتب وانتقد مسيرة السلام ومعاهدة السلام ورئيس التحرير اسمه عبدالسلام؟! أم ترون بأن اوجه سهام النقد لمعاهدة السلام فيما أحد اركانها شخصية تحظى بالاحترام وله هيبة أخشى سطوتها ويحمل ذات الاسم الذي يحمله رئيس التحرير!!
أم تريدونني أن اخربش سطراً ضد الاتفاقية والمعاهدة ومجرياتها؟! والان اقول بعد ان كتبت ما كتبت فانه لم يعد امامي سوى ان اطلق ساقي للريح وانفذ بريشي هرباً من سطوة قلم رئيس التحرير زميلي عبدالسلام الطراونه وسطوة الجهات المعنيه وغير المعنيه ..وسلامتكو!!
وفي اليوم التالي هاتفني دولة رئيس الوزراء انذاك الراحل الكبير الدكتور عبدالسلام المجالي طيب الله ثراه والذي اكن له كل الاحترام والتقدير وقال بلهجته المحببه: يا فصيح ..يا عبدالسلام بلغني ان كاتباً لديك في (صوت الشعب) يشاغب علي وينتقد معاهدة السلام والجهود المبذوله التي اعادت لنا الارض ومعظم حقوقنا ..فقلت: يا دولة الباشا هذا زميلي محمد طمليه وهو كاتب ساخر كتب مقالاً فيه بعض النقد لاتفاقية السلام واوعزت بنشره منطلقاً في ذلك من مراهنتي على سعة صدرك واحترامك للرأي الاخر!! فضحك رحمه الله وقال: ياخوفي يا عبدالسلام انك شريك في هذه التكنولوجيا التي صدر عنها المقال!!
فضحكنا معاً.. وانتهى الامر على خير!! ونفذ محمد طمليه بريشه بناءً على رغبته!!
والواقعه الثالثة من الرزنامه تبوح بما يلي: كان ذلك في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي اذا لم تخنني الذاكره عندما تم ترشيحي أنا وزميلي المرحوم الاستاذ بدر عبدالحق من قبل نقابة الصحفيين لحضور مؤتمر (الاتحاد الدولي للصحفيين) وتمثيل الاردن في المؤتمر المذكور والذي عقد في (نيودلهي) برعاية رئيسة الوزراء السيده انديرا غاندي. وبالمناسبه المرحوم (بدر) شهادتي به مجروحه لكن ذلك لا يمنع من ان اقول بأن له من اسمه نصيب فهو (بدر) في سماء الصحافه وقلمه نصير الحق ومرساله!!
حاصله.. حزمنا حقائبنا وجهزنا امورنا وتوكلنا على الله وقلنا وين انت يا نيودلهي؟!
وعند الوصول الى فندق (كانيتشكا) حيث تقيم الوفود المشاركه في المؤتمر الدولي رأينا في ردهة الفندق السيد بسام ابو شريف الذي جاء لحضور المؤتمر المذكور ترافقه السيده الفاضله زوجته فسلمنا عليهما ثم ذهبنا الى غرفتينا لاخذ قسط من الراحه استعداداً لحضور جلسات المؤتمر التي ستبدأ في صبيحة الغد!
بالمناسبة الاستاذ بسام ابو شريف شخصية فلسطيميه مشهوره وهو معروف كأحد اركان منظمة التحرير الفلسطينيه واحد مؤسسي الجبهه الشعبيه لتحرير فلسطين وهو ايضاً صاحب وثيقة (حل الدولتين) على ارض فلسطين والتي صدرت في العام 1988 وتحولت فيما بعد الى برنامج سياسي لمنظمة التحرير الفلسطينيه.
حاصله استيقظنا انا وبدر مبكرين في صباح اليوم التالي وتناولنا طعام الافطار ثم طلبنا تكسي لتوصلنا الى مقر المؤتمر ..لكن السياره تأخرت.. ولأن بصلتي محروقه وخاصة اثناء السفر والالتزام بالمواعيد بدقه فقد اقترحت على صديقي (بدر) بأن نستقل احدى عربات (الركشو) او (التك توك) ان شئت.. و(الركشو) لمن لايعرف هو عباره عن عربه صغيره لها ثلاث عجلات ويسوقها شاب أو حصان وبطيئة الحركه.. باختصار هي عربه بدائيه صغيره تتسع لشخصين او ثلاثه "وليس عليها القيمه" وقلت (لبدر) مين عارفنا هون في نيودلهي المهم نصل يا اخوي على المؤتمر!! فوافق وبينما نحن في الطريق الى (الركشو) او (التك توك) واذا بالاستاذ بسام ابو شريف ينتظر وصول السياره..فقلنا له من قبيل المجامله : استاذ بسام نحن سنستقل (ركشوا) ليوصلنا الى المؤتمر فان احببت ان ترافقنا ونتشاطر الجلوس في (الركشو) فان هذا يشكل مصدر سعادة لنا علماً بأن وسيلة الركوب هذه يا استاذ بسام ليست قد المقام!! فرحب بالفكره على الفور وامتطينا ثلاثتنا ظهر (الركشو) .. انا على اليمين وبدر في الوسط والاستاذ بسام على اليسار.. وانطلق (الركشو) بسرعه تعادل سرعة السلحفه على مقياس ريختر.. ولما كنا في عجلة من امرنا للوصول قبل بدء المؤتمر فقد اخذنا ثلاثتنا نستحثه باللغه الانجليزيه بأن يغذ الخطى كي نلحق بالمؤتمر!! ومن كثرة الالحاح التخم المسكين.. وكبا جواد (الركشو)!! وهات حيّكها!!
فقد وجدنا انفسنا نحن الثلاثه (بسام ابو شريف وبدر عبدالحق والعبد الفقير لله عبدالسلام الطراونه) كومة واحده على الرصيف.. وعلى بعد امتار قليله منا خيال الحصان سائق (الركشو) وعند سقوط (الركشو) صحنا ثلاثتنا بلسان عربي غير ذي عوج وقلنا يا ساتر .. يا ساتر..! اما قائد الرحله المغوار فقد صاح بالانجليزيه والهنديه!!
وبدل ان نشعر بالحرج والضيق والاكتئاب نتيجة الحادث الاليم وجدنا انفسنا نضحك بصوت عال رغم اننا كنا بوضع لا نحسد عليه!!
ثم صحونا من الكبوه ..وسندنا (الركشو) الى وضعه الصحيح استعدادا لمواصلة المشوار الى المؤتمر..واخذنا مقاعدنا نحن الثلاثه ولكن بحذر هذه المره..انا على اليمين وبدر"مشخص" في الوسط ورفيقنا في الحادث الاستاذ بسام على اليسار!
وبينما كان الاستاذ بسام ابو شريف مشغولاً بترتيب اوراقه واصلاح هندامه في اعقاب الحادث.. فقد التفت الي صديقي (بدر) وقال مازحاً بصوت خفيض: يا عبدالسلام يا اخوي ..هل لاحظت اننا كنا خلال الحادث نضحك بشده بدل ان نرتبك ونحزن فما هو تفسيرك؟!
قلت انا من ناحيتي يا بدر كنت اضحك لسبب بسيط وهو انه سيعوزني الجواب اذا سُئلت من(الدائره) عند عودتي الى عمان عما كنت افعله في نيودلهي بمعية الاستاذ بسام ابو شريف الركن الاساسي في الجبهة الشعبيه!! فماذا عساني اقول؟! والشيء ذاته ينطبق على شريكنا في الحادث الاستاذ بسام ابو شريف فماذا تراه يقول لو سئل ذات يوم: ما الذي كنت تفعله (يا بسام) مع اثنين من الصحفيين الاردنيين المحسوبين على النظام في المملكه الاردنيه الهاشميه!!
وسألت بدر (رحمه الله) وماذا عنك انت يا بدر والذي كنت تطخطخ من الضحك اثناء الحادث؟ فقال ضحكت يا عبدالسلام وشر البلية ما يضحك.. ان تكون نهايتي على يد (ركشو) أو تيك توك حقير بدل ان تخبطني سياره فارهه وعليها القيمه!!
وضحكنا ثانيه وبصوت عال.. مما اثار فضول الاستاذ بسام والذي قال: ما بالكما تضحكان يا جماعة الخير وما السبب.. اشركاني معكما!! فقلت له: سنفعل ذلك بعد انتهاء جلسة المؤتمر التي بدأت للتو!! وها انذا ابوح لرفيقنا في حادث (الركشو) الاستاذ بسام ابو شريف الان عن سبب ضحكنا في نيودلهي ذات زمان وبالتحديد في الثمانينيات!!
لقد فاتني ان اقول بأن اول المهنئيين بسلامتنا نحن الثلاثه اثر الحادث كان ابن عمي المهندس أحمد سلمان الطراونه والذي كان وقتها في نيودلهي ضمن وفد اردني في زيارة للهند من اجل تسويق الفوسفات.
فقد هرع الى فندقنا مشكوراً للاطمئنان على سلامتنا ورويت له القصه بأكملها وقلت له: نحن بخير يا ابن العم..ولكن ارجوك لا تجيب سيره للحادث..وخليها بسرك!!
نيسان ـ نشر في 2023-07-18 الساعة 18:37
رأي: عبدالسلام الطراونة