اتصل بنا
 

د. الطويسي: الاحتكارات الكبرى في الاقتصاد الرقمي تترك اثارا بالغة الخطورة على الثقافة

نيسان ـ نشر في 2023-07-19 الساعة 20:51

x
نيسان ـ قال الدكتور باسم الطويسي وزير الثقافة الأسبق واستاذ الصحافة والدراسات الإعلامية في معهد الدوحة للدراسات العليا ان النظام البيئي الرقمي الذي بات يسيطر على كافة نواحي الحياة الإنسانية اخذ يشكل سمات ثقافية بالغة الخطورة نتيجة لحالة السيطرة والتحكم والاحتكار التي يعاني منها الاقتصاد الرقمي العالمي فيما تخسر المجتمعات بناء إنسانية مستنيرة من الممكن ان توفر اسبابها شبكة الانترنت نتيجة قدرتها من تمكين الناس من المعرفة.
وأضاف في محاضرة القاها في الجمعية الفلسفية الأردنية بعنوان "الهيمنة الجديدة: سمات ثقافية لعصر الاقتصاد الرقمي" ان عالم الاقتصاد الرقمي يسير نحو انهاء المفهوم التقليدي للموارد والتي درات تاريخا حول الأرض والانسان ثم الالة والطاقة وغيرها، فالاقتصاد الجديد اقتصاد فقير بمنظور الاقتصاد التقليدي لأنه يعتمد على موارد جديدة ومختلفة عما عرفناه في القرنين التاسع عشر والعشرين.
وأوضح ان العالم الرقمي والبيانات وفي الأصل أدوات محايدة؛ وتبدأ الخطورة كلما تم احتكار هذا العالم والتحكم به، وبالتالي فالقوة الرقمية قوة مبدعة ومنشئة وقوة مدمرة أيضا، كما كان يحدث في التاريخ فان الأدوات الاتصالية تمر في مراحل اختطاف وانتكاس لصالح مراكز انتاج الهيمنة الاقتصادية والسياسية والثقافية ، لقد بنيت امال كبيرة على التحول الرقمي في بدايات القرن ، ومن الآمال بان يفتح هذا التحول البابا واسعا امام ما يسمى " حكمة الجموع" التي ستوفر لأول مرة امام البشرية منصات لإيجاد الحلول والأفكار الابتكارية من ملايين من جموع البشر ، وكما هو الحال في فكرة "دمقرطة الحياة الاجتماعية" وإتاحة المعرفة امام الجميع من خلال اتاحة الوصول السهل للمعرفة والمعلومات أي تجزئة القوة في المجتمع بحيث يصبح آحاد الناس لهم حصة في هذه القوة ؛ لأنهم يعرفون.
لكن مسار التحول الرقمي الذي شهده العالم خلال العقدين الماضيين كذب هذه التوقعات او افشل هذه الفرص؛ حينما اتجه العالم الى بناء احتكارات ضخمة تسيطر على الصناعة الرقمية، وحول شبكة الانترنت الى شبكة مركزية يسهل التحكم بها، ان البيانات الضخمة ليست مجرد قوة اقتصادية مضافة بفعل الاقتصاد الرقمي، بل قوة جديدة للهيمنة والسيطرة والتحكم والمراقبة متاحة امام الشركات الكبرى والحكومات.
قارن المحاضر بين قوة الشركات الاحتكارية الخمسة الكبرى التي شكلت النظام الرأسمالي في بداياته منذ القرن السادس عشر (هي شركة الهند الشرقية البريطانية، شركة الهند الشرقية الهولندية، شركة المسيسبي (فرنسا)، وبنك إنجلترا، وشركة هدسون باي) وسيطرت على الاقتصاد العالمي وقامت على الاحتكار والهيمنة ، وبين شركات التكنولوجيا الرقمية المعاصرة الخمسة ( ( جوجل ، أبل ، ميتا فيرس ، امازون ، مايكروسفت ) التي حققت ثروات خيالية نتيجة الاحتكارات العملاقة، ما يفسر كيف تعمل الهيمنة الاحتكارية في إعادة انتاج نفسها.
توقف المحاضر امام محركات الاقتصاد الرقمي المعاصر تحديدا في الصناعات الثقافية والإعلامية، وابرزها البيانات الضخمة باعتبارها المورد الاقل ثمنا إلى جانب كونه موردا لا ينضب، فتداول البيانات غير لأول مرة لعبة المستهلك والمنتج التقليدية فالمستهلك اصبح يتحول بعلمه او بدون علمه إلى منتج للبيانات التي ييتم تسليعها وبيعها. في عالم التحكم بالبيانات الضخمة يتحول الافراد إلى سلع بإرادتهم يتم التحكم بهم اليا أو رقميا. اما المحرك الثاني فهو هندسة النظام البيئي الرقمي: البرامج والخوارزميات والأجهزة والاتصال بالشبكة. من خلال التحكم في النظام البيئي الرقمي، تتحكم شركات التكنولوجيا الكبرى في سلوك الافراد والجماعات، مما يمنحها سلطة مباشرة على المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية للحياة، ومن خلال هذا التحكم تصبح المراقبة العامة سهلة وطيعة وانتهاك خصوصية الافراد متاح.
اما المحرك الثالث فهو انتقال الأسلوب الهيمنة والسيطرة من الاكراه إلى الرغبة حيث تعمل الواجهة الإعلامية للعصر الرقمي على جعل الهيمنة امر مرغوب فيه يذهب اليه الافراد والجماهير طواعية برغبتهم، بل يجدوا فيه الكثير من المتعة، ان الآلية الجديدة للهيمنة تعمل من الأسفل إلى الأعلى وليس من الأعلى الأسفل كما كانت عبر التاريخ.
وعرض الدكتور الطويسي ابرز السمات الثقافية التي شكلها العصر الرقمي في أنماط الحياة والسلوك البشري، وأولها افلاس الثقة والرأسمال الاجتماعي كما عرف في القرن العشرين، موضحا ان المال بنى اكبر نظام ثقة شهده التاريخ الإنساني، لا يمكن تصور التحولات الكبرى التي شهدها العالم منذ القرن التاسع عشر بدون فهم الثقة العامة التي لم تكن حجر الاساس للنظام الاقتصادي الرأسمالي وحسب، بل العامود الذي ترتكز عليه الديمقراطية والحريات واشكال التنظيم المتعددة، هذه الممارسة في طريقا الى الزوال في المقابل ثمة نمط جديد من الثقة اكثر صلابة واقل إنسانية ينمو في عالم القرن الحادي والعشرين.
موضحا مظاهر عديدة وواسعة لتراجع الثقة العامة تمتد من الدول الديمقراطية إلى الدول الشمولية؛ الركود الاقتصادي والأزمات المالية المتتالية، فساد الانتخابات، التدخل الاجنبي في الانتخابات، صعود الشعبوية السياسية بصور مخجلة، السلوك السيئ والفساد من قبل المسؤولين المنتخبين، محاربة الصحافة الإخبارية المحترفة، وانتشار الأخبار الكاذبة والتضليل، ثمة شبكات من التفسخ والتنافر والشك والاكاذيب تمتد فوق جسد الشبكات التقليدية التي شيدت منذ عصر رأس المال. لكن ثمة شبكات جديدة تنمو لا ينقصها الاضطراب والفوضى. حيث تثبت دراسات استطلاعات الرأي كيف تراجعت الثقة في الحكومات في كل انحاء العالم خلال اخر عشرين عاما وكيف تراجعت الثقة في المؤسسات المالية التقليدية والأحزاب والبرلمانات هذه الثقة هي الثقة المؤسسية او العامودية التي سادت منذ القرن التاسع عشر تتراجع وتضعف في المقابل تنمو ثقة افقية جديدة تبدو امثلتها في أنظمة الدفع الالكتروني المتقدمة والتجارة الالكترونية والثقة في شركات مثل اوبر او شركات السياحة والفنادق الرقمية.
وبين الدكتور الطويسي ان السمة الثقافية الثانية العصر الرقمي هي صدمة البيانات وازدهار نظريات المؤامرة فالتراكم الهائل من البيانات غير المكلف والذي وفر موردا شبه مجاني شكل صدمة متعددة الأوجه وعمق انحرافات تقليدية واوجد انحرافات أخرى، في هذا السياق نفهم كيف قادت ظواهر الإغراق المعلوماتي والاخباري الى ظواهر أخرى مثل المزيد من التضليل والمزيد من الاخبار الزائفة ودخول العالم منذ عام 2016 حقبة ما بات يطلق عليه عالم " ما بعد الحقيقية" واصبح تهديد التضليل في عهد الرئيس الأمريكي السابق ترامب وفي مرحلة جائحة كورونا لا يقل خطورة عن التهديد النووي وتهديد التغير المناخي، فيما تشكل ثقافة الخوف من المستقبل السمة الثالثة لهذه التحول الكبير والذي يتبلور على شكل متوالية لا تنتهي من حالات الخوف والقلق التي تجتاح العالم كافة مثل الخوف من المستقبل، الخوف من نهاية الوجود البشري، الخوف من نهاية الكون ، الخوف من العودة الى الحياة البدائية أو نهاية الحضارة ، الخوف من حروب كبرى ، الخوف من الزر النووي ، الخوف من الديمقراطية ، والخوف على الديمقراطية ، الخوف من التكنولوجيا ، والخوف من الذكاء الاصطناعي والهندسة الوراثية وتطوير الجينات ، والخوف من الشعبوية ومن اليمين الجديد واليسار الجديد ، الخوف من الأوبئة والجوائح ، والخوف من التغير المناخي الخوف من الجوع والخوف من التضليل والتزييف .
وبين ان هذا الخوف تراكم عبر انتاج هائل من الصناعات الثقافية مثل الدراما التلفزيونية والسينما والإنتاج الادبي الذي يتحدث عن النهايات ويثير القلق والخوف. اما السمة الأخيرة فهي الذعر الأخلاقي لا شك ان الإعلام الرقمي وتحديدا الشبكات الرقمية التي منحت الجماهير جزءا مهما من القوة في المجال العام قد جعلت من امكانيات الذعر الاخلاقي اكثر اتساعا واعمق اثرا، وفتحت امام مؤسسات وقوى السيطرة السياسية والاقتصادية والاجتماعية فرصا جديدة للتحكم في عواطف الجمهور وانفعالاته، وتحويله احيانا إلى حركة غوغائية تعمل وتتحرك على الأرض أو في الفضاء الافتراضي ، لقد اثرت التقنيات الجديدة في ثقافات النبذ والعقاب في مختلف انحاء العالم وبدرجات متباينة، ولعل ابرز الامثلة المرئية وفي جميع الثقافات والبيئات السياسية دور التشهير والكراهية عبر الإنترنت في احداث الهلع الأخلاقي الذي يشهده العالم المعاصر.
وختم الدكتور الطويسي محاضرته بالتأكيد على القوة الخلاقة والمبدعة والافاق الإنسانية الكبيرة التي يفتحها الانترنت والعالم الرقمي امام خلق إنسانية مستنيرة اذا ما يسير لهذا الأدوات التخلص من الاحتكار والسيطرة والتوجيه، مؤكدا ان العالم الرقمي يتيح فرصا هائلة للمقاومة من داخله.

نيسان ـ نشر في 2023-07-19 الساعة 20:51

الكلمات الأكثر بحثاً