اتصل بنا
 

عن لعنة العقد الثامن

نيسان ـ نشر في 2023-08-01 الساعة 07:28

نيسان ـ بين أشياء أخرى كثيرة ومثيرة، كشفت الحركة الاحتجاجية الواسعة في دولة الاحتلال والفصل العنصري البغيض، وما صاحبها من مظاهر تمرّد نادر وانقسامات غير مسبوقة، طاولت حتى النخبة في الجيش والأمن، وهما عمود الوسط في الخيمة الإسرائيلية المهلهلة (عكس الصورة الانطباعية السائدة)، نقول كشفت هذه الحراكات عن وجود أزمة بنيوية عميقة كامنة في قلب الحركة الصهيونية، وأماطت اللثام عن تصدّعات غائرة وشروخ كانت متوارية تحت غلالة سميكة من المزاعم عن التهديد المصيري والأخطار الوجودية المحدقة بدولة الناجين من الهولوكوست، نشأت وسط بحرٍ من الأعداء المتربّصين بها على مدار الساعة... إلّا أنّ هذا الكشف، على أهميته البالغة، بدا قليل الشأن، وربما لا يستحقّ الإضاءة عليه في هذه الآونة المشحونة بمتغيّرات كبرى، قياساً بما كشفت عنه هذه الحركة المتفاعلة بعد، من مطارح ضعف وتصدّع لم تكن مرئية بكل هذا الوضوح، وفتحت، في الوقت ذاته، الأعين على ما هو أبلغ معزىً من مجرّد خلاف طارئ حول تعديلات قضائية بين الأجنحة المتصارعة دائماً على قيادة السلطة، وذلك وفق ما بدت عليه جملة من المواقف والتصريحات والإنذارات الصادرة عن قادة وكتّاب وجنرالات متقاعدين، وبعضهم في الخدمة، راحت تحذّر من خطر وقوع حربٍ أهلية، ومن ثمّة زوال الدولة العبرية.
من بين سلسلة التصريحات والتحليلات المثيرة حقاً، كان لافتاً التحذير النابع من عقدة نفسية ضاربة في أعماق الذهنية الإسرائيلية، أو قلْ نابعة من تحسّباتٍ لم تبارح عقول أصحابها على مرّ الأجيال المتعاقبة، وهي خراب الهيكل مرّتين في الماضي السحيق، قبل أن تبلغ كلا الدولتين، اللتين يتحدّث عنهما التاريخ اليهودي القديم بحسرة، سن الثمانين اللعين، الأمر الذي أيقظ المخاوف النائمة فجأة، أكثر من أي وقت مضى، من تكرار الواقعتين مرّة ثالثة، جرّاء ما قد يُفضي إليه احتدام الكباش حول هوية دولةٍ بلغت هذه السنة أواسط العقد الثامن من عمرها.
والحقّ، أنها ليست المرّة الأولى التي تُقرع فيها الأجراس، وتتعالى فيها أصوات مسؤولين وقادة وصحافيين إسرائيليين مهمّين، تحذّر من خطر تفكك الدولة العبرية، ليس جراء هجوم كاسح من الخارج، وإنما بفعل تفاقم أزمة داخلية مريرة، مثل هذه الأزمة الحادّة التي بدت لبعضهم لعنةً من صنع القضاء والقدر، فيما بدت لبعض آخر بداية النهاية المؤجّلة، وها هي تدنو رغم كل التحذيرات التي تواترت بكثافة قبل الحراك الاحتجاجي، ثم انفجرت مدوّية في الأسابيع القليلة الماضية، وسط دهشة في العالم العربي، الذي لم يأخذ المسألة على محمل الجدّ، ولم تنل اهتمامات نخبه الحقيقية، عدا توظيفها في خدمة النبوءات الدينية عن حتمية زوال الدولة اليهودية.
ولعل أحد أهم المتطيّرين من لعنة العقد الثامن كان إيهود باراك، الذي شغل أرفع المراكز السياسية والعسكرية، وقاد أبشع الهجمات الإرهابية، حين قرأ قبل 14 شهراً، في مقالين مطوّلين نشرتهما صحيفة يديعوت أحرونوت، التاريخ اليهودي القديم (مملكة داود وسليمان ومملكة الحشمونائيم) وأسقطه على الحالة الإسرائيلية الراهنة، قائلاً إن التهديد الأكبر على إسرائيل ماثلٌ في الانقسام الداخلي وتنامي روح الكراهية والتحريض والطائفية والتعصّب المستفحل بين اليهود أنفسهم، وهو ما يتجلى حالياً بوضوح كامل.
كثيرون من المفكرين والكتاب حذوا حذو باراك، سواء في معاهد الأمن القومي أو مراكز الدراسات الاستراتيجية، إذ يكفي هنا ذكر مثاليْن، حيث دوّن الكاتب آريه شافيط، في كتاب أصدره تحت اسم "البيت الثالث"، أنّ بني قومه أصبحوا، وهم في العقد الثامن، العدو الأكبر لأنفسهم، وأنّ دولتهم باتت ممزّقة، تتألّم وتنزف، وأنّها ضلّت الطريق وفقدت البوصلة. أما الكاتب اليساري المعادي للاحتلال جدعون ليفي فقد شخّص الحالة الراهنة قائلاً: إسرائيل مصابة بمرض السرطان، الذي بلغ مرحلة متقدّمة ولا شفاء منه.
لا يعني كلّ ما تقدّم أن نغطّ في نوم عميق، حالمين بزوال دولة الأبارتهايد بين عشية وضحاها، من دون أن نفعل شيئاً يُسرّع هذه العملية، المقدّر لها أن تمضي بصورة تدريجية، لكن على نحو مؤكّد، ومهما طال الزمان. وبالتالي، من الجدير بنا سحب الذريعة، وهذا أضعف الإيمان، من الاحتلال، وهو بارع في اختلاق الذرائع، كي لا يجد ضالّته في شنّ عدوان شامل، يحشد له المؤيدين والمعارضين، المتديّنين والعلمانيين، الإشكناز والسفارديم، خلف نداء حربٍ وجودية، غرضها إعادة رصّ الصفوف الممزّقة، والخروج من المأزق المستحكم بشدّة.العربي الجديد

نيسان ـ نشر في 2023-08-01 الساعة 07:28


رأي: عيسى الشعيبي

الكلمات الأكثر بحثاً