اتصل بنا
 

جحيم الغضب قصة لـ (عصام الدين محمد أحمد)

نيسان ـ نشر في 2015-11-02 الساعة 21:27

x
نيسان ـ

رأسي ثقيلة، أمسح الغرفة بعين مُغلَقَةِ الأهداب، أفتحها بصعوبة، ما بال الإضاءة خافتة، والأولاد متناثرون، وهي بعودها النحيف تحاول إيقاظي وكأنها تنْفـُضُ عن كاهلي آثارَ البَيَات الشَتْوِىّ ، صُرَاخ الولد يلاحقني:

- انزل.

- يا أهالينا انضموا لينا.

هذا الصبي جعلني أنتفض أثناء جُلُوسِي بالمقهى بعدَ صلاة الجمعة بمسجد (أسد بن الفرات) قعدت لأستوعبَ ما تَفَوَّه به الواعظ ، يبرر شَظَـَفَ العيش بكثرة الذنوب ، لا ذنبَ للحاكم فيما آل إليه الحال ،يكرر الجُمَل كالبَبْغَاء ،عِبَارات تستفز وتقلقل جلوسي،أحشو أذني بأصابعي ، حروف ودِلالات تقارعت فى ذهني:

- قديمًا قالوا: إن الدين أفيون العقول.

- الشعب كلّه موحولٌ بالفساد .

- على كل إنسان التطهر حتى يصْلُحَ النظام.

تساءلت والحَيْرَة تسخر مني:

- ما لهذا الخطاب وتلك النَّبَرَات ؟

- لَغْطٌ فَج ، انزوى في جُبِّ الحكاوي المهترئ ،أتنطلي هذه الْحِيْلَة المَمْجُوجَة على أفئِدة السامعين؟!

كاد نافوخي أن يتشظى ،هِسْتِيرْيَا (الإمام) تفترش صَحْنَ المسجد،الطلاب يتجمعون في أكثر من موضع ،يسمعون النصائح ، ينثر الشيخ الكلام وكأنه يُنَاغِي جنود الأمن ، يتمركزون أمام رصيف عِمَارة ساريدار وبرج المغربي حتى مدرسة الدقي الإعدادية، يتراصون جِوَارَ ناقلاتهم ،والتي تشبه السجون المتحركة ،ثماني سيارات ،طابور العساكر طـَوِيل ،يصطفـّون أربعة صُفـُوف،يبْلـُغ الصَّفّ خَمْسَمِائة مترٍ تقريبًا ،تتراصّ الطَاوِلَاتُ الخشبية جِوَارَ الباب،يقعُد فوقها الكثيرون بأردِيتهم المَدَنِيّة ،يتهامسون،العصى الطويلة والخـُوْذات والدّروع بيد الجُنود،مَيْدَان الدقي كان فارغـًا قبلَ الصَّلاة، و لا يتعدَّى عدد الجالسين بالمقهى أصابع اليد الواحدة.

وها أنا أترقب مَرَاسِمَ التَأبِين ؛ لأنخلعَ من هذه الجَلْسَة ، بهدوءٍ ننتهي من الصَّلاة ، أخرج وَسَطَ حُشُودِ الطلاب، بأيديهم مذكَّراتٌ دِرَاسِيَّة، يتندر بعضهم:

- تظن الحكومة الآن أننا نُوَزِّعُ منشورات.

نسير بين جنود الأمن المرْكَزِيّ المُتأهبِينَ دومًا للتحرش ،ما كِدْتُ أصِلُ إلى المقهى، وعشرات الطلاب يتجمعون في المَيْدَان ، دقائق معدودة ويتردد الشِّعار:

- كرامة.. حرية .. عدالة اجتماعية.

يتكاثر العدد بصورة سريعة،وكأنهم رمال تَذْرُوها الرِّياح من شتى الرّبُوعِ ، فتتكوم فى مَيْدَان الدقى،أضحى العشرات مئاتٍ،يشيرون إلى النوافذ مرددين:

- انزل .. انزل .. انزل ..

يتجمع الأمن المركزي مشكلا حائطًا بشريًا مُدَجَّجًا بالعِصِي والأذرع، ينزلق الأولاد سالكين شارع سليمان جوهر، أترقب المشهد متأملا:

- ما الذي يدفع هؤلاءِ الشبابَ لهذه الجُرْأَة؟

- ياعم ساعة وينفض المولد.

- لماذا لا أهْتِفُ معهم؟ أين حَمَاسُك؟

أتراجع ثانية إلى المقهى،أنغَمِس فى التدخين وارْتِشَاف القَهْوَة المُرَّة،يُقلِّبُني الفِكْر ،ويقطـُفني (الصَّبَّار)، أنتبه على صَوْت النّادل ،ينصح الرّوَّاد،يطلب منهم الدخول إلى المقهى، ويحذرهم من مُجَارَاةِ عَبَث الصبيان،الذين يأخذون مصروفهم من آبائهم،الجالس على الطاوِلَة المواجهة يسأل:

- وماذا بعد المظاهرات؟

أرد وكأننى أتلو ورقة مفرودة أمام ناظري:

- ربما يثور الناس.

يعقب ساخرًا:

- عشم إبليس فى الجنة.

أهمس مغبونًا :

- ربما الشباب لا يَهَابُ الموت!

صوت من مكان قَصِي يترنم:

- أمن الدولة سيدمر هذه الخـُزَعْبِلَات.

مجموعة أخرى من الشباب يظهرون فى مجال الرؤية،يهتِفون:

- يسقط النظام .. يسقط النظام ..

أُحِثّ النادل للإسراع فى تبديل حجر المعسل المتفحِّم،تتسلل السخونة إلى وجهي:

- لا مفر من النهوض واتباع هؤلاء الأولاد .

أسراب الشباب تتزايد ،ألْحَق بهم ،الهُتَاف يشقّ عَنَان السماء:

- حرية .. حرية .. حرية.

أردد فى سريرتي :

- الضرب بالسيف ولا حكم الكيف.

لاأشعر ببدني؛فى الزحام تَتِيْهُ معالم الجسد ،البعض يتلكؤ فى سيره ، وكأن أقدامَهم التصقت بالأرض،التحذيرات تنطلق:

- كمين عند كوبري الجلاء.

أصيح دون إرادة مني:

- الوقت وقت صُمُود ولا مجالَ للتراجع.

- ما الذى دَفَعك لقوْلِ هذه العِبَارة التَحْرِيضِيَّة؟

- لا أعلم,ربما يكون مخزون الأيام تبلور فى ردة الفعل هذه!

الزَّحْف إلى الأمام مُرْتَبِك،ها هو كوبري الجلاء يظهر من بعيد،سيارتان للأمن تغلقانه، تقفان بالطول ،التعامل مع الأمن المركزي على أشُدِّه،مجموعات تنحرِف يمينـًا ويسارًا ، ومجموعات تهاجم غير مُبالِيَة بالعِصِي والخـُوذات ،البشر يتدفقون كالسَّيْل المُنْهَمِر؛نساء ورجال كثيرون ينضمون،الضباط خلف الجنود يُلقون بالأوامر،ألمح أنَاسًا يتمكنون من كسر هذا الطـَّوْق،الوقت يمر ثقيلًا ما بين تقدم وتأخر ومُرُوق

أجْهَر بصوْت قاطِع:

- لا وقت للتراجع؛ إذا رَجَعْنا سنجد أمن الدَّولة فى البيوت.

همَّة الشباب وأذرع الفتيان تكسر الحائط البشري،الجنود يصرخون وأمارات الهَلَع تكسو نبراتهم:

- أوامر.. ما لناش ذنب.

يحاولون تحريك العربات الحاجزة على كوبري الجلاء، هرب القادة، الأولاد المندفعون يُزيحون السيارات ليُفتحَ الطريق،نتدفق تدريجيًا،نتقدم تارة،ونتأخر الأخرى،نلمِس كوبرى قصر النيل،نتراجع إلى كوبرى الجلاء، التدفق الهَادِر لا يُعِيقـُه أحد،أنحرِف إلى شارع أم كلثوم ،تقذف الشرطة بالذخائر، روائح الغاز تنتشر في الأجواء، أبخرة الغاز تتسرب إلى الرئتين، تتشرب الخلايا ، أكاد أختنق، لا.. بل أختنق فعلًا،عيناي تفقدان القدرة على الرؤية،تحترقان كورقة زرع غير يابسة،يحترق جزء ويبقى الآخر،أعدو دون إدراك للوِجْهَة،أصطدم بالبشر، أطير خلف الدفوع إلى الحمامات،الطرقة غارقة بالمياه،دون رَوِيَّة أطس وجهي بالمياه،نار حقيقية تشتعل بوجهي،خَشِيْتُ تفحّمَ جسدي كله، ولكن -الآن- لا وقت للتأمل فالمهم هو الاعتقاد فى صدق ما تفعل:

- هل يستحق مجرد الصّراخ بسقوط النظام هذا العناء وتلك المكابدة،أيمكن للنظام أن ينهار بمثل هذه الترهات؟

- سنوات طويلة الكلاب تعوي والقافلة تسير .

- لَفَظَكَ العُمْر تحت مظلة المتاح.

- تاهت خُطاك في الصحراء القاحلة؛لا زادَ ولا زواد ،بل عطش وجُوع وشمس حارقة ، أسفل الرمال ثعابين وحيات وعقارب ،وفى السماء العقبان والنسور،سراب وتِيه.

- أيمكن لليل أن ينجليَ وللنهار أن يأتيَ بالدليل؟

هَرَجٌ ومَرَجٌ وزيطة ومن خلف غلالة الاكْتِوَاء تظهر ضبابية صور الجنود:

- يا مصيبة سوداء أتم أسرُنا؟

أَدْعَك عيني بيد جافة،ها هي درجة الوضوح تزداد درجة أو درجتين،يقسمون أنهم غير تابعين للأمن المركزيّ ،وأنهم يؤدون الخدمة في نادي ضباط الشرطة.

- أنحن في نادي الشرطة؟

- أنهرب منهم إليهم؟!

- ماذا سيكون مصيرنا لو قبضوا علينا ؟

- ربما يستدعون لنا قوات خاصة !

- الموت كأس مذاقه حُلْو.

ولكن ربنا سلم، فالظاهر أن كل فرقة مشغولة بهمِّها،ما أكثرَ الشباب المُخْتَنِق،وجدت محمدًا،يُطبِّب بعضهم،يغسل الوجوه بالمياه الغازية،يجففها جيدًا،شظايا مطاطية تفترش بعض الوجوه،أتحدث مع رجل أجرى عمليَّة قَسْطَرَة منذ أسبوع ،قال لى : إنه يأبى المكوث خارج المشهد، أتجاذب الأحاديث الطائرة مع بعض المأزومين:

- من أين جئتم؟

- من الشوارع والنجوع.

- لماذا تتظاهرون؟

- نبحث عن لبننا المَسْكُوب على العتبات .

تنقضي الدقائق فى الحوارات،لن يفيد البقاء أكثر من ذلك،نغادر متجهين إلى كوبري قصر النيل ، المصابون مترامون على الرصيف ، سيارات الإسعاف ترفض نقلهم ،أُلِحّ على المُسْعِف:

- أعَدِمْتَ الإنسانية؟!

يجيبُنى ببرود :

- ليست لدى أوامر،والمستشفيات لا تعمل.

ينفجر بركان غضب أحد المتظاهرين:

- مهمتُه نقلُ القنّاصة إلى المَيْدَان.

همهمات الفَتْك بالمسعف تزوم،يصْعَد سيارته هاربًا من الموقف ،يحترِقُ الشجرُ بحديقة الخالدين وبمُتْحَف محمود مختار، مدرعتان تزحفان،صفيرهما الممتدان يؤرقان الآذان، تزخ الطلقات المطاطية كالأمطار، زخم الناس المتزايد يُرْغِمُ المدرعتين على الانحراف ، يَصْدُمان ويَدْهَسانِ عشرات الأشخاص، التوجعات تطغى على الهَدِير،ما بين كَرٍّ وفَرٍّ يُرْتَسَمُ المشهد،أهينم:

- المدد يا الله.

الكوبري يضيق ، ينسُلُنى ، المُرتَزَقَة يعْبَثُون بحياتنا ، يعتقِدون أننا دُمَى ، وبأيديهم الخيوط ، تَهُبّ رياح الغازات،الأدخنة ترتفع وتتكاثف،أضحت الرؤية خارجَ مُقام النفس مستحيلة ،أصيح:

- لماذا الخيانة؟ ترفُلُون بصُحبة الأيادى الخانقة ، أترغبون الدولار؟

شَظيَة مطاطية تُفِيقنى من هَذَيَانِى، يُؤَذَّنُ للمغرب ،لم نتجاوز ثلثي مساحة الكوبرى، الصِّرَاع على أشُدِّه ،اللجوء إلى السماء يُعزِّزُ العزم،نصْطَفّ للصلاة،المدافع تُطلِقُ حِمَمَ المياه،لا يمكننا الخروج من الصلاة،رَذَاذ المياه المنقَذِف كحُصُوات الزلط المندفعة من فـُوَّهَات البنادِق،القنابل تتساقط على صفوف المصلين،تتماسك الصفوف أكثر، ننتهى ، الإصابات بسيطة،وكأن السماء فَرَدَتْ دروعَها فوق رؤوسنا،صيحات الله أكبر ترجّ الأقدام، اندفعنا وكأن الأرض تُطْوَى،ها نحن أصبحنا بنهاية الكوبري، امتلأ عن آخره بالزاحفين، لا يَفصِلنا عن ميدان التحرير سوى خُطْوات قليلة،الأصوات تجوب الآفاق.

- واحد .. اتنين .. الجيش المصرى فين؟

تتوق النفوس للموت،الطلقات المطاطية تزوي فوق الصدور،لا أحدَ يتراجع،الأجساد المبتلة النافرة تتقدم بعَنَت وجَبَروت،النداءات ترتقي السحاب ، لا فِكاك من المعمعة ، تنفجر الأجساد ، تشُعّ العيون بالانتقام،الرُّعب والفَزَع يُفَتّتَان معدات الصَّلَف، يتراجعون ، يفلِتُون بجلودهم من جحيم الغضب،نتدفق إلى الميدان،يفرّون مُخلِّفِين معدات القتل، مركبات الجيش تظهر فى المشهد،ترتاح النفوس التَعِبَة بترديد الهُتاف:

- الجيش والشعب إيد واحدة.

يُفسِحُ الناس الطريق ليمرَّ الرَّتل العسكري،ها هى مدرعات الحرس الجُمْهُورِىّ تطغى على الصورة ، تتجه إلى مبنى ماسبيرو،تنشَطِرُ قنابلُ البشر الذَّريَّة،الأيادى الفتية تتشعلق بمدرعة تحمِل كومات من القنابل ، ينزعونها -أسلحة الإمداد- ،الآلاف يستغيثون،المعركة لم تنتهِ بعد ، كارثة حقيقية ستتحقق:

- أيمكن للجَيْش أن يوجَّه فُوَّهَات مدافعه ودباباته إلى صدور الشعب؟

لما يهدء الناس ، المكابدات لم تُثنِهم عن أهدافهم،بقايا قوات الشرطة تُشعِل النيران فى السيارات المنثورة هنا وهناك،المتظاهرون يحرِقون كل سيارات الشرطة الباقية،فى خِضَمّ المشهد الهائل أقفز فى شتى الاتجاهات،لا أبتغي وِجْهَة بعينِهَا ،فما أعظمَ الظفر بعد المرارات ، تشتعل النيران فى مقر الحزب ألسنة الّلهب تلتهم مركز حقوق الإنسان،أعدو باتجاه الحرائق،تتصاعد النيران إلى الطابق الثانى والثالث وهكذا،يقتحَمُ الأولادُ الأمكِنة الجاثمة فوق كَوَاهِلِنَا ،يحمِلُون أكياس قمصان لم تمسسْها يدٌ ،وشاشات كمبيوتر لم تُفَضّ بكارَتِها ،يصارع ابني محمد وشلته الناهبين،أزجرهم قائلًا:

- لا جدوى من العراك الآن.

نسمع صيحات الشباب :

- إنهم يسرقون المُتْحَف.

نَهْرَع إلى المُتْحَف،نتراص كدُرُوعٍ من الدم واللحم،تنشُبُ المطاردات بيننا وبين متسلقي الأسوار، يصرخ محمد:

- إنهم يريدون السَّطوَ على ذاكرتنا.

يفتل الشباب عضلات الوعيد:

- الموت لمن يحاولُ الاقتراب.

كاد جسدى أن يتفسخ أعضاؤه ،يُحِيط بى الوشيش،أركُلُ وجهي بقبْضَة يدى ناصحًا:

- تحملْ حتى لا يظنّ ابْنُك بك الوَهَن.

تتزايد الحشود،يُعلِن الجميع التوحد،تتشبث الأيادى بالأسوار؛ نيران وأدخنة وقُدُود متحفِّزة.

نيسان ـ نشر في 2015-11-02 الساعة 21:27

الكلمات الأكثر بحثاً