بريغوجين..طاهي بوتين الذي صار قاتلاً مأجورا فأحرقته طبخة أوكرانيا
محمد قبيلات
كاتب أردني
نيسان ـ نشر في 2023-08-24 الساعة 06:21
نيسان ـ مَن منا لم يكن يعرف أي مصير ذاك الذي كان ينتظر قاتًلا مأجورًا؟ وأية نهايات كانت تحبكها بداياته؟ وإلى أية حادثة كانت تأخذه حماسته؟ لكن؛ مع ذلك، كلنا (فغرنا) أفواهنا أمام صدمة النهاية، وكأنها فاجعة دهمتنا على حين غرة.
يفغيني بريغوجين، رجل الألف سؤال واستفهام، كان يمشي متعجلًا إلى غايته، وأية غاية تلك التي كانت تشده غير القتل؛ قاتل مقتول لا محالة، وذابح مذبوح لا محالة، وقد حُرِمَ مِن أن يفاخر به أحد، حيث لا بواكي له اليوم في موسكو غير الكسندر دوغين، فمنذ اللحظات الأولى لانتشار الخبر الصادم، بدأ دوغين بث أحزانه، برغم خيانة يفغيني العظمى! مارس منظر الرئيس أحزانه على طباخ الرئيس السابق، كأبٍ خَبِرَ الفجيعة بابنته قبل أشهر قليلة، ويكأنه لم يكن ليعلم أن خلطات الأفكار الدينية بالقومية، التي كان يعدها، قبل أن تحرق الأبرياء، أول ما تحرق روادها وأدواتها، وتناسى عن قصد أن القاتل ليس فقط مَنْ قَتَل، وليس القتيل من قُتِل، بل هي مسيرة التاريخ المتغطرس الطويلة، المفعمة بالحماسة وشحذ السكاكين وهرق الدماء، فليس القاتل من أجهز على ذبيحته بسكينه، بل هو تحصيل حاصل لسلسلة طويلة من القتلة، مَنْ رسم السكين وسنّها، ومَنْ جلبها وركب نصلها وجيبها، ومَنْ اكتراها، نعم صحيح؛ إنهم قتلةٌ جميعًا.. فمِن هناك، مِن عندهم بدأ القتل، وليس قتل ضحية اليوم فقط بل وضحاياها ممن قضوا أيضا.
ربما يشاركه أحزانه سيرجي فلاديميروفيتش سوروفيكين، قائد سياسة المدن المحروقة، الذي عَبَرَ حاملًا هذه السمعة من الشيشان إلى سورية إلى أوكرانيا، فهو يحزن اليوم إلى درجة الخوف من المصير ذاته، فيقف أمام المرآة ليرى وجهه الكالح، لكنه لا يرى غير وجوه ثلة من ضحايا براميله المتفجرة الذين لاحقته أرواحهم من أرياف سورية الجريحة.
نعم إنها قصة مثيرة إذ يصبح فيها القاتل مجرد ابن فكرة، والقتيل مجرد خاتمة، إضطر لها مؤلفٍ غير مبالٍ، كل ما يطمح إليه إغلاق فصل من فصول سرديته المملة، حيث لا إثارة في أحداثها، ولا طعم ولا لون لأبطالها، هم مجرد أشباح تحوم في ظلامية الضياع، تسعى بالضرورة إلى حتفها.
كأنه مؤلف ميت، ترك زمام الرواية لأرملة سوداء بدأت بقضم ذكورها، الواحد تلو الآخر، ربما لتُعدِمَ قرائن الفضيحة.
كأننا نسينا، أن الجزء الأكبر من لعبة التاريخ، وتكتيكه الأثير، هي المشاغلة، لا فرق عنده أن يستنفد الكثير أو القليل من الوقت، فالأمر عنده سيّان، لأن آخر ما يشغل عقل المؤرخ وتفكيره عامل الوقت، وهو ليس من الأهمية عنده بمكان، ببساطة لأنه يملك منه الكثير، لكن عندما تنتهي الحواديت، سيختصر التأريخ كل هذه التفاعلات والانفعالات، من دون اكتراث، فقط بسطرين لا ثالث لهما؛ ولد الرجل، عمل طباخًا محترفًا للرئيس، ثم صار قاتلًا مأجورًا، فدارت عليه الدوائر، فقط وانتهى.
وكما البدايات تفسر النهايات، فإن النهايات تفضح الغايات، وتقلب الكثير من الحجارة لتكشف عن حشرات البيات الشتوي، فتتقافز في كل الاتجهات متحررة من خمولها. وبرغم كل ما يلف القصة من غموض، يبقى هناك فرق جوهري يميز صورة القاتل الطبيعي عن القاتل السياسي، القاتل العادي يقتل القتيل انتقامًا لحدث أو فعل محدد، بينما السياسي يقتل لزجر الآخرين وتخويفهم، فهو يرسم أمامهم صورة قاتمة، صورة خانقة، صورة المصير الباهت، فيُذعَرون، أو هكذا يتصور.
ماذا قال بريغوجين لمساعده أوتكين في لحظة الحقيقة؟ هل أدركا أنهما بلغا النهاية المأساوية؟ أم أن الحماسة ظللت وضللت لحظاتهما الأخيرة؟ تلك الثواني ثمينة إلى درجة أن النظرة فيها معبرة، ومتفهمة، وغاضبة، لكن بعد فوات الأوان كله، وتحت جناح ثقيل من الشلل.
في العودة إلى التأريخ، نلاحظ أنه يشتغل بمكرٍ على تنغيص اللحظات السعيدة، لحظات كان يعيشها بوتين في احتفالية إحياء الذكرى الـ 80 للنصر في معركة كورسك، وهذه ليست المرة الأولى، فقد اشتغل التاريخ شغله هذا سابقًا، بالأدوات نفسها، فنغص على بوتين زهوه بانتصاراته في اوكرانيا، حيث تمرد يفغيني وشاكس واحتل روستوف وواصل مسيرته حتى وصل إلى مشارف حدود موسكو.
أمس الأول، ظهر يفغيني في أفريقيا كما الفاتحين، لكنها صورة مبتذلة، ذكرتنا بآخر ظهور لأبي مصعب الزرقاوي، وكلاهما كان يحمل رشاشه من غير لياقة المحاربين، بل كمتعهد من الباطن أراد أن يُثبّتَ الزمان بصورة، عاد إلى موسكو، ومنها شد العزم إلى سانت بطرس بورغ، لكنه طار وارتفع أكثر مما ينبغي، فوقع .
يفغيني بريغوجين، يا له من مغامر! قامر بحياته وبمشروعه، تعامل مع الأمر برمته باستهانة ولا مبالاة شديدة، كأنه يلبس مريوله ليعد طبخة سهلة بمهارة العارف الخبير، غير مكترث إن هي احترقت، لأن لديه من الوقت والإمكانات ما يكفي لإعداد الطبخة من جديد، إلّا أنه لم يأخذ بالحسبان أن الطبخة قد لا تحترق فقط، بل إنها قد تقفز فجأة وتحرق وجه طباخها.
يفغيني بريغوجين، رجل الألف سؤال واستفهام، كان يمشي متعجلًا إلى غايته، وأية غاية تلك التي كانت تشده غير القتل؛ قاتل مقتول لا محالة، وذابح مذبوح لا محالة، وقد حُرِمَ مِن أن يفاخر به أحد، حيث لا بواكي له اليوم في موسكو غير الكسندر دوغين، فمنذ اللحظات الأولى لانتشار الخبر الصادم، بدأ دوغين بث أحزانه، برغم خيانة يفغيني العظمى! مارس منظر الرئيس أحزانه على طباخ الرئيس السابق، كأبٍ خَبِرَ الفجيعة بابنته قبل أشهر قليلة، ويكأنه لم يكن ليعلم أن خلطات الأفكار الدينية بالقومية، التي كان يعدها، قبل أن تحرق الأبرياء، أول ما تحرق روادها وأدواتها، وتناسى عن قصد أن القاتل ليس فقط مَنْ قَتَل، وليس القتيل من قُتِل، بل هي مسيرة التاريخ المتغطرس الطويلة، المفعمة بالحماسة وشحذ السكاكين وهرق الدماء، فليس القاتل من أجهز على ذبيحته بسكينه، بل هو تحصيل حاصل لسلسلة طويلة من القتلة، مَنْ رسم السكين وسنّها، ومَنْ جلبها وركب نصلها وجيبها، ومَنْ اكتراها، نعم صحيح؛ إنهم قتلةٌ جميعًا.. فمِن هناك، مِن عندهم بدأ القتل، وليس قتل ضحية اليوم فقط بل وضحاياها ممن قضوا أيضا.
ربما يشاركه أحزانه سيرجي فلاديميروفيتش سوروفيكين، قائد سياسة المدن المحروقة، الذي عَبَرَ حاملًا هذه السمعة من الشيشان إلى سورية إلى أوكرانيا، فهو يحزن اليوم إلى درجة الخوف من المصير ذاته، فيقف أمام المرآة ليرى وجهه الكالح، لكنه لا يرى غير وجوه ثلة من ضحايا براميله المتفجرة الذين لاحقته أرواحهم من أرياف سورية الجريحة.
نعم إنها قصة مثيرة إذ يصبح فيها القاتل مجرد ابن فكرة، والقتيل مجرد خاتمة، إضطر لها مؤلفٍ غير مبالٍ، كل ما يطمح إليه إغلاق فصل من فصول سرديته المملة، حيث لا إثارة في أحداثها، ولا طعم ولا لون لأبطالها، هم مجرد أشباح تحوم في ظلامية الضياع، تسعى بالضرورة إلى حتفها.
كأنه مؤلف ميت، ترك زمام الرواية لأرملة سوداء بدأت بقضم ذكورها، الواحد تلو الآخر، ربما لتُعدِمَ قرائن الفضيحة.
كأننا نسينا، أن الجزء الأكبر من لعبة التاريخ، وتكتيكه الأثير، هي المشاغلة، لا فرق عنده أن يستنفد الكثير أو القليل من الوقت، فالأمر عنده سيّان، لأن آخر ما يشغل عقل المؤرخ وتفكيره عامل الوقت، وهو ليس من الأهمية عنده بمكان، ببساطة لأنه يملك منه الكثير، لكن عندما تنتهي الحواديت، سيختصر التأريخ كل هذه التفاعلات والانفعالات، من دون اكتراث، فقط بسطرين لا ثالث لهما؛ ولد الرجل، عمل طباخًا محترفًا للرئيس، ثم صار قاتلًا مأجورًا، فدارت عليه الدوائر، فقط وانتهى.
وكما البدايات تفسر النهايات، فإن النهايات تفضح الغايات، وتقلب الكثير من الحجارة لتكشف عن حشرات البيات الشتوي، فتتقافز في كل الاتجهات متحررة من خمولها. وبرغم كل ما يلف القصة من غموض، يبقى هناك فرق جوهري يميز صورة القاتل الطبيعي عن القاتل السياسي، القاتل العادي يقتل القتيل انتقامًا لحدث أو فعل محدد، بينما السياسي يقتل لزجر الآخرين وتخويفهم، فهو يرسم أمامهم صورة قاتمة، صورة خانقة، صورة المصير الباهت، فيُذعَرون، أو هكذا يتصور.
ماذا قال بريغوجين لمساعده أوتكين في لحظة الحقيقة؟ هل أدركا أنهما بلغا النهاية المأساوية؟ أم أن الحماسة ظللت وضللت لحظاتهما الأخيرة؟ تلك الثواني ثمينة إلى درجة أن النظرة فيها معبرة، ومتفهمة، وغاضبة، لكن بعد فوات الأوان كله، وتحت جناح ثقيل من الشلل.
في العودة إلى التأريخ، نلاحظ أنه يشتغل بمكرٍ على تنغيص اللحظات السعيدة، لحظات كان يعيشها بوتين في احتفالية إحياء الذكرى الـ 80 للنصر في معركة كورسك، وهذه ليست المرة الأولى، فقد اشتغل التاريخ شغله هذا سابقًا، بالأدوات نفسها، فنغص على بوتين زهوه بانتصاراته في اوكرانيا، حيث تمرد يفغيني وشاكس واحتل روستوف وواصل مسيرته حتى وصل إلى مشارف حدود موسكو.
أمس الأول، ظهر يفغيني في أفريقيا كما الفاتحين، لكنها صورة مبتذلة، ذكرتنا بآخر ظهور لأبي مصعب الزرقاوي، وكلاهما كان يحمل رشاشه من غير لياقة المحاربين، بل كمتعهد من الباطن أراد أن يُثبّتَ الزمان بصورة، عاد إلى موسكو، ومنها شد العزم إلى سانت بطرس بورغ، لكنه طار وارتفع أكثر مما ينبغي، فوقع .
يفغيني بريغوجين، يا له من مغامر! قامر بحياته وبمشروعه، تعامل مع الأمر برمته باستهانة ولا مبالاة شديدة، كأنه يلبس مريوله ليعد طبخة سهلة بمهارة العارف الخبير، غير مكترث إن هي احترقت، لأن لديه من الوقت والإمكانات ما يكفي لإعداد الطبخة من جديد، إلّا أنه لم يأخذ بالحسبان أن الطبخة قد لا تحترق فقط، بل إنها قد تقفز فجأة وتحرق وجه طباخها.