اتصل بنا
 

ذات لحظة رمادية حزينة

نيسان ـ نشر في 2023-09-04 الساعة 07:12

نيسان ـ يحدُث أن يطرحك المرض فراشاً لأتفه سبب، فيسيطر عليك إحساسٌ مرير بالضعف والعجز والحزن، حزن غامض كبير يستولي على جوارحك، رغم طمأنة الأطباء إلى عدم خطورة وضعك الصحّي وحقيقة تماثلك البطيء للشفاء بعد تجرّعك كميات من الأدوية مختلفة الوظائف. تجد نفسك على نحو مباغت فاقد الشهية لكل شيء، غير راغب إلا في مزيدٍ من العزلة بعيداً عن الأصوات والروائح والأنفاس والمجاملات الكاذبة لغير المكترثين بك، وإن زعموا خلاف ذلك. ولعل لحظات انكسارك مبعث بهجة غامضة في نفوسهم التي يستفزّها، في العادة، ثباتك وقوتك الداخلية وتوازنك النفسي وسعادتك سهلة التحقّق لأبسط الأسباب. يمقتون قوتك وصفاء روحك اللذين يكشفان كمية السواد في قلوبهم العاجزة عن العطاء.
ولكن هل أنت قوي حقاً؟ هل أنت فعلاً ما زلت ممسكاً بزمام الأمور، أم هناك مقدار من الادّعاء حين تقدّم نفسك للمجموع شخصاً سويّاً حقّق إنجازاتٍ كثيرة، وخاض مغامرات وتجارب كثيرة صقلته نموذجاً إنسانياً إيجابياً جديراً بالاحتذاء؟ أم أن تلك الثقة مجرّد وهم هشّ سرعان ما يتبدّد على يد جرثومة صغيرة تأتي في لحظة على جسدك، لتكتشف أنه آيلٌ إلى انهيار سريع، يقضي على مناعتك النفسية، ويحوّلك إلى مخلوق بائس خائر القوى منعدم الطاقة، بحسب جهاز قياس الضغط الملاصق لسريرك، حيث ترقد غير مأسوف عليك؟
ينتابُك مقتٌ شديدٌ لجسدك الخائن، المستعد للتخلي عنك من دون تردّد عند أول طارئ. تتأمل طويلاً في الفكرة الصعبة، ترعبك المواجهة غير العادلة مع خصمٍ هو جوهر ذاتك وهويتك وكينونتك بأسرها، وتدرك مدى تعقيد هذه العلاقة المركّبة الخانقة مع الجسد/ السجن، منيع الأسوار، حيث لا فكاك. يجرّك الوهن إلى مناطق معتمة في روحك، ويدفعك إلى الشكّ في جدوى الأشياء والعلاقات والآخرين، تعيد طرح الأسئلة بشأن حقيقة وجود المحيطين بك، أين يتلاشون في لحظات ضعفك، ولماذا يبدّد غيابُهم إحساسك بالأمان، ويؤكد لك أنك وحيد بالمطلق في مواجهة أوجاع روحك الكثيرة، ويؤهلك إلى إتقان مهارة الاستغناء المخيفة، ويوقعك في الصمت الكلّي وسيلة احتجاج على الجحود الذي يبدو لك قاسياً ومضاعفاً.
تغرق في الكتب والأفلام والمسلسلات السخيفة والبرامج الوثائقية ونشرات الأخبار وفقرات الفيديو الطريفة، علك تجد فيها العزاء والعوض. وما إن يستعيد جسدك عافيته تدريجياً، تكتشف أنك لن تشفى تماماً، جرّاء إحساسك بالمرارة والخيبة والخوف من الوقوع ثانية في براثن المرض. تعيد النظر في طريقة تعاملك مع الآخرين. تتوصل إلى أنك كنتَ طيّباً أكثر مما ينبغي، وأنك عوّدتهم العطاء بلا حدود، وأن الإيثار ليس فضيلة في كل الحالات، بل يصير أحياناً غباءً مطلقاً، واستهانة غير قابلة للغفران بنفسك. وتأخذ قراراً بضرورة معاملتهم بالمثل ليس أكثر.
تكره النتيجة التي توصلت إليها لأنها لا تشبهك، وتدرك أنك مجبرٌ عليها انتصاراً لذاتك. سيتهمونك بقلة الوفاء وبالأنانية وعدم الاكتراث، حين يأتيك خبر تعب أحدهم، فتكتفي برسالة مقتضبة تتمنى له الشفاء العاجل، وقد تُسرف في سخائك وترسل صورة باقة ورد ضخمة. لكن لا عليك، فليقولوا ما يريدون، فذلك لن يغير شيئاً من الحقيقة، لأن كل ما سيصدر عنك بعد إحساسك بالخذلان ليس أكثر من رد فعل مشروع، وإقرار بواقع إنساني موحش، اختفت فيه مشاعر التضامن والرأفة والحب. وعليه، أكمل تعاطي أدويتك، يا صديقي، وامتثل لأوامر الطبيب، ونل قسطاً من الراحة، وواصل تأملك في الحياة التي لن تكفّ عن تلقينك دروسها القاسية، حتى توصلك على متن التجربة إلى لحظة رمادية حزينة، حيث عدم التوقّع والزهد في كل شيء.

نيسان ـ نشر في 2023-09-04 الساعة 07:12


رأي: بسمة النسور

الكلمات الأكثر بحثاً