اتصل بنا
 

إيهام قصة لـ عصام الدين محمد أحمد

نيسان ـ نشر في 2015-11-04 الساعة 19:54

x
نيسان ـ

إيهام

تتسارع خُطُواتى،التوجس و الإضاءة الخافتة ترسمان شارع القصر العيني،الأحداث من الواحدة ظهرًا تُوقِد تنوري ،آيات الرعب تزلزل كياني المضطرم ؛فى كل خُطْوة قنبلة:

- لا تعلم ماذا يخبئ لك القدر؟

يطول الشارع،جميع الأبواب مُغلَقَة،اللجان الشعبية تَنشر المتاريس بعَرْض الطريق؛كل مائة متر بوابة يُحيط بها الشباب مفتولو العضلات،نظراتهم المُصَوَّبَة تُجَاهِي مُرِيبَة ، أخترق الحواجز وكأننى ماردٌ من فُولاذ، فوجِئْتُ ببَدَنِي فوق كوبري عباس ،هَرْوَلْت مائة متر ،فاجأني شاب بتحذيره:

- انتبه ،أعْدَمَ الجيش أحد المارَّة عند نهاية الكوبري.

التزمت الصمت،لم يرجف فؤادي.

- فخبرُه ربما يكون افتراءً،فهو مَنْ شاهد مسرحية القتل،فكيف يفلت من قبضة القاتل،ربما يكون صادقـًا!

لا يمكنك - الآن - الرجوع إلى المَيْدَان،فجسدك موجوع،كما أنك لم تستسغ المبيت فى الميدان،فزيارتك الأسرة لساعات يُطَمْئِنُهم،كما أنك لم تأكل شيئًا منذ الأمس،والجوع أصابك بالضعف ، الشَتَات واللافَهْم يُكَبِّلان خَطْوَك الوَئِيد.

تكتشف أنك عبرت الكوبري منذ لحظات،لا أحد يعترِض طريقَك،الدبابات على الجَنَبَات متناثرة،تَصْعَد ميكروباص من أمام الجامعة،تقترب من كوبري ثروت،تستوقفها اللجنة الشعبية.

شاب يسأل السائق:

- كم الأجرة؟

يرد السائق :

- جُنَيْه.

يَشُدّه الشَّاب ،يُخَلِّص عجلة القيادة من يديه،يأمره بحِدَّة:

- رُدَّ لكُلِّ راكب رُبعَ جُنَيه فورًا.

يتلَجْلَج السائق:

- الدُّنيا ليلٌ والزبائن قليلون.

عشرات الفتيان يَلْتفُّون حول السيارة،لم يتذمَّر السائق،تحرَّكَت السَّيَّارة،بِضْعَة أمتار ويَلْعَن السائق الناس،أنفجر.

- بالفعل أنت سَائِق سَلِيط اللسان وإن لم تَبْلَعْه سأعَلِّمُك الأدب.

ولِدَت هَمْهَمَات بالسيارة،سُرْعَان ما تحوَّلَتْ إلى ثورة ،أمسك أحد الرُّكَّاب بياقة السائق،بصعوبة ومُنَاطَحة حالت دون الفتك به ،أنستْنِى هذه الزَوْبَعة حصر اللجان الشعبية المنتشرة بامتداد الطريق، يُزَاحمنى الميدان بأحداثه.

( اقتحام الميدان جعلني أبحث عن الموت،أطارده فى الحواري والأزِقَّة ،يهرُب من مواجهتي :تلكأت عند مدخل عبد المنعم رياض،الحِجَارة تتساقط أمامي وخلفي ويميني ويساري،التدفّق الهَلَع وما صَاحَبَه من تَدَافُع لم يُزَحْزِحْني،الحيرة والقلق يُحِيقان بى، ولكن هَيْئتِي تَنُمّ عن اللامبالاة، الجِد والعَزم يكسوَانِ الوجوه، تنفجر حِمَم الغضب ،أضحى كَرّ وفَرّ المهاجميندَرْبَى هَزْل .يتفاقم صدى النداءات.

- ارحل يعني امشي .. يا لي ما بتفهمش.

- خلاص تعبنا مش عاوزينك،حد الله بينا وبينك.)

توقفت السيارة مرات عديدة،طالت وقفتها هذه المرة،اكتشفت أننى جوار مستشفى زنين،أقرضْتُ السائق أجرتَه جنيهًا كاملًا رافضًا قبول الباقي.

المتاريس ممتدة فى شتى الأرجاء،الأضواء منطفئة،على رأس كل حارة جيش من الأهالى،منهم من يمتشق سيفًا،ومنهم من يؤرجِح شومة فى الهواء،بل بعضهم يمسك بأنبوبة بوتجاز،وفرقة تختبرسُرعَة فتح وإغلاق المطاوي:

- ما هذا الجو الكارثي؟

- أنحن على أبواب حروب أهلية؟

أقترب من إحدى المجموعات وأسأل:

- ما الحكاية؟

ينظرون إليَّ باستهجان وسُخْرية،المهم الآن الوصول إلى البيت والاطمئنان على الأسرة،هَرَج ومَرَج يحتويان الشارع واستنفار للقوة والتحدي غير مسبوق،أهَيْنِم:

- الشيطان يَحِيْك التفاصيل.

- ألم يقلِ الله أننا آمنون؟

يَقْرُصُنِي البَرْد،الأولاد لا يرتدون سوى فانلات قطنية، تظهر العضلات وندوب الجروح، تقترِب سيارة، فيُحاصِرُونها جميعهم ،يمسَحُونها بعُيُون تَحْذَر الخديعة ،سيارات الملاكي يُخْضِعُونَها لتفتيش دقيق ،يتمهلون فى أداء عملهم،ها أنا أصل إلى الشارع الذى أقطنه ، بلغ الإعياء حَافة التَرَنُّح،أجَرْجِر قدمي إلى مدخل البيت الذي أسكن إحدى شققه،أمام البيت دستةكراسي مفرودة ، الجيران يجلسون،أسأل .

- ما هي آخر الأخبار؟

يرد سيد:

- عشرات الأشخاص يَحْمِلُون البنادق الآلية ،يتنقَّلون ،يُطْلِقُون أعيرةً نارِيَّة في الهواء،يسرقون الشقق، يغتصبون النساء ،يحتجزون الأطفال،يقتلون من يعترض طريقهم.أستفهم:

- هل رأيتهم؟

يُجيبنى ولكنة السخرية تتخلَّل كلامه:

- لم أرَهم ،أتريد مني البحث عن الموت؟

ألْهَج بصوتٍ وَاهٍ :

- يا عم لا موت ولا حياة.

أصعد السُّلَّم،فوق البسطة شيكارة زلط ،بجوارها حزمة عِصِي غليظة،وبقايا مواسير من الحديد يتجاوز طول الواحدة منها مترًا،أدقُّ الباب بيد الحديد المُعَلَّقَة عليه ،يأتيني صوت حسام مُرْتَجِفًا:

- من؟

- أنا يا حسام ..لا تخف ..أنا أبوك.

لم يفتح الباب ،يَصِيْح على والدته،تأتي وتسأل ،لأكرِّرَ ذات الإجابة،تتعملق الدقائق وتبلغ أمدًا من ماضٍ مُغَلَّف بالمَهَانة إلى مستقبل مُرتَبِك،حتى لا ينخرني السوس أقسم.

- والله أنا زوجك.

ينزاح الباب عن وجه شاحب،وبدن يُدَثِّرُه الهَلَع برِدَاء غليظ،تبدَّلَ بياض وجهِهِا المُشْرَب بحُمْرة خفيفة سُمرةً كالِحة،حينما لَمَحَتْنِي تَهَاوَت على الأرض،حَمَلْتُهَا لأضعها فوق الكنبة ، لحظات وخرج أحمد من البلكونة،أستشِطُ غضبًا.

- ألم ترني فى الشارع ،لماذا لم تفتح لي؟

صوته يتلجلج فى حُلْقُومِه ضعيفًا:

- لم أشاهدْك.

أتأمَّلُه:

- ماذا حاق بهذا الجسد الضخم؟

- ما بال الأولاد فى ميدان التحرير كالأسود؟

تبتلعني دوامة الحيرة،أحضرت زجاجة مياه مُثَلَّجَة،رَشَشْت بعض الماء على وجهها ، تداعبها الإفاقة،أسرعتْ لتسخين الطعام،لُقَيْمَات يسيرة وأحسستُ بالشبع ،أمسكت بماسورة حديدية طولها مترين،هبطت السُّلّم وأحمد فى عقبي ،وقفت جوار الشباب،الناس أمام الشوارع يمارسون طقوس الحرب ،الإشاعات تتناثر كرَذَاذّ المياه فى ليل مُمْطِر، أقاوم الكرى ،لا أقدر،أستأذن الجمع تاركًا أحمد بصحبتهم،أحذَّرُه.

- لا تخف.

ألج البلكونة ،يُرَوِّعُنى ما أشاهده ؛برميل كبير مليء بالماء،يُتَاخِمُه ثلاثةُ جرادل مليئة بالطوب والحصى،أضع رأسي على المخدة.

(الجو ممطر،الطريق لا بداية ولا نهاية له،صَفِير الرياح يَهُز أوتار الرعب ،أتحسس سبيلي خَشْيَة الوقوع فى إحدى الحفر،الليل يَفرِد شِرَاعَه،تتسلل الأشباح ،نباح كلب ومواء قطة يعزفان سيمفونية ارتعاش المفاصل،يتصبب جبيني عرقًا،أخُب فى خطوي وكأنني على شَفَا حفرة من النار،أنطق:

- هل من مبارز؟

الصوت صدى ،والصدى صوت ،وأنا بينهما مفتت،خيالات تتطاوح؛وجوه لا ملامح لها،أنوف غليظة ،عباءات كالحة،تتداخل الرؤى، ذئب ونمر وأسد ،يمرحون،أجري ،يزأرون،أعدو بأقصى سرعة ،يتصارعون،أهَرْوِل مُلْتَقِطـًا أنفاسي،يدركون وجودى، أجري،أقفز،يستطيل الشارع،تبرز القلعة فى الأفق،مطاردة يعقبها مطاردة،يعبثون بي، يتمزَّع البنطلون،تُدْمىالقدمان،زَخات الأمطار تتقاطر على الأسفلت برنين وفحيح، اصطبغت باللون الأحمر القُرمُزي،انتهى أمري،ها أنا الآن مُرَكِّز الدائرة.)

- آه .. لا .. آه .. لا.

أنتحب منطفئًا في ذاتي:

- آه .. آه .. آه.

أنْتَفِض جالسًا فوق الفراش محوقلًا،أنتبه على مُكبِّرات الضجيج وصوت ارتطام مياه الجرادل بِقَاعِ الشَّارع،أهْرَع إلى المطبخ،ترتطِم قدماي بالغسالة،أنشغل بُرْهَةً بفًرْك أصابع قدمي،أرتفع بجذعي فتصطدم رأسي بشماعة الفوط،أحُس برأسي وكأنها شُقَّت ،أمُدُّ يدي بصُعُوبَة وعَنَت،أشُدّ درج المطبخ،أقبِض على أكبر سكين،أمتطي حذاء الكاوتش،أقذِف باب الشقةخلفي،أهْبِط السلالم َ،تلاشى صوت ارتطام المياه ،غرقت الحارة،الأرض ساخنة من جراء المياه الفائرة التي أُرِيْقَت،بضع خُطُوات وأصِل إلى رأس الشارع،النساء والأولاد والرجال يمسكون بالحديد والخشب ،يتقافزون فى شتى الجنبات ،يتثاءب الوقت، أعثر على أحمد ماسكًا بماسورة الحديد، يرجُف مُدَمْدِمًا:

- صوت حريمي يستغيث :ألحقونا،جرينا لعمارة الاستغاثة،لم نجد شيئًا،الصوت ينبعث من بلكونة أخرى،تراجعنا إلى العمارة الثانية،فالثالثة والرابعة، أيضًا كان هناك فى حارتنا صراخ،وفى النهاية أدركْنَا أنها لعبة.

اطمأنَّ فؤادي ،أزَحْتُ الرُّعب عن روعهم بالمُزاح ،أسحبه خلفي راجعًا إلى الشقة، أغلق الباب بالمفتاح والترباس،أشَوِّن أدوات القتال خلف الباب،تعلن الساعة الآن أذان الفجر،توضأت وذهبت إلى المسجد ،أمام كل بيت كَوْمَات من زجاجات البنزين الغازية ، الجامع غير بعيد عن البيت،يتكاثر المصلون،يتزاحمون ،أطال الإمام الدعاء،مازال يعتقد أن النظام صالح،يَكْثُرالَّلغَط وتعُمّ الهَمْهَمَات إثر أداء الصلاة،لا أملك جموح غضبي فأعتِب على الإمام:

- كفاية غباء.

أخْلُف الجمع وقد اشتعلت نيران الجَدَل بينهم،ينادون علي،لا ألتفت إليهم،تناوشنى الهواجس:

- متى يفيق النائمون من نعاسهم؟

لم أستطع النوم،تَمَلَّكَنى الحنق والغيظ،لا يُجْدِي الكظم الآن؛أخشى أن يسرقني الوقت ، نثرتنى الحروف أثناء توجهي للميدان.

- الليل طال والقمر غاب.....الجمر زنهر واليد معروقة.

كعادتى دومًا أعد درجات سلم كوبري الخشب صعودًا وهبوطًا ، مائتا متر والدبابة ترابط ، أزغرد فى سريرتي،أدرب صوتي المشروخ.

- اضحك خلي الثورة تطلع حلوة.

نيسان ـ نشر في 2015-11-04 الساعة 19:54

الكلمات الأكثر بحثاً