اتصل بنا
 

هكذا يُطوّع الحصانُ؟!

كاتب وصحافي اردني

نيسان ـ نشر في 2023-10-02 الساعة 19:10

نيسان ـ .. ذات صيف حلّ في ديرتنا ثلاثة جنوبيين من الحسا، جاءوا مع اسرهم ومواشيهم وخيولهم، و بينها مهر جميل. كانت سنة محل في الجنوب لكن الديرة حظيت بحصاد وفير كان سببا لاستقرار هؤلاء المهاجرين، الذين احسن الناس وفادتهم فاحتضنوهم بدفء حتى غدوا جزءا من الذاكرة.
تعاطف الناس مع ضيوفهم الذين أشعلوا فيهم ذاكرة رحيلهم طلبا للكلأ والمرعى في الشمال في أواخر اربعينيات القرن الماضي، في عام تلا نكبة فلسطين أسموه "السنة السمرا" التي جفّ فيها الضرع ويبس فيها الزرع . قالوا إنهم "شوملوا" أي قصدوا الشمال إلى "عارضة عباد" التي انزلوها منزلة الجنان الخضراء لوفرة غلالها وحسن معشر ناسها.
في الأماسي والتعاليل، كانوا يشحذون الاستذكار في القص، معتمدين على عدد ممن اشتهروا في الديرة بذاكرة خصبة مليئة بالسرد الشيق لاحداث الغزو القبلي والمواجهات مع الجند التركي. استعادوا اياما كانت قطعانهم الكبيرة تحجب عين الشمس عن أرض المراعي ومساحات مزروعاتهم بعد حصادها.
وفي امسية طلبوا إلى أحد ضيوفهم أن "يُعللهم"، فأخذ هذا يتحدث في أسلوب شدّ انتباه الجلوس الذين اصخوا السمع لقصّه الذي نمّ عن حكّاء ذرب اللسان، يستشهد بالقصيد النبطي في تمجيد قيم البادية وحروبها.
توقف السارد طويلا عند قدرة سائس الخيل على تطويعها. فقال إن ترويض الخيول وجعلها طيعة أمر تعتوره صعوبة؛ لأن ذلك يعد افقادا للجواد حريته وهوما لا يتأتى إلا لفارس خبر الخيل والفروسية.
اكد الرجل ان الخيل قبل ترويضها تكون ذات نية طيبة لا تضمر شيئا لسائسها الذي تُقدر مهارته في "التطبيع" من دون ايذاء. اضاف ان تدريب الجواد ليكون "عاديا" أو "مُطبّعاً" يبدأ بوضع قطعة قماش على ظهره فترة من الوقت ترفع يوميا وتعاد، ليغدو وضعها ورفعها سهلاً وميسورا لكنه أوضح أن السائس الجيد من "يُطبع" الجواد ملاطفا وهامسا بكلمات تبثُ الطمأنينة لوضعه المُقبل. أفاض المتحدث في شرح طريقته في الترويض والتطبيع بالهدهدة والتمليس على ظهر الجواد الذي يأخذ شيئاً فشيئاً في تقبل وضعه الجديد. شرح أن أياما طويلة وصعبة ستمر على من أراد أن يكون سائسا متقنا للترويض، وقال إنه لا يُقدم على وضع الشكيمة في فم الجواد، وهي قطعة حديدية لا يقاد بها إلا بعد أيام وتكون مدهونة بدبس أو عسل ليتقبلها الجواد وهي خطوة متقدمة في "التطبيع" يحرص أن تستمر يوميا حتى تصبح ممارسة مألوفة لتبدأ خطوة ربط الشكيمة المُحلّاة باللجام فتترك في فم الجواد لساعات.
في الأثناء توقف السارد عند مشاعره حيال الجواد الذي يصفه جموحاً يستأهل كل هذا العناء، خصوصا إذا ما كان من سلالة نبيلة. وصف الخيل وأفاض في تمجيدها لكنه أكد أنه يميل الى مراقبتها قبل "تطبيعها". قال بما يعني ان سلوكها يعجبه ويثير فيه توقاً للعودة الى مساحات لا تلوث فيها ولا تنازل أو مهادنة. واضاف : الخيل من دون تطبيع تعني اللاهدنة أما تطبيعها فيحيلها حيوانا يُقاد برسن في تمارين المشي والخبب والهذب ومن ثم امتطاؤه وركوبه أول مرَة.
استرسل المتحدث في عرض معاناة "مُطبعي" الخيل الذين صنَفهم فئات وطبقاتـ، بيد أنه قال إن بينهم قصير النفس الذي تعوزه الحكمة والصبر فيلجأ الى السوط قبل الأوان ظناً بأن الجواد سينسى أنفته وتمرده فيخشاه مستسلماً.
لا أدري لِمَ توقف السارد عند هذه الفئة من السائسين الذين أفاض في وصف مقته لهم. قال إن منهم من يذهب بعيدا إلى حد تبريح عقوبة الجواد الذي لا يطاوعه. ومنهم من يوصي بتحويل الجواد أو الفرس إلى أعمال الحراثة والنقل، وسواها من وجهات، لا مكان لها في حياة الخيل، إنْ كانت خيلاً.
مرّت سنوات وسنوات وجاء أحد الجنوبيين ضيفا يرافقه ابنه البكر. كان الابنُ مثقفاً، فسألناه عن القطعان الكبيرة والخيل وسياسة الخيل. تنهّدَ وبأناةٍ قال: أستعيد صوراً استقرت في الذاكرة لخيل أبي في قصِ حكاياته فأجدها سردية وطيفا جنائزيا ومأتما مقيما. اليوم لا خيل بعدما اقصاها الصمت والموت بعدما وظّفت لمهمات الحمير. اليوم خيولنا ان وجدت لا تطفح بخطاب التحدي والامتلاء.
تشرّبت الذاكرة تلك الكلمات التي كان أقساها تساؤلاً يتردد صداه: ألم يكن أمس مريضا ليبدو يومنا هذا طريح الفراش؟. وختم : إن "الحصان" بعد تطبيعه وترويضه يمكنك أن تنعته ما شئت من أسماء التدجين. فأنت تختار عليقته ومهماته لينسى ذاته فينقاد لك حتى من دون سوط.

نيسان ـ نشر في 2023-10-02 الساعة 19:10


رأي: سليمان قبيلات كاتب وصحافي اردني

الكلمات الأكثر بحثاً