خطورة النظام السياسي وخياراته
خالد الدخيل
كاتب سعودي
نيسان ـ نشر في 2015-11-07 الساعة 20:49
المآل الذي انتهى إليه الأمر في أربع من خمس دول عربية مرت عليها موجة ما بات يعرف بالربيع العربي يطرح سؤالاً ليس عن الربيع، وإنما عن النظام السياسي الحاكم: علاقته بالحدث التاريخي، كونه حصل على ساعته وبخياره، ودوره فيه، والمآل الذي انتهى إليه.
صحيح أن الربيع انتهى في شكل أو آخر في الدول الأربع إلى خريف، خصوصاً في ليبيا وسورية. لكن القول إن الربيع بذاته هو المسؤول عن ذلك فيه نوع من الخفة، والهروب من مواجهة حقيقة ما حصل وما نتج منه. الغريب أن هناك ما يشبه الإجماع مثلاً على أن المسؤول الأول عن تحول الثورة السورية إلى حرب أهلية مدمرة هو الرئيس السوري بشار الأسد، وليس أحداً سواه. في مقابل ذلك، يقال إن فكرة الربيع ذاتها هي المنبع الذي فجر كل هذه الشرور: أطلق شرارة خلافات في هذه الدول اتضح أنه لا حدود لها، وهيأ الأرضية فيها لحروب لا تنتهي، وفجر مخزون طائفية كانت في حالة كمون. المتأمل في هذا القول سيجد أنه يعبر عن تناقض رث، وعن ارتباك أمام صورة الحدث. مصدر الارتباك والتناقض هو تجريد حدث الربيع من حقيقته، وتحويله إلى حالة هلامية عصية على التحديد والتجسيد، وبالتالي قابلة لأن يعزى إليها كل شيء.
لكن الربيع كحدث متجسد في ممثلين له، ومناصرين، وخصوم، وفي أفعال، وردود أفعال، وفي تظاهرات، وأفكار ومواقف، وقتال، وجيوش، وحروب، ومؤسسات سياسية وأمنية، وعمليات خطف، واختفاء قسري، ثم مقاتلين، فميليشيات، ودول، وشبكات مصالح محلية وإقليمية ودولية، تتقاطع أحياناً وتتصادم أحياناً أخرى. من المسؤول في هذه الحالة، الربيع كفكرة هلامية مجردة؟ أم هذه التجسدات الملموسة على الأرض؟ من يريد أن يعرف الحقيقة يدرك أن الفكرة لا وجود لها من دون تمثيل لها على الأرض. كل فكرة لا وجود لها، لا يمكن أن تكون فعالة أو مسؤولة عن شيء. مثلما أنه لا يوجد فكر من دون حامل له، لا وجود لرأي من دون صاحب لهذا الرأي. ولا وجود لدين من دون مؤمنين به، ومتدينين وفقاً لقيمه وتعاليمه. بعبارة أخرى، لا يوجد فعل من دون فاعل. أيضاً لا يوجد فعل من دون رد فعل. بالمعنى ذاته، لا توجد ثورة من دون فعل ثوري، ولا مقاومة للثورة من دون ثورة مضادة. الثورة فعل، وكذلك مقاومة الثورة كرد فعل على الفعل. لكل واحد من ذلك تاريخ، وموروث، وعلاقات ومصالح.
يفترض أن كل ذلك من البديهيات، وهو كذلك. لكن تمسك البعض بهلامية الربيع كمصدر لتفسير الحدث ومآلاته استلزم إعادة الأمور إلى نصابها. وظيفة التفسير الهلامي في حالة الربيع العربي مزدوجة: أولاً إنكار الحدث أصلاً، وإعطاؤه اسماً مشيناً لشيطنته مثل اسم الإرهاب، أو المؤامرة. هل يمكن أن تكون الجماهير، وهي بمئات الآلاف أو الملايين هي الفاعل لو أن ما حدث كان في أصله ومبتدئه إرهاباً أو مؤامرة؟ الوظيفة الثانية، تبرير رد فعل السلطة على الحدث، لإعطائه صبغة شرعية من حيث أنه مقاومة للإرهاب والمؤامرة معاً. لا يهم في مثل هذا التفسير أن رد فعل السلطة على التظاهرات الجماهيرية كان هو العامل الحاسم الذي وضع أسس مسار الحدث وتداعياته، بما في ذلك رد الفعل على الحدث في دول الربيع الخمس. هذا العامل هو الذي صنع الفرق بين ما انتهت إليه الأمور في كل واحدة من هذه الدول. في تونس، كان رد فعل السلطة المباشرة محاولة استيعاب تظاهرات الجماهير والاعتراف مبكراً بمشروعية مطالبها. وهو ما عبر عنه الرئيس حينها، زين العابدين بن علي، بكلمته الشهيرة «فهمتكم»، ثم هروبه من البلد، بعدما تبين له أن الأحداث قد تتجه لما هو أسوأ. موقف الرئيس هنا، مهما كان رأينا فيه، أبطل إمكانية الصدام الدموي بين الجماهير والسلطة، وفتح بالتالي المسار أمام خيار الحل السياسي كمخرج. في مصر، أمسكت المؤسسة العسكرية بخيوط الحدث منذ بدايته، وتجنبت بذكاء مشهود له الاصطدام بالجماهير. جعلت من الرئيس حسني مبارك الخصم الوحيد لهذه الجماهير، لكن بمعزل عن النظام السياسي الذي تمسك بمفاصل القوة الرئيسية فيه. وعندما وصل «الإخوان» إلى الحكم من خلال الثورة، نجحت المؤسسة العسكرية مرة أخرى بمنعهم أولاً من الإمساك بمفاصل قوة النظام، وباستثمار أخطائهم الكارثية، ومن ثم الانقلاب عليهم، وإزاحتهم عن السلطة، وإعادتها إلى ما كانت عليه قبل الثورة. وقد نجحت هذه المؤسسة حتى الآن بتجنيب مصر الانزلاق إلى حرب أهلية. لم يتعدّ إنجاز المؤسسة العسكرية هذا الحد، من حيث إن الوضع السياسي في مصر لم يحسم نهائياً بعد. والمؤشرات إلى ذلك كثيرة، من أبرزها العزوف الشعبي الواضح عن المشاركة في الانتخابات، الرئاسية أولاً، ثم البرلمانية ثانياً قبل أيام. وهو عزوف يشير إلى احتجاج كبير، وإن كان صامتاً، على ما انتهت إليه العملية السياسية حتى الآن.
إذا كانت تونس تمثل نموذج تغليب خيار الحل السياسي كمخرج أمام ثورة شعبية، ومصر نموذجاً لنجاح انقلاب مؤسسة عسكرية على ثورة شعبية، فإن سورية، وتحديداً النظام السوري، تمثل نموذجاً لتغليب الحل الأمني الدموي في محاولة لوأد الثورة في مهدها. تفترق هذه النماذج في أمور منها أن المجتمع المدني في تونس هو الأقوى، وفي سورية هو الأضعف. في مصر، احتمى المجتمع المدني بالجيش خوفاً من «الإخوان». في تونس كانت «النهضة» أكثر استنارة وذكاء من «إخوان» مصر. في كليهما، لا يفتقر الجيش تماماً إلى قاعدة شعبية. أما في سورية، فنحن أمام نموذج لهيمنة مؤسسة عسكرية تستند إلى عقيدة طائفية مضمرة، ولا تحظى بقاعدة شعبية. مثلت الثورة بالنسبة إلى الطاقم الحاكم السوري تهديداً وجودياً. من هنا المغامرة أولاً بدفع البلاد إلى حرب أهلية مدمرة، ثم الاستعانة بقوى خارجية (إيران وميليشيات تشارك النظام الانتماء الأقلوي، وأخيراً روسيا). تفادت تونس ومصر دخول أي قوى خارجية في الصراع الداخلي. النتيجة أن النظام التونسي دخل في عملية تحول سلمي ذاتي من الداخل. في مصر، يقاوم النظام هذا التحول، لكن إلى متى؟ أما في سورية، فخسر الطاقم الحاكم مستقبله تماماً، وانتهى النظام الذي بدأ على يد البعث في ربيع 1963، ويواجه الآن خيار الحل السياسي برعاية خارجية. من المسؤول عن كل ذلك: الربيع؟ أم النظام السياسي؟