اتصل بنا
 

(الدولة الإسلامية) وعصاب الطائرة الروسية

خبير في الحركات الاسلامية

نيسان ـ نشر في 2015-11-08

نيسان ـ

منذ اللحظة الأولى لسقوط الطائرة الروسية بعد إقلاعها من شرم الشيخ وتحطمها ومقتل 224 شخصا كانوا على متنها معظمهم من السياح الروس الذين كانوا في طريق عودتهم إلى سان بطرسبورغ، كانت الفرضية الأساسية تشير إلى عمل "إرهابوي"، وهو الأمر الذي أدركته جيدا الأجهزة الاستخبارية الدولية، إلا أن السلطات المصرية وأجهزتها الأمنية والإعلامية كانت قد دخلت في "حالة إنكار"، وأصرت على الاستثمار في الوقت لعل العالم ينسى الكارثة كما تناسى من قبل جرائم الانقلاب العسكري، لكن حكماء الإرهاب في مصر الذين دشنوا الانقلاب في الثالث من تموز/ يوليو 2013، تحت ذريعة "محاربة الإرهاب"، ووسعوا من مداركهم الإرهابوية بحيث باتت تتسع لجماعة الإخوان المسلمين التي فازت بانتخابات ديمقراطية، وأصبحت الحوادث العرضية وحتى الكوارث الطبيعية أعمالا "إرهابية" يقف خلفها جماعة الإخوان، أصبحوا فجأة يؤمنون بحوادث لا أول لها، بحسب برهان "مينفعش كده".

على الصعيد الدولي بات في حكم المؤكد أن الطائرة الروسية قد أسقطت، ورجحت ذلك وكالات استخبارية عديدة وفي مقدمتها الأمريكية والبريطانية، ولهذا أعلنت شركات طيران غربية وعربية عن تعليق رحلاتها إلى شرم الشيخ، بناء على احتمال أن يكون الحادث ناجما بالفعل عن "قنبلة"، وبدأ الجميع يأخذ إعلان الفرع المصري لـ"الدولة الإسلامية" (ولاية سيناء) مسؤوليته عن العملية على محمل الجد، وجرى تذكر إبراهيم العسيري، مهندس قنابل تنظيم "القاعدة في جزيرة العرب"، الذي تولى صناعة قنبلة عمر الفاروق في محاولة التفجير الفاشلة عشية أعياد الميلاد 2009 لطائرة أمريكية كانت متجهة لديترويت، والمحاولة الفاشلة الثانية من خلال مواد متفجرة سائلة وضعت في طابعات وزرعت في طائرة أخرى.

لقد كشفت البيانات التي استخلصت من أحد الصندوقين الأسودين لطائرة الإيرباص "إيه 321" الروسية، والتي تحطمت في 31 تشرين الأول/ أكتوبر في سيناء الطابع "العنيف والمفاجئ" للحادث، في الوقت الذي كانت تشير فيه بيانات الطائرة بأن "كل شيء كان طبيعيا" على مستوى الآلات أو الأحاديث حتى الدقيقة ال24 للرحلة عندما توقف الصندوقان عن العمل بشكل مفاجئ ما يدل على "انخفاض مفاجئ جدا للضغط ناجم من انفجار".

حالة العصاب لم تصب السلطات المصرية وحدها فقد أصابت الحكومة الروسية التي دخلت في حالة من الإنكار الجزئي، واتهمت الولايات المتحدة والدول الغربية بتسييس المسألة واستثمارها على خلفية الخلافات بخصوص القضية السورية وغيرها، لكن سرعان ما بدأت روسيا بالخروج من آثار الصدمة وشرعت بترحيل مواطنيها من شرم الشيخ، فقد باتت روسيا تدرك أن تدخلها العسكري في سوريا له عواقب ربما لم تكن الطائرات المدنية أحد توقعاتها المنتظرة، فعندما بدأ الجيش الروسي تنفيذ ضربات جوية ضد تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا، بعد يومين من الخطاب الذي ألقاه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 28 سبتمبر 2015، كان الروس ينتظرون بعض الهجمات الارتدادية من خلال أذرع تنظيم الدولة الإسلامية في المجال الروسي.

أحد المسائل الأساسية في معرفة تنظيم الدولة الإسلامية وسر جاذبيته، لا تكمن في بنيته الإيديولوجية فحسب، وإنما في تكتيكاته العنيفة المبتكرة، وقدرته على ابتداع وتجريب وسائل عنيفة تخالف أفق التوقعات النمطية، وخلق صورة مشهدية مروعة من خلال آلته الإعلامية المتقنة، فعقب بدء الولايات المتحدة تنفيذ هجماتها الجوية على مواقع التنظيم في العراق في 8 آب/ أغسطس 2014، بدأ التنظيم ببث سلسلة من عمليات قطع الرؤوس لمواطنين أمريكان، ففي 19 آب/ أغسطس 2014، قام التنظيم بنشر شريط مصور بعنوان "رسالة إلى أمريكا"، يقوم فيه عضو ينتمي إلى التنظيم بقطع رأس رهينة أمريكي يُدعى جيمس فولي، وفي 2 أيلول/ سبتمبر 2014قام بنشر شريط آخر بنفس العنوان يتضمن قطع رأس رهينة أمريكي ثان يدعى ستيفن سوتلوف، وكلا الرهينتان صحافيين أميركيين.

وعندما بدأت الولايات المتحدة ببناء تحالف دولي واسع للقضاء على التنظيم، وأصبحت بريطانيا أحد أركانه، بث التنظيم شريطا مصورا آخر بعنون "رسالة إلى حلفاء أمريكا" في 13 أيلول/ سبتمبر 2014 يقوم فيه بقطع رأس رهينة بريطاني لدى التنظيم، يدعى ديفيد هينز، وفي 3 تشرين أول/ أكتوبر 2014 بث التنظيم شريطا يقوم فيه بقطع رأس رهينة بريطاني آخر يدعى ألن هينينغ، وفي 16تشرين الثاني/نوفمبر 2014 بقطع رأس رهينة أميركي يدعى بيتر كاسيغ، زبعد أن أعلن رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي أثناء جولة في الشرق الأوسط تقديم مساعدات غير عسكرية قيمتها 200 مليون دولار للدول التي تحارب الدولة الإسلامية، بث التنظيم في 20 كانون ثاني/يناير2015 شريطا بعنوان "رسالة الى حكومة وشعب اليابان" يهدد فيها بقتل رهينتين يابانيين وهما كينجي غوتو جوغو وهارونا يوكاوا، الأمر الذي نفذه لاحقا، الأمر الذي تكرر بطريقة مروعة عندما أحرق التنظيم طيارا أردنيا وقع في أسر التنظيم.

منذ تدخل روسيا في سوريا والذي أيدته الحكومة المصرية، ثم شروع الطائرات الروسية بقصف مواقع تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا، كان السؤال الرئيس، هو كيف سيرد تنظيم الدولة الإسلامية، هل سيعمد إلى تكرار سيناريو قطع الرؤوس كما فعل في الحالات السابقة، وهو أمر لم يعد يحقق النتيجة المطلوبة، وعندما نشرت مؤسسة الفرقان التابعة للتنظيم كلمة صوتية للناطق باسمها أبو محمد العدناني بعنوان "قل للذين كفروا ستغلبون"، في 13 أكتوبر 2015، متوعدا روسيا بالهزيمة في سوريا، قائلا "ستغلبين بإذن الله يا روسيا"، داعيا إلى مهاجمة روسيا وأمريكا بقوله "هبوا يا شباب الإسلام في كل مكان إلى جهاد الروس والأمريكان. إنها حرب الصليبيين على المسلمين، حرب المشركين على المؤمنين"، مؤكدا على أن "الدولة الإسلامية اليوم اقوى من كل يوم ولا زالت تسير من قوة إلى قوة"، وان "راية الدولة الإسلامية اليوم بات يحملها جيل جديد بأكمله سوف يعقبه عليها أجيال"، لكن أحدا لم يكن يتوقع كيف سيكون رد تنظيم الدولة.

عقب سقوط الطائرة الروسية، في 31 تشرين الأول/أكتوبر، أعلن تنظيم "الدولة الإسلامية ـ ولاية سيناء" مسؤوليته عن سقوطها، وجاء في بيان ولاية سيناء المعنون بـ "إسقاط طائرة روسية وهلاك ما يزيد على 220 صليبيا روسيا كانوا على متنها"، "تمكن جنود الخلافة من إسقاط طائرة روسية فوق ولاية سيناء تقل على متنها ما يزيد على 220 صليبيا روسيا قتلوا جميعا" مضيفا "ولتعلموا أيها الروس ومن حالفكم أن لا أمان لكم في أراضي المسلمين ولا أجوائهم، وأن قتل العشرات يوميا على أرض الشام بقصف طائراتكم سيجرّ عليكم الويلات، وأنكم كما تَقتلون تُقتلون".

ثم أصدر تنظيم الدولة الإسلامية من خلال إعلام ولاية نينوى إصدارا مرئيا بعنوان "إسقاط الطائرة الروسية ثأرا لأهلنا في بلاد الشام"، تضمن الاحتفال وتوزيع الحلوى ابتهاجا بالعملية، وظهر فيه عدد من المقاتلين الروس من أعضاء التنظيم، وقال أحد مقاتلي التنظيم الروس باللغة روسية: "نهنئ إخواننا المسلمين في كل مكان بإسقاط طائرة الكفار الروس"، وتوعد الروس قائلا "إن شاء الله سنصل إلى ديارهم.. سنغزوكم ونسحقكم.. وستدفعون كثيرا بسبب مجيئكم لبلادنا"، وبعد يومين من التكهنات والتلاومات والخلافات حول سقوط الطائرة بين مختلف الأطراف، والإصرار على حالة الإنكار، أصدرت ولاية سيناء كلمة صوتية بصوت القائد أبو أسامة المصري المسؤول العام والشرعي في الولاية بعنوان مثير "نحن من أسقطها فموتوا بغيظكم"، قال فيها "سقطت طائرة الروس، وأعلن جنود الخلافة في ولاية سيناء مسؤوليتهم عن إسقاطها، نقول لكم: مُوتُوا بِغيظِكُم؛ نَحنُ بِفضلِ اللهِ مَنْ أَسقَطَهَا. ولسنا مجبرين عن الإفصاح عن آلية سقوطها. فهاتوا حطام الطائرة فتشوه. وأحضروا صندوقكم الأسود وحللوه .. وسنفصح إن شاء الله عن آلية سقوطها في الوقت الذي نريده وبالشكل الذي نراه .. ولكن هل لاحظتم أنها سقطت في اليوم السابع عشر من شهر الله المحرم؛ هل تدرون أن هذا اليوم هو الموافق ليوم بيعتنا لخليفة المسلمين حفظه الله؟ .. أيها الروم؛ إن لنا ولكم موعدا لن نخلفه نحن ولا أنتم هو الأعماق".

كانت جماعة أنصار بيت المقدس قد بايعت تنظيم الدولة الإسلامية وأميرها أبو بكر البغدادي في 10 تشرين ثاني/ نوفمبر 2014، الموافق لـ 17 محرم، ويبدو أن العملية قد تمت بتنسيق كامل بين ولاية سيناء ومركز تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا، وعلى الرغم من حالة الإنكار التي لا زالت تلازم الجانب المصري والروسي، إلا أن تنظيم الدولة الإسلامية يسعى إلى استثمار الحادثة إلى أبعد حد ممكن، ولا شك بأن لكل حساباته في الكشف عن آلية سقوط الطائرة، وفي الوقت الذي تراهن فيه الحكومة المصرية والروسية على النسيان قبل الإعلان القطعي، سيعمل تنظيم الدولة على انعاش الذاكرة والكشف عن العملية ببطء.

حالة العصاب التي سببها سقوط الطائرة الروسية للسلطات المصرية يمكن فهمها من الناحية التحليلنفسية الفرويدية وفي مجال الطب النفسي العيادي، فهي ناتجة عن آثار ما بعد الصدمة التي أعقبت حالة من التلبس بالنكران التام، فقد أصرت السلطات المصرية على أن مصر تتمتع بالاستقرار التام وأنها قضت على أساس الإرهاب الإخواني المفترض، ولا شك أن حالة من التشوش الإدراكي هيمنت على عقل صانع القرار، بحيث بات في حالة من التماهي مع ذريعة الانقلاب بحجة تخليص مصر من إرهاب الإخوان، وواقع الإرهاب، ولا جدال بأن الحكومة المصرية بحاجة ماسة إلى المساعدة للخروج من حالة الإنكار وضلالات الأفكار والاستيهامات، عبر الإقرار والاعتراف بأن الانقلاب خلق الأسباب والشروط والظروف الموضوعية اللازمة لتفشي الإرهاب.

نيسان ـ نشر في 2015-11-08

الكلمات الأكثر بحثاً