روسيا الحائرة
محمد قبيلات
كاتب أردني
نيسان ـ نشر في 2015-04-23
كان للجغرافية السياسية تأثير أكبر من الأيدولوجيا في رسم السياسة الخارجية لروسيا، فسياستها ظلت بشكل ومضمون واحد، منذ عهد القياصرة، الى الحقبة السوفيتية، وصولاً إلى روسيا اليوم، والمتورثة لكل أعباء الماضي بقضه وقضيضه.
اختارت روسيا الديانة المسيحية في القرن التاسع عشر، حيث كان الخيار الثاني أمامها هو الاسلام، وكلا الديانتين كانتا بنفس القوة على طاولة القيصر، حيث اختار وبجرة قلم ديناً للدولة، وهذا ما كان، إلى أن أتت الثورة البلشفية، بمسارها الأيدولوجي المختلف تماماً، ومن ثم جاء الانقلاب على الدولة السوفيتية ليعيد روسيا الى المربع الأول.
يشرح فرضية الجغرافيا السياسية دخول روسيا -تحت شعارات مختلفة- ثلاث حروب لغاية واحدة؛ إذ دخلت حلف بيسمارك ( الأباطرة الثلاثة)، ومن بعد، الحرب العالمية الأولى، ثم "الثانية"؛ فكانت النتيجة بناء جدار برلين، وبدء لعبة الحرب الباردة، حيث استمرت ولم تنته بهدمه، فما زالت القوى الرئيسية في العالم، تواصل مشاغلة روسيا بملفات اقليمية واقتصادية عديدة، ضمن محاولات تطويعها أو تحييدها.
لعنة الجغرافيا لا الأيدولوجيا ظلت تلاحق روسيا، فهي دولة تتسطح على سبع مساحة العالم؛ ما فتح عليها عيون الأعداء، وأبقاها مضطرة للتورط بتقمص الندية، رغم كلفتها، على صعيد التسلح وبناء الأحلاف الدولية، والمحافظة على المصالح.
ومن الجدير بالملاحظة هنا، أنه بينما كان سباق التسلح ينهك الاتحاد السوفيتي، نجد أن صناعة الأسلحة في الغرب الكولنيالي كانت تدعم اقتصادياته، كما إنه يستعمر الدول التابعة له وينهبها، ليراكم الثروة ( نهب الأطراف ورشوة المراكز)، أما الاتحاد السوفيتي، فقد عانى الإنهاك والاستنزاف بسبب تحمله أعباء بناء القوة العسكرية، ودعم و"تصميد" الحلفاء.
الأهم من كل ذلك، وهنا تكمن المفارقة التاريخية الكبرى، أن الغرب الامبريالي راح "يؤنسن" الرأسمالية الجشعة، بمنح هوامش كبيرة من الحريات، بدساتير عادلة تضمن تداول السلطة، وتأمينات للبطالة والصحة وغيره، بينما في الاتحاد السوفيتي ورغم ما أحدثته الاشتراكية من نقلات نوعية في مستويات عديدة، إلا إنه ذهب باتجاه "وحشنة" الاشتراكية، بتمركز السلطة، والقمع، ومنع الحريات، وتشكيل طبقة مصالح طفيلية جديدة، من كبار المسؤولين الحزبيين والضباط.
وربما هذا ما كوّن بذرة الفناء التي أودت بالتجربة السوفيتية، حيث دخلت البلاد بعد انهيارها في فوضى عارمة، أدّت الى انفراط الجمهوريات السوفيتية، وانهيار مؤسسات الدولة، الى أن جاء بوتين، ودخل في حربه الضروس، داخلياً وخارجياً، في سبيل إعادة التموضع والتنظيم، لاسترجاع أمجاد روسية.
اذا اعتبرنا أن ما تقدم بمثابة المدخل والإطار للعلاقة بين روسيا والوطن العربي، فإننا سنلاحظ أن الموقف الروسي، ومنذ تحالف القياصرة مع عدوهم العثماني ضد محمد علي، الى موقف الاتحاد السوفيتي الملتبس من اليهود واسرائيل، بسبب حربهم مع النازي، الى الموقف الرخو من العدوان الغربي على العراق، نلاحظ أن هذا الموقف ظل يراوح في إطار الارتباك الذي بقي الثيمة الرئيسية للسياسة الخارجية لروسيا، التي بقيت على الدوام رهينة ردّات الفعل.
الارتباك ذاته استمر ليصل الى سياسات بوتين تجاه الربيع العربي، فربما لو تسنّى لروسيا الاندماج في المجتمع الدولي، لاختلف الموقف تماماً، لكن مازال الحذر يشوب علاقاتها بالدول الاسيوية، مع ملاحظة أساسية، وهي أن الغرب عموما لا يريدها رغم حاجته لمواردها.
روسيا بحاجة داخليا لبناء إدارة تعتمد المؤسسية، والقوانين الحديثة لإدارة الدولة، بما يضمن استثمار طاقاتها ومقدراتها الاقتصادية الهائلة، وإعادة توزيعها بأكثر ما يمكن من عدالة. أما خارجياً فإن أمامها التحدي التاريخي الكبير، وهو أن تصبح عنصراً فاعلاً ومقبولاً في المجتمع الدولي؛ ما يتطلب تخطيها الحواجز والعراقيل، والأهم، الخروج من فكرة التحوصل والتمترس داخل القلعة، والخوف من أن تمتد اليها رياح التغيير.
ربما لو تمّ ذلك، لانتقلت روسيا الى دائرة الفعل، وتخلصت من الارتباك الذي جعل منها فك الكماشة الآخر للغرب، بدعمها الأنظمة الدكتاتورية في منطقتنا.