اتصل بنا
 

دفاعا عن رسول الله

نيسان ـ نشر في 2023-12-06 الساعة 11:25

نيسان ـ لا شك في أننا نعيش، منذ ولادتنا، على مواسم سنويّة ينشب فيها الصراع بين رجال الدين، حول مسائل تنسب للرسول الكريم عبر الحديث الشريف، كرؤية هلال رمضان، وزكاة الفطر وغيرهما، فيدور الخلاف بينهم بين مفسق ومزندق ومكفر ومجهل، وكثيرا ما قد يتخلل هذا وذاك السب والشتم والتحقير؛ مما يدفعني الدهش والشك، أحيانا، إلى أنّ هؤلاء النفر ليس لهم علاقة بالقرآن ولا ينتمون إليه ألبتة. والحق، أن ثمة عددا غير قليل من العلماء والفقهاء أصحاب الرأي السديد والفكر المستنير والخُلُق الرفيع يقفون من هذه المواقف موقفَ الواعي الحصيف، والفاهم العميق لحقيقة الإسلام ومقاصده، مبتعدين بأنفسهم عن كل هذه الترهات والمساجلات.
ففي موضوع زكاة الفطر، وفي شهر رمضان من كل عام، يبدأ الصراع بين المذاهب في كيفية إخراج زكاة الفطر، أتخرج مالا نقدا أم طعاما؟ لتبدأ المناقشات والمجادلات والمشاحنات بين رجال الدين كلٌ حسب مذهبه وشيخه، هذا يجيز وذاك يمنع، ناسبين ذلك للرسول الكريم. وهي في أصلها، مبدأ من مبادئ التكافل الاجتماعي، ترتبط بالزمان والمكان والحالة والظروف، فالغرض منها، كما يظهر جليا من نص الحديث وسياقه مساعدة المحتاجين، والوقوف معهم، وفك كربهم، ومشاركتهم الناس أفراحهم وسعادتهم في عيدهم، هذه هي الغاية التي يجب أن تتحقق، وليس الأمر كما فهمه بعض الفقهاء ورجال الدين، يحسب بالدرهم والدينار، أو بصاع من بر وشعير، وكأن الموضوع محدد برقم أو مقدار، سواء شبع الفقير أم لم يشبع، مات المسكين أم لم يمت، المهم أن يدفع المسلم هذا المبلغ أو هذا المقدار من طعام، ولْيهلك بعد ذلك من هَلَك.
أما بالنسبة لرؤية هلال رمضان، فإنني لا أستطيع أن أتصور الفهم القاصر والمسيء، حقا، لرسولنا الكريم، في موضوع رؤية هلال رمضان، كيف فهم بعض الفقهاء (المذهبيِّين) من قول الرسول الكريم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"، أن هذا الحديث لمطلق الزمن؛ أي أنه لا يقتصر على زمن الرسول الكريم الذي لا يتوفر على إمكانيات تتيح لهم معرفة بداية الشهر إلا برؤية الهلال، وكيف فهموا أن المقصود بالرؤية هي العين المجردة، وأن رمضان مرهون بها لا غير، وكيف فهموا أن الرؤية مقصودة بعينها، وليست وسيلة فقط لمعرفة غرة رمضان، وكيف فهموا أنه لا يجوز الأخذ بالحساب الفلكي لدورة القمر، التي هي محسوبة بدقة متناهية لا تحتمل أي خطأ مهما صغر، إذ يقول تعالى: ﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ﴾
أما إذا ما انتقلنا إلى ما وصلنا من أمور تتعلق بحياة الرسول الشخصية، فإنني لا أعرف كيف جعل الفقهاء من حياة الرسول الكريم الشخصية، كطريقة جلسته وأكله وشربه ونومه ولباسه، وأنه يحب هذا ويكره ذاك من الأشياء، وغير ذلك من أمور شخصية، كيف جعلوها سنة يجب أو يُستحب الاقتداء بها ليثاب عليها المسلم، وهي أمور ذوقية لا علاقة لها بدين أو بحق وباطل أو بخير وشر، لا أعتقد أن هذا يرضيه عليه الصلاة والسلام، فلا يرضى رسول الله، أن يلغي المسلم شخصيته، وذاته، وذوقه، ورغباته في ما أبيح له من الأشياء، فهذا يتناقض تناقضا صارخا مع أبجديات التربية القرآنية في بناء الذات والنفس والدعوة إلى الحرية ونبذ التقليد.
وفي خضم ذلك، لا بد من القول أن الإسلام حتما وقطعا مع التجديد والتطور والازدهار، الإسلام دين الحضارة والعلم والتقدم، الإسلام الذي جاء به محمد ودعا إليه، فتقديم هذه الصورة المشوهة عن رسول الله -حاشاه- تتنافى مع ما جاء به، الصورة التي تقدم الرسول بأنه رجعي ومتخلف وبدائي، هو صلى الله عليه وسلم منها براء. فمناطحة رجال الدين وفهمهم السقيم والمتحجر تنسب لهم لا للرسول صلى الله عليه وسلم، وما تلك المناطحات إلا خصومات علمية قذرة، لا علاقة لها بالبرهان والإيمان، خصومات مزقت الإسلام وشـتـتـت الأمة ونفّرت المسلمين من دينهم، وجعلتهم طوائف ومذاهب متناحرة مكفرة بعضها بعضا، بل جعلت من الدين الواحد أديانا شتى، هذا هو ديدن معظم رجال الدين عبر التاريخ، فهم المسؤولون عن تمزيق الإسلام زمن موسى عليه السلام، ففرخوا اليهودية وطوائفها، وكذلك زمن عيسى عليه السلام حين فرخوا المسيحية وطوائفها، وكذلك فعلوا بعد محمد عليه السلام، وما زالوا يفعلون، ففرخوا المحمدية وطوائفها، منها السنية والشيعية والإباضية والزيدية والقاديانية والبهائية والهررية والقائمة تطول، كلما جاءت أمة لعنت أختها.
فالذي يؤمن بأن الذي يسبّ الله تعالى وتجبر يُستتاب، والذي يسبّ رسول الله لا يُستتاب هو عدو لله ولرسوله، والذي يؤمن بأن حديثا ظنيا ينسخ حكم آية قطعية الثبوت في القرآن العظيم هو عدو لله ولرسوله، والذي يؤمن بأن ثمة وحي غير القرآن نزل على رسول الله غرض التبليغ والتشريع فهو عدو لله ولرسوله، ﴿قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَٰذَا أَوْ بَدِّلْهُ ۚ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ۖ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم﴾، ويقول تعالى: ﴿وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا ۚ قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ مِن رَّبِّي ۚ هَـٰذَا بَصَائِرُ من رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾. والذي يؤمن بأن تقليد الرسول الكريم في صفاته الشخصية من الدين، هو عدو لله ولرسوله، ومن يعتقد أن الرسول الكريم كان يحرّم من الطعام من غير القرآن، فهو عدو لله ورسوله ﴿قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِۚ﴾، والذي يعتقد أن النبي أباح قتل المرتد فهو عدو لله ورسوله، إذ يقول تعالى: ﴿وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، عدا عن مئات الآيات التي تبيح حرية اختيار المعتقد. والذي يؤمن بأحاديث تُنسب للنبي بوصفها تشريعا دينيا وهي تعارض القرآن معارضة صريحة هو عدو لله ولرسوله.
فالاقتداء بالرسول الكريم واتباع سنته، هو اتباعه بأخلاقه وحسن معاملته وأمانته وصدقه وجهاده، فما كان رسول الله فاحشا ولا بذيئا، ولا شتاما ولا لعانا، ما كان يسيء الظن بأحد، وما ورد أنه زندق أو كفّر أو اتهم أحدا، بل كان يحزن على من لم يؤمن به ويدعو له ﴿وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾، كان لا يعرف الحقد أو الحسد أو البغض أو الكِبر أو التعالي، لا يعرف الكسل والجبن والمداهنة والتملق، فلقد كان قرآنا يمشي على الأرض، كما جاء في الأثر عن عائشة رضي الله عنها، وهو مصداق قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾. وهذه السُّنَّة التي نراها غائبة غيابا تاما عند عدد غير قليل ممن يلتزمون بالشكليات والمظاهر التي يزعمون بأنها سُنَّة.

نيسان ـ نشر في 2023-12-06 الساعة 11:25


رأي: د. يوسف محمد الكوفحي

الكلمات الأكثر بحثاً