اتصل بنا
 

سليمان قبيلات.. الشاهد والشهيد على تفارق عصرين

نيسان ـ نشر في 2023-12-31 الساعة 06:07

x
نيسان ـ قراءة في البيئة الاجتماعية للمجموعة القصصية " طواف الغربان" :-

يقف الكاتب سليمان قبيلات، تَأريخِيًا، في مخطوطته القصصية ( طواف الغربان)، التي نوقشت أمس في مختبر السرديات الأردني، ضمن برنامج ما قبل النشر، سارِدًا أو راويًا، على برزخ افتراق يتربع بين مرحلتين، أو أنه برزخ يمثل الجسر، أو الممر، لانتقال فئة مجتمعية مهمة؛ من مجتمعات البداوة إلى مجتمع القرية، أي الانتقال من تربية الإبل والأغنام إلى حالة الفلاحة أو التريُّف والتوطُّن.
لكنه انتقال غير ناجز تأريخيًا، حيث لم يُكتب له بلوغ حالة الاكتمال، بسبب تداخل عوامل موضوعية كثيرة، لتتغلب بدورها على الجاهزية الذاتية، فتوُقِف البدوي على أعتاب الفلاحة، لينتظر هناك من دون ولوج المرحلة الأكثر تقدمية، صحيح أنه تخلى عن الإبل والترحال الدائم، لكنه أبقى على تربية الأغنام والماعز، التي يمكن وصفها بنصف داجنة لسلوكها الرعوي البري، ولم يتجاوز تلك النقطة ليصل إلى حد تربية الأبقار الداجنة بالمعنى الكامل، التي تحتاج إلى رعاية شاملة، وربما كان ذلك بسبب أجسامها الكبيرة التي تحرمها من القدرة على التنقل بالخفة ذاتها التي تمارسها الماعز، أو الإبل التي خففت من وعثاء أسفاره الصحراوية، ورافقته في حله وترحاله برشاقة ويسر.
من الجانب الآخر للصورة؛ لم ينخرط البدوي في الفلاحة بالشكل التام ليحقق طفرته الكاملة، سوى أنه زرع الأقماح ليؤمن قوته، فلم يتجاوز ذلك بحكم شح الأمطار، والطبيعة الإنتاجية للمنطقة، ولخبراته المحدودة في عوالم الزراعة، وعدم رغبته الكاملة في التوطن، فلم يزرع القثائيات والخُضَر والفواكه، ولم يصل إلى ثقافة التخزين لأيام وليالي الشتاء القارسة البرودة،طبعا لا يمكن إغفال أنه زرع الشعير لتقتات به أغنامه، وهكذا، فهو لم يترك البداوة بينما ظل على حدود الفلاحة ولم يدخلها بشكلٍ كامل.
حتى على المستوى الثقافي، أو ما يمكن أن نسميه البنى الفوقية، فلقد بقيت قيمه ذات القيم المنتمية للبادية وغلظتها، فلا تطربه إلا الأشعار النبطية، بما هي أشعار وحداءات مقاتلين تراوح بين الاعتداد والفخر بالنفس والقبيلة وهجاء الخصوم المفترضين.
كما أن الرقصة "الدحية" التي يصطف فيها الرجال مصدرين أصواتا لا تشبهها إلا أصوات كواسر الصحراء المرعبة، لم تعبر عن الفرح والبهجة بحصاد المحاصيل وجني ثمارها، بل عبرت عن الترهيب للأعداء، فلم يتغنَ هؤلاء، الطارؤون على الفلاحة، للحقول وللأمطار بالتشارك مع نساء القبيلة، كما يفعل الفلاحون في شمال الأردن في حلقات المودّع والدبكات المفرطة في الفرح والابتهاج، بل اكتفوا باهازيجهم القتالية.
ومن الموسيقى اكتفوا بالربابة ذات الوتر اليتيم وأناتها التي لا تنم إلا عن أحزان التيه في الصحراء ووحشة فيافيها، ربما أن ما دفعه إلى ذلك هو الحنين بما هو "ناستالوجيا" أو الشوق إلى هدوء البوادي، فلم يذهبوا كالفلاحين في شمال الأردن وفلسطين إلى الطبل وغيره.
راقب سليمان قبيلات هذه اللحظات المعيارية ورصدها، وعاين ارتباطاتها السوسيولوجية، فحشد كمّا هائلا من الصور والحوادث التي نجمت عن وقوف هؤلاء البدو على مشارف القرى؛ من دون الانخراط في مهماتها، لعدم تحقق المتطلبات التأريخية التي تنجز الاندماج، مع ملاحظة أنه لا يمكن إغفال دور البيئة الجغرافية التي ضبطت هذا الانتقال ورشّدته.
فخيط القرى ساير خطوط الطول بصف متقارب، امتد من جنوب الأردن إلى شماله، لكنه سار على سيف الصحراء، مشكلًا حالة من الحيرة التأريخية المبنية على حيرة الجغرافيا، حيث أمطار هذا الخيط شحيحة، فلا تصله الغيوم إلا بعد أن تفرغ جلّ أحمالها على سلسلة الجبال الغربية، بينما بواباتها الشرقية مفتوحة على الهجير الذي يأتيها بلهيبه من المفازة الممتدة إلى العراق والخليج العربي.
فيا له من زمن شحيح بوسائل إنتاجه المختلطة، الذي ظلّ أبعد ما يكون عن تحقيق الوفرة والاكتفاء! أو الانسجام في تشكيلة اجتماعية واضحة المعالم، إنه زمن تتداخل فيه عوامل التأريخ وألاعيبه كافة، وفعلا؛ لا تنطبق عليه إلا الصفة الأثيرة عند هيغل؛ مكر التأريخ، حيث يلجأ التأريخ للحيلة حين لا تتيسر له عوامل التطور كاملة، فيستعين بـ"شبه المراحل" للانقضاض على "مراحل عالقة" تأبى الأفول لعدم تحققها، وذلك عبر التهيئة للانقضاض عليها من قبل جملة من العوامل والأحداث، غير الحقيقية، على المستوى المادي.
وبهذا المعنى، كان هذا كله يجري، ضمن مخادعة تأريخية كبرى، من أجل أن تدخل العملية التأريخية مرحلة جديدة، كانت على وشك أن تؤسس لعناوين تأريخية زائفة، تتواءم مع تشكيلة اجتماعية جديدة، متجهزة بطبقتها السيادية الصاعدة، التي تفرضها بالضرورة قوى اجتماعية ظافرة جديدة، تساندها تسويات دُولية أُبرمت إبان مرحلة الحربين العالميتين.
رصد سليمان حيرة قرية مليح وترددها بين بداوة آفلة وفلاحة غير مكتملة الشروط، وباللحظة ذاتها وثّق مشهدية تفارق زمانين آخرين؛ أفول الدولة العثمانية، والدخول الإنجليزي للمنطقة، وبدايات تشكل الدولة الوطنية الحديثة، المشفوعة بهزائم مفجعة أمام جحافل الجيش الصهيوني المصطنع، والمُصَمم على غفلة من التطور الاجتماعي الطبيعي للمنطقة المثقلة بالاستعمارات المتوالية، مرحلة أنجزتها على عجل السياقات والتسويات الدُّولية الجديدة، لتتسابق مع إرهاصات تشكُل الكتلة التأريخية القادرة على بناء الدولة القومية.
فسيطر على الدولة الحديثة، المعبرة عن كل هذه التجليات المشوهة، مستوى طبقي ليس له ميزة أو إضافة تأريخية تقدمية، إذ أن أهم ميزاته هي ارتباطاته التي جُلّها خارجية، وليس من مهمة فعلية لهذا التشكل إلا تجسيد الحالة التبعية التي فرضت بدورها نمطا إنتاجيًا هجينًا، يمكن أن نوسمه بما وصمه به العلامة مهدي عامل، نمط الانتاج التبعي أو الكولنيالي، فعندما غادر المستعمرون الجدد، أي ما بعد العثمانيين، هذه الديار، تركوا ذيولهم الطبقية ملتفة على مفاصل المجتمعات والدول الخديجة، لغرض واحد فقط، ألا هو حرف المسار أو السيرورات إلى اتجاهات وصيرورات غير تلك المعدة تأريخيًا حسب تواصيف الماركسية للتطور المادي الطبيعي للتأريخ.
فكانت لعبة جديدة من ألاعيب التأريخ الماكر، استغلتها الطبقة الكومبرادورية الصاعدة الجديدة، وعملت على تزييف الوعي، واختزاله بسردية تأريخية مبسترة، مختصرة على آخر مئة عام من عمر الشعب العربي الأردني، الضاربة جذوره في عمق التأريخ، وتدوير زوايا الإنتاج الطبيعي، لتنخرط القوى العاملة في قطاع الخدمات الناشىء، كحراس وجنود ورجال أمن يحرسون قصور السادة الجدد ومشاريعهم التابعة، وبيروقراط متذيل خادم للطبقات الطفيلية، لا يوسم إلا أنه غير كفؤٍ بالمرة، تنحصر وظيفته بخنق أي تشكل لحالة مناقضة، ولقد تمّ ذلك كله بالتماهي مع الشكل المطلوب لإدارة الحكم بصفته الوظيفية.
هنا؛ لا بد من الإشارة إلى جانب آخر في غاية الأهمية، فحسب التحليل المادي للتأريخ؛ فإن البنى الفوقية تتبع، متأخرة، التغيّر في البنى التحتية، وأن الانتقال من تشكيلة اجتماعية إلى أخرى لا يخلق بنى فوقية جديدة تماما، بل إن التوريث صفة أساسية لهذه العملية؛ فالتشكيلات الاجتماعية الجديدة ترث الكثير من القيم والعادات والثقافات من التشكيلات التي سبقتها.
هذا يأخذنا فورا إلى فرضية توارث بعض القيم الجوانية، أي النفسانية/الاجتماعية، وانتقالها إلى التشكيلات الاجتماعية الجديدة، فالبدوي الذي كان دائم الترحال في الفيافي والمفازات، رغم توطنه، ظلّ مسكونًا دائمًا بهواجس الحذر من المخاطر الطبيعية والبشرية، ما زاد التصاقه بالجماعة من أجل البقاء، حتى بات اليوم يتعمق لديه الشعور بهذا الإحساس، حيث فقد الثقة بالمنظومة الجديدة، وها هو يعاود تمسكه بالقبيلة، بما هي جماعة ضامنة لأمنه الشخصي، وهذا ربما ما أسهم في إضعاف رأس المال الاجتماعي للدولة وبناها الحديثة، وبدأ يأخذ منحاه الجديد الرافض للسرديات الزائفة.
محمد قبيلات

نيسان ـ نشر في 2023-12-31 الساعة 06:07

الكلمات الأكثر بحثاً