اتصل بنا
 

فواز طرابلسي عن 'زمن اليسار الجديد' (2)

نيسان ـ نشر في 2024-01-20 الساعة 05:05

فواز طرابلسي عن زمن اليسار الجديد
نيسان ـ الحديث هنا عن كتاب فواز طرابلسي الجديد، «زمن اليسار الجديد»، الصادر عن دار رياض نجيب الريّس. تأثّر طرابلسي في صباه بأجواء سياسيّة متنوّعة تدور في فلك اليسار آنذاك: من الحزب التقدّمي والحزب الشيوعي إلى أجواء قوميّة بعدها. بعد مدرسة برمّانا يلتحق طرابلسي بكليّة في مانشستر في بريطانيا. انتسب هناك إلى جناح يساري ماركسي في حزب البعث، يقوده قيس السامرائي (الذي سيصبح في ما بعد من قياديّي الجبهة الديموقراطيّة لتحرير فلسطين، ص. 38). وربما بسبب الانتماء السياسي القومي، كانت مسيرة طرابلسي أوسع من اهتمام الشيوعيّين التقليديّين ونشاطهم في لبنان، فتراه يهتم بالثورة الجزائريّة والقضية الفلسطينية والقضيّة اليمنية التي كان قريباً من قادتها لسنوات طويلة (وكتب عنها في «جنوب اليمن في حكم اليسار: شهادة شخصيّة»). فضّل المؤلّف «البعث» على حركة القوميّين العرب لغياب المضمون الاقتصادي الاشتراكي عند الأخيرة (ص. 40). ويوضح طرابلسي أن الانفصال أسهم في اكتشاف الاشتراكيّة عند القوميّين العرب والناصريّين لانكشاف ضلوع «ملّاك الأرض ورجال الأعمال» في مؤامرة الانفصال (ص. 41). وهذه المصالح موّلت الانقلاب على النظام الوحدوي (بالتشارك طبعاً مع أنظمة خليجيّة وحكومات غربيّة). ويلاحظ طرابلسي عن حق أن النظام الناصري انحاز للاشتراكية في تلك المدة، وليس قبلها (أدّى ذلك إلى تأسيس «اتحاد قوى الشعب العامل»، وهو غير التنظيم اللبناني المعروف بهذا الاسم والذي كنّا نطلق عليه بعد 1976 تسمية «أقشَع» سخريةً منه بسبب تحالفه مع التدخّل العسكري السوري).
يلحظ طرابلسي المفارقة في أن «البعث» والناصريّين كانوا يشدّدون على الاشتراكيّة فيما كانت الأحزاب الشيوعية غارقة في التنظير لـ«ثورة وطنيّة ديموقراطيّة، وأحياناً بقيادة البورجوازيّة الوطنيّة» (ص.41-42). مال طرابلسي إلى التروتسكيّين الذين كانوا «أكثر تجاوباً مع القضيّة الفلسطينيّة من سائر تنظيمات اليسار» (ص. 42). لا يشرح طرابلسي سبب ذلك، ولكن دور الاتحاد السوفياتي كان مهيمناً على الأحزاب الشيوعيّة. كان أفق حل القضيّة الفلسطينيّة في موسكو محدوداً بتأييد «القرارات الدوليّة» التي أتت دائماً في مصلحة إسرائيل والتي لم تذكر الشعب الفلسطيني بالاسم. لم تتخصّص الأحزاب الشيوعية (مثل الأحزاب القوميّة) في القضيّة الفلسطينيّة لأنها كانت ستخسر لو نطقت بالموقف السوفياتي الذي يحكمها. كانت المنظومة الاشتراكيّة دائمة التشديد على حق إسرائيل في الوجود منذ قرار التقسيم.
لم يكمل طرابلسي دراسته الجامعيّة في بريطانيا وعاد إلى لبنان والتحق بالجامعة الأميركيّة في بيروت. درس تحت إشراف حنا بطاطو، الأستاذ الاستثنائي الفذّ. قلّة تعرف أن بطاطو كان فلسطينيّاً وعرّفه طرابلسي، وعن حقّ، على أنه «الماركسي الناصري الفلسطيني» (ص.43). حافظ بطاطو على ولائه لعبد الناصر حتى في سنواته الأخيرة عندما كان مقيماً خارج العاصمة واشنطن. لم يكتب بطاطو عن القضيّة الفلسطينيّة وعاتبتُه على ذلك ذات مرّة بعد أن ألقى محاضرة قيّمة عن الحق الفلسطيني في الأرض، فما كان إلّا أن أجابني (على طريقته المتواضعة في المعرفة) بأن هناك من هو متخصّص فيها أكثر منه (كانت رؤيته للقضيّة الفلسطينيّة شديدة الاعتدال، ووافق في الثمانينيات على مسار ياسر عرفات التسووي). لم أكن أعرف عن صلة طرابلسي ببطاطو قبل قراءة الكتاب. كان بطاطو يعمل آنذاك (أوائل الستينيّات) على إعداد أطروحته للدكتوراه كي تصدر في كتاب، ولكن المشروع تأخّر حتى أواخر السبعينيّات لأن بطاطو، حسب ما أخبرني، تألّم من الصراعات بين الشيوعيّين والبعثيّين فوضع المشروع جانباً لسنوات قبل أن يعود إليه.
جُمّدت عضويّة طرابلسي في حزب البعث لأنه كان على صلة بمنشقّين عن الحزب، الذي عُرف بانشقاقاته أكثر مما عرف بإسهاماته الوحدويّة. أعاد الحزب لطرابلسي الاعتبار بعد وصوله إلى السلطة في سوريا والعراق في 1963. بدأ طرابلسي بالكتابة مبكراً وعمل في صحيفة «الكفاح العربي» لصاحبها رياض طه (الذي أصبح نقيباً للصحافة فيما بعد واغتيل، على الأرجح، على يد النظام السوري). تعرّف على ياسين الحافظ الذي كان يرأس تحرير جريدة «الثورة» في دمشق. كان للحافظ تأثير كبير على اليساريّين حينها ولا يزال له تأثير في أوساط اليساريّين الليبراليّين. وبرز المؤلّف مبكراً واختير لعضويّة لجنة ضمّته مع ميشال عفلق وجبران مجدلاني لصياغة قرارات مؤتمر «البعث» وهو في سن الخامسة والعشرين (ص. 46). لكن سرعان ما فُصل طرابلسي من الحزب بعد إدانته للقمع الذي تعرّض له الشيوعيّون في العراق.
تعرّف طرابلسي إلى وضّاح شرارة بعد مغادرته لتجربة «البعث». كُتب الكثير مؤخراً عن وضاح شرارة على ضوء الاهتمام بتاريخ اليسار اللبناني. وبعض الاهتمام باليسار اللبناني غير بريء إذ هناك محاولة مقصودة من اليمين لتعظيم دوره وذلك من باب المناكفة مع حزب الله، كما أن الصحف اليمينية السعوديّة تعظِّم من أسطورة «جمّول» لتبخيس المقاومة الإسلاميّة حقّها. بلغت المحاولة أوجها في مقابلات الياس عطالله الأخيرة مع صحيفة «نداء الوطن»، إذ سرق عمليّة الويمبي من الحزب السوري القومي الاجتماعي. لكن لا يمكن إنكار دور شرارة في تشكيل تنظيمات «اليسار الجديد»، من دون النظر في تأثير هذا اليسار أو تقييم مساهمته في العمل الوطني في لبنان. ظلّ طيف وضّاح شرارة ظاهراً في ذهنيّة التشكيلات اليساريّة حتى أواخر السبعينيّات. لا أزال أذكر عندما فاتحني كمال يازجي في أوائل الثمانينيّات في الجامعة الأميركيّة في بيروت في أمر الانضمام إلى مجموعة يساريّة فوضويّة جديدة كان شرارة يُوجّهُها. لم ترق لي فكرة «التنظيم» و«الفوضويّة» في ذلك الحين وما عرفتُ ما آلت إليه تلك التجربة. أي إنّ وضاح شرارة كان فاعلاً في اليسار اللبناني منذ أوائل الستينيّات حتى السبعينيّات، قبل أن يتفرّغ لدور يميني صريح في إعلام الحريريّة والسعوديّة عبر العقود. عرّفَ شرارة، الوثيق الاطلاع مبكراً على الإنتاج اليساري في فرنسا، أجيالاً من اليساريّين اللبنانيّين على كتابات لم يعرفوها من قبل. أذكر أنه هو كان المُبادر في نشر كتابات كاستورياديس بيننا في أواخر السبعينيّات وأوائل الثمانينيّات. لكن شرارة لا يقيم طويلاً مع مفكّر، والثابت في مسيرته الطويلة كان الاستقرار في حضن اليمين.
يبدو وضّاح من سيرة طرابلسي (ومن كتاب فادي بردويل «الثورة والخيبة»، الذي كان أقرب إلى سيرة هاغيوغرافيّة لوضّاح) أن شرارة كان دائم الترحال الفكري والحزبي وأنه لم يستقرّ به المقام إلا بعد أن وجد نفسه في صف اليمين
وكانت المجموعة التي انضم إليها وضّاح تميل لتشكيل جناح بعثي (آخر) معارض قبل أن يستقرّ القرار على إنشاء مجموعة يساريّة جديدة. لا شكّ أن «البعث» كان له صدى كبير في أوساط المثقّفين والطلاب. عندما كتبتُ أطروحة الماجستير في الجامعة الأميركيّة في بيروت (عن حزب العمل الاشتراكي العربي-لبنان) وتحدثتُ عن انجذاب المثقّفين العرب لحركة القوميّين العرب، صحّحني منح الصلح (وكان عضواً من خارج الجامعة في تحكيم الأطروحة) وذكّرَ بحجم النفوذ البعثي في الجامعات والمدارس. قال إنه كان أعظم من تأثير الحركة في أوساط الشباب. يصعبُ على جيلي، وعلى الجيل الجديد بالتأكيد، أن يفهم جاذبية «البعث»، لكن علينا أن نتذكّر أن ذلك كان قبل أن يحمل الحزب وصمة الحكم في سوريا والعراق.
هذه المجموعة اليساريّة الجديدة عُرفت باسم «لبنان الاشتراكي». وكانت العلاقات متشعّبة بين تنظيمات اليسار. فوضّاح كان في صدد مجموعة بعثيّة منشقّة قبل أن ينضم إلى التنظيم اليساري الجديد، ولكنه بقي على اتصال «بأحمد ستيتيّة، القيادي في حركة القوميّين العرب الذي يتفاوض مع نخلة المطران، أبرز وجوه التيّار اللينيني» في الحزب الشيوعي اللبناني ومع تيّار شيوعي آخر متأثّر بالشيوعيّة الإيطاليّة (ص. 50). وانضمّ وضّاح شرارة وكريستيان غازي إلى «التيّار اللينيني» في داخل الحزب الشيوعي. يبدو وضّاح من سيرة طرابلسي (ومن كتاب فادي بردويل «الثورة والخيبة»، الذي كان أقرب إلى سيرة هاغيوغرافيّة لوضّاح) أن شرارة كان دائم الترحال الفكري والحزبي وأنه لم يستقرّ به المقام إلا بعد أن وجد نفسه في صف اليمين. هو توقّف عن الانتقال التنظيمي عندما وجد نفسه في اليمين وفي خدمة المشروع المعادي لليسار. وهو أجادَ في هذا الدور إلى درجة أنه كان مطلوباً: تراه يكتب في جريدة رفيق الحريري وفي جريدة خالد بن سلطان وأخيراً في موقع مموَّل من حكومات «الأطلسي» وسوروس. من حقّ شرارة أن ينتقل ويتغيّر، ولكن يبقى السؤال: لماذا يكون الترحال الفكري بين مثقّفي لبنان دائماً في اتجاه واحد، نحو أنظمة الخليج؟ هل أن الحجّة لدن الأمراء والشيوخ تتفوّق على الحجّة في خندق أعدائهم؟ وهل أن المكافأة الماليّة للانتقال نحو الخليج ليست مُسبِّباً أو إغراء؟ ولماذا لا نسمع عن انتقال بالاتجاه المعاكس، من اليمين إلى اليسار؟ وهناك حالات مشبوهة طبعاً: كيف أن توفيق الهندي (الذي اعترف عند التحقيق معه في التسعينيّات بالتخابر مع العدوّ الإسرائيلي) بدأ عمله السياسي في الجناح الأكثر ثوريّة في «فتح» (مع ناجي علّوش) قبل أن يجد نفسه في القوّات اللبنانيّة؟ هل هذا كان انتقالاً أم اختراقاً من البداية؟
بدأ إصدار نشرة «لبنان الاشتراكي» في عام 1966. هنا من الضروري وضع الرواية في سياقها التاريخي. يجهل جيل الشباب جوّ القمع الذي كان سائداً في لبنان في تلك السنوات. لم يكن الأمر مزحة. أجهزة المخابرات اللبنانيّة حينها كانت مخيفة ولا تتورّع عن معاقبة سياسيّين: عملاء «المكتب الثاني» شطبوا وجهيْ الصحافي ميشال أبو جودة والنائب نسيم المجدلاني بسبب انتقادات للأمير فؤاد شهاب (كان شهاب يحرص على لقب الأمير). ورأيتُ بأم عيني الندبة الطويلة على وجهيْ الرجليْن. كما أن الغرب كان يلزّم أعمال محاربة الشيوعيّة لأجهزة المخابرات اللبنانيّة، على الأرجح. مجموعة الشباب هذه كانت تجازف في العمل اليساري السرّي. وكان للحزب الشيوعي حزب وقيادة ظلّ رديفة تستعدّ لتحمّل المهمات في حال اعتقال قيادة الحزب وأعضائه (تعلّمت الأحزاب اليساريّة الممنوعة الكثير عن ضرورة السريّة بعد الحملة الشرسة من نظام فؤاد شهاب ضد الحزب القومي). الأسماء الحركيّة كانت معتمدة لكن لبنان بلد صغير والناس تعرف بعضها من وجوهها (يذكر أحدهم في معسكر تدريب في جنوب لبنان في أواخر السبعينيّات كيف أن مسؤولاً حزبيّاً زارَ الرفاق وصاحَ بهم: من منكم عبدالله... لأن عمّته تتصل بالمكتب وهي قلقة عليه. ذُهل الرفاق لأن الجميع كان يتعامل بالأسماء الحركيّة، وكان ذلك عندما كانت سطوة المكتب الثاني أضعف بكثير مما كانت عليه). لكن حتى في ذلك الزمن، عندما كان جوني عبده هو المسؤول، كان عند المخابرات اللبنانيّة قوائم بأسماء الذين يمرّون على مخيّمات التدريب اللبنانيّة والفلسطينيّة في الجنوب وكانوا على الأرجح يقدّمون المعلومات للإسرائيليّين (جوني عبده كان يستضيف أرييل شارون في منزله، وزار -حسب ما نُشر في إسرائيل- الأخير في مزرعته في النقب).
(يتبع)
* كاتب عربي - حسابه على تويتر
asadabukhalil@

نيسان ـ نشر في 2024-01-20 الساعة 05:05


رأي: أسعد أبو خليل

الكلمات الأكثر بحثاً