اتصل بنا
 

'زمن اليسار الجديد'... هل كانت الحرب حتمية؟

نيسان ـ نشر في 2024-01-20 الساعة 11:56

x
نيسان ـ صدرعن منشورات رياض الريس كتاب "زمن اليسار الجديد/ صورة الفتى بالأحمر 2" لفواز طرابلسي، يقول في تقديمه "الصفحات التي تلي شهادة عن تجربتي في تنظيمين من تنظيمات "اليسار الجديد"، "لبنان الاشتراكي" و"منظمة العمل الشيوعي في لبنان". هي مساهمة تكمل ما ورد في كتابي "صورة الفتى بالأحمر" (1994) وتنضم الى كتابات أسميتها مساهمات في "تصنيع التجارب" التي عشتها خلال اكثر من نصف قرن في ثورات وحركات وتنظيمات اليسار الماركسي اللبناني والعربي.
شجعني على الادلاء بهذه الشهادة الصديقة مريم يونس، التي كانت تعدّ أطروحة دكتوراه عن اليسار الشيوعي في لبنان. اتفقنا على تسجيل حوارات وضعتْ لها مريم أسئلة ومواضيع هذه أبرزها: التكوّن الفكري والتطور نحو الماركسية، النتاج الفكري لمجموعة "لبنان الاشتراكي"؛ كيف عشنا هزيمة 1967 وما الذي انتجته من تحولات في الفكر والممارسة؛ المشاركة في الحرب الاهلية (1975-1998) وتقييم دور اليسار والحركة الوطنية فيها؛ فكر منظمة العمل الشيوعي؛ العلاقة بين منظمة العمل الشيوعي والحزب الشيوعي؛ أسباب مغادرتي العمل الحزبي في منتصف الثمانينات وغيرها.
عند مراجعة ترقين الحوارات تبيّن انني لم أفِ عددا من الأسئلة حقها من الاجابة وان ثمة مواضيع تستوجب العودة اليها وأبرزها إعادة قراءة عهد فؤاد شهاب (1958-1964) في ضوء تصورات وسياسيات واجراءات عهد إعادة الاعمار بعد الحرب؛ وإعادة النظر في التيارات الفكرية التي صدرت تحت وطأة هزيمة حزيران 1967. في معرض الحوار، برزت المزيد من الأسئلة عن حروب 1975- 1990: هل كان الانتقال من الصراع السياسي الى النزاع العسكري حتميا؟ هل كان بالإمكان تفادي الحرب؟ كيف نفسرّ نزاعا عسكريا اتخذ طابع الانقسام الطائفي ينجم عن عقد من الزمن غلبت فيه النضالات والصراعات الاجتماعية؟ ما علاقة السلم الاجتماعي بالسلم الأهلي؟ وغيرها.
بناء عليه، كان لا بد من ان تتخلل السرد وقفاتٌ لها طابع التحليل والمراجعة لأحداث وتطورات ومراحل محورية.
حاولت في هذه الصفحات، شأني في كل ما كتبته من مذكرات وشهادات، عرض الاحداث والأفكار والتصورات والمواقف والمشاعر كما عشتها في زمانها وتحاشيت ان لا أسقِط افكاري ومواقفي الحالية عليها. في المقابل، لم اتردد في ابداء الرأي في تلك الاحداث والأفكار والتصورات والمواقف والمشاعر من منظار ما انتهيت اليه في موقعي الحالي.
اردت من هذه الشهادة ان تكون أيضا كشفَ حسابٍ أقدمه لمن شاركني في هذه التجربة من رفيقات ورفاق، وسجلًا لوقائعٍ واحداث وتطورات تستحضر حياتنا المشتركة بأوجهها المختلفة واطوارها المتناقضة بحلوها ومرّها. أرى الى تلك السنوات في الستينات والسبعينات على انها أجمل واغنى سنيّ حياتي. وحسبي ان كثيرين يشاركونني ذلك الرأي. يمكننا ان نترك التشاؤم لأيام أفضل، كما قال أحدهم. فهذه الصفحات شهادة أيضا على ما في هذه التجربة من حماس وفرح ونخوة واخلاص ووفاء وتضحيات بلغت ذروتها في شهادة شهيدات وشهداء منظمة العمل الشيوعي الذين منحوا هذه التجربة أسمى مهانيها"...
هنا فصل من الكتاب:
هل كانت الحرب حتمية؟
هذا سؤال كبير وصعب لا بد من رفع التحدي الذي يثيره. افهم منه: هل كان اللجوء الى السلاح لحل النزاعات السياسية، وتصعيد العمليات العسكرية، في الوتيرة والرقعة، واستطالتها من حيث الزمن، حكما حتميا؟ وعندما نقول حتميا نعني انه تعذّر عقد تسويات تبقى النزاعات على طابعها السياسي؟ وسوف اضيف للسؤال سؤالين: الاول، لماذا يندلع قتال بين كتلتين يغلب على كل منهما الوجه الطائفي بعد عقد من الزمن من النضالات المطلبية والنقابية والشعبية والاجتماعية المشتركة بين اللبنانيين؟ والثاني، هل كان بالإمكان تفادي تحول النزاع السياسي الى نزاع عسكري عام ١٩٧٥ ومنه تجدده؟
كثيرة هي التبريرات اللاحقة عن حتمية الحرب. تبدأ من نظريات المؤامرة - والمؤامرات دائما لا تُردّ، ومثلها "المشاريع" - وتمر بشرارة بوسطة عين الرمانة التي يقال إنها اشعلت حرباً دامت ١٥ سنة - ولا تنتهي بنظرية استحالة التعايش بين الثورة والدولة. وكان لي تعليق على هذه النظرية الأخيرة يقول "لا الثورة ثورة ولا الدولة دولة" أسمح لنفسي بتكراره هنا!
للحرب نظامها الخاص ومنطقها والقواعد. وهذا ما يستوجب تفسير العبارة الشهيرة التي أطلقها المفكر العسكري فون كلاوزفتس "الحرب استمرار للسياسة بوسائل أخرى". يكمن بيت القصيد في "الوسائل الأخرى". للحرب منطقها. ما ان تبدأ حتى يصعب وقفها. بل يصير استمرارها أسهل بكثير من وقفها. يقود احتلال الأرض الى الحاجة لاحتلال المزيد، فترتسم خطوط التماسّ والقتال ويستوجب تحصينها عندما يتعذر التقدّم. والتصعيد العسكري كامن في صلب منطق القتال، يدفع باستمرار الى زيادة عدد المقاتلين وتحسين مؤهلاتهم، والتزوّد بأسلحة أفضل و"أثقل" وأكثر تطورًا، الخ. وتميل الحروب دومًا الى التحول الى حرب شاملة بواسطة قوة الدفع تلك وان ترقى نحو الحسم أي انتصار طرف وهزيمة آخر.
ثم ان للحروب الاهلية، ومنها الحرب اللبنانية، مسارات خاصة. أبرزها: استدعاء تدخل جيوش خارجية، ما يغيّر من مجراها ومن توازن قوى بين المتحاربين؛ وخروج قوى من المعركة ودخول قوى جديدة، ومعها تتغير اهداف القتال، ألخ. ومع تطورها تجد الحرب لنفسها أسبابا جديدة لتستمر، أبرزها ولادة اقتصاد حرب ما قد يستدعي معادلة إضافية تقول "الحرب استمرار للاقتصاد بوسائل أخرى"، ويتوقف الكثير في التأريخ لها وتقييمها على الكيفية التي انتهت بها. لقد فصّلت في كل هذا في كتابي "تاريخ لبنان الحديث؛ من الامارة ال اتفاق الطائف" (طبعة سادسة، ٢٠٢٣) فلا حاجة للتكرار هنا.
خياران وحتم
تتحمل "الجبهة اللبنانية" المسؤولية الأكبر في نقل النزاع من سياسي الى عسكري نتيجة تصلّبها المطلق في الدفاع عن الامر الواقع في المسألتين المتداخلتين التي انقسهم عليها المجتمع اللبناني: الوجود الفدائي والإصلاح السياسي والاجتماعي. دخل فدائيون فلسطينيون الى لبنان للقيام بعمليات عسكرية ضد إسرائيل وسط عواصف غضب عربية على هزيمة حزيران ١٩٦٧ تحولّت، من قبيل التعويض، نحو شعبي تأييد عارم للعمل الفلسطيني المسلّح. لقي دخول الفدائيين ترحيب فئات واسعة من اللبنانيين وخصوصا أهالي الجنوب الذين احتضنوا الفدائيين وشارك عدد لا يستهان به من الشباب في القتال الى جانبهم. فبالإضافة للمكانة الخاصة لفلسطين عند أهالي الجنوب، رأى كثيرون منهم في وجود الفدائيين فرصة للتحرر من زعامة آل الاسعد والخليل ومن أجهزة المكتب الثاني المتحكمة بسكان الشريط الحدودي.
في المقابل، قرأ حزب الكتائب الحدث على انه يخل بتوازن القوى الطائفي بين مسيحيين ومسلمين ويهدد الاسبقية المسيحية في السلطة والنظام. فغلبت عنده النظرة الى الوجود الفلسطيني المسلّح على انه تحدٍ عسكري خارجي تقرر الرد عليه بالتعبئة العسكرية واستقدام السلاح واستدعاء التدخل الخارجي. يعترف جوزيف أبو خليل، في مقابلة مع جيزيل خوري على البي بي سي، ان حزب الكتائب بدأ التسلّح منذ العام ١٩٦٩ مباشرة بعد توقيع "اتفاق القاهرة" بين الدولة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية الذي نظم الوجود الفدائي في لبنان.
وهو الاتفاق الذي وافق عليه بيار الجميل واقرّه البرلمان. اتسع الانحياز في قيادة الجيش الى هذا خيار الرد العسكري ضد «اتفاق القاهرة» فتولى ضباط تدريب وتسليح الميليشيات وحماية بواخر السلاح في مرفأ جونيه. واسهمت سياسة الرئيس سليمان فرنجية في مزيد من تأزيم الامور وتصعيدها عندما زج الجيش في مغامرة عسكرية فاشلة ضد المخيمات الفلسطينية في أيار ١٩٧٣ بدعوى نزع السلاح الفلسطيني بعد ان أعلن عدم استعداد الجيش لحمايتها، ودعا منظمة التحرير الى أن تحمي المخيمات بقواها الذاتية. إلى ملف التصلّب والمعاندة يجب أن يضاف حادثتين معبّرتين: رفض سليمان فرنجية ان يسلّم القضاء الضابط الذي أطلق النار في آذار على النائب معروف سعد خلال تظاهرة صيادي السمك في صيدا ضد شركة «بروتيين» واصابه إصابة قاتلة؛ ورفض بيار الجميل تسليم حزب الكتائب المسؤولين عن إطلاق النار على بوسطة عين الرمانة في ١٣ نيسان ١٩٧٥. تحجج الجمّيل بأنه قدّم كثير من التنازلات وقد "استغلها اليسار"، مع انه لم يذكر أي تنازل ولا كيف استغلّه اليسار. ولما قرر التسليم اخيرا كانت الاشتباكات بين الشياح وعين الرمانة قد بدأت.
تلازم ذلك التصلّب في موضوع وجود المقاومة الفلسطينية على ارض لبنان مع التصلّب الكامل في مجال الإصلاح السياسي ولو على امل استدعاء تنازلات من الطرف الآخر تساعد على تنظيم وضبط الوجود الفدائي. وخير تعبير عنه هو رد حزب الكتائب مطالبة الزعماء المسلمين التقليديين الشراكة في الحكم من خلال تعزيز موقع رئيس الحكومة. جاء الردّ برفض المساواة بين المسيحيين والمسلمين. يقول بيان للحزب في عام ١٩٧٤: "لا يحق للمسلمين المطالبة بالمساواة التامة في الحقوق طالما ان المسيحيين لا يثقون بولائهم للبنان ويتخوفون من تزايد تضامنهم مع القضايا العربية. لا يجب ان يقوم نظام تُمسِك الأكثرية العددية فيه الحكمَ، فلو تسلّم المسلمون الحكم على اعتبارهم الاكثرية، سوف يعود المسيحيون الى سابق عهدهم بما هم اقلية في ظل السلطنة العثمانية الإسلامية"[1] ومهما يكن من امر ما قاله الأسد لجنبلاط عن قبول بيار الجمّيل بـ"الوثيقة الدستورية"، لم يوافق رئيس حزب الكتائب مرة عليها وقد أبلغت "الجبهة اللبنانية" مجتمعة دين براون رفضها أي حوار داخلي واي اصلاح سياسي يوم ١٤ حزيران ١٩٧٦.
واما محاولة تحييد الامام موسى الصدر وحركته السياسية الناشئة وابرازه في وجه الزعامات السنّية التقليدية فكانت قصيرة النفس. تعهّد بيار الجميل للإمام بحماية أهالي حي النبعة الشيعة في ضاحية بيروت الشرقية ونكث بالعهد وتولى مسلحو حزبه تهجيرهم في حزيران ١٩٧٦ في امتداد معركة اسقاط مخيّم تل الزعتر الفلسطيني وتهجير سكانه.
وثمّة وجه آخر لسياسة الحفاظ على الامر الواقع هو تعريف القتال على أنه تم حفاظاً على النظام الاقتصادي-الاجتماعي. كانت أحزاب الجبهة اللبنانية اتخذت موقف العداء الحاسم تجاه مجمل الحركات الشعبية المطلبية والاجتماعية طوال تلك الفترة. ولم يكن الأمر مجرد تركيز اعلامي على اليسار والخطر الشيوعي لجذب الانتباه الغربي. في برنامج تلفزيوني بريطاني عن حرب السنتين، اتهم كميل شمعون اليسار بأنه يريد تغيير النظام وأعلن ان قواته تخوض الحرب من اجل الحفاظ على نظام المبادرة الفردية والاقتصاد الحر. اما ابنه داني، تاجر السلاح المعروف وقائد ميليشيا النمور، فبرّر جرف مسلحي حزبه أكواخ الصفيح في حيّ الكرنتينا - بعد ارتكاب مجزرة بحق سكانه الفقراء وتهجيرهم جماعيا – بأن الاكواخ مبنية على "املاك خاصة."[2]
هذا هو الخيار الاول الذي اتخذه حزب الكتائب. قابله ردّ دفاعي بادر فيه اليسار الشيوعي وسائر احزاب الحركة الوطنية بقيادة كمال جنبلاط الى التدريب والتسليح العام ١٩٧٣ بعد اندلاع اشتباكات الدكوانة مع فدائيي مخيّم تل الزعتر، وهجوم الجيش على المخيمات في بيروت. وحتى لو وضعنا هذا القرار الحركة الوطنية في نطاق رد الفعل الدفاعي، الا أن القوى التي اتخذته سرعان ما انتقلت من الدفاع إلى الهجوم، متكّلة بالدرجة الاولى على القوة المسلّحة الفلسطينية، وعلى سيطرتها على مساحة واسعة من الأراضي اللبنانية، فقررت فرض اصلاح النظام السياسي بواسطة القوة المسلّحة. عبّر جورج حاوي عن ذاك القرار بشعار "العنف الثوري ضد العنف الرجعي". وانا اسميت المفارقة "الإصلاح بواسطة السلاح".
"تسليح إسرائيلي وحماية سورية"
على هذين الخيارين الداخليين الى حد كبير، وقع قرار خارجي إقليمي ودولي مفاجيء غيّر كل معالم المشهد. فبدت مغامرة كمال جنبلاط والحركة الوطنية للتغيير السياسي الداخلي متعاكسة مع قوى عربية ودولية معنية بمنع الحسم وبوقف الحرب لمنع المقاومة من ترسيخ وجودها بالقوة العسكرية في لبنان، بل واكثر: لمساعدة النظام السوري على السيطرة على منظمة التحرير ونزع سلاحها بل وإخراج مسلحيها من لبنان. كان كيسنجر يعتقد ان عرفات سيسقط بفعل التدخل العسكري السوري، كما أسلفنا. اما شيمون باريز وزير الدفاع الإسرائيلي حينها، فعلّق على دخول الدبابات السورية الأراضي اللبنانية قائلا ان إسرائيل ليست معنية بالأمر، دخلت "لضرب عرفات".
هذا هو التدخّل الذي كان له وقع الحتم المتفاوت على الطرفين المتحاربين وعلى الحرب ذاتها. لم يكن كيسنجر غافلا عن الدلالة الداخلية للتدخل العسكري السوري، قال في احد الاجتماعات: "الصراع دائر بين راديكاليين ومسيحيين، يتبيّن منه ان الجناح الراديكالي يريد علمنة الدولة ما يحرم المسيحيين من مواقعهم ودفاعاتهم."[3] اما عن اللعبة المزدوجة للسياسة الاميركية فيقول في مذكراته: "شجعنا إسرائيل على ان تمدّ المسيحيين بالسلاح في الوقت ذاته الذي كانت فيه سورية تمدّهم بالحماية، مؤقتًا على الأقل."[4] للدقة، بدأت "الجبهة اللبنانية" تتسلّم السلاح من إسرائيلي في أيار ١٩٧٦، أي قبل دخول القوات السورية.
صحّ توقّع مهندس الاتفاق عن الطابع المؤقت للدور السوري. والاحرى انه كان قرارا سياسيا لا مجرد توقّع. في اقل من سنة من المرحلة الثانية من الحرب، انقلبت الحماية السورية الى نزاع بين المحميين وحماتهم وتبدل الطرف الحامي. زار السادات القدس وعلّق النظام السوري مشروع نزع سلاح المقاومة في لبنان، ومع توقيع اتفاق كامب ديفيد اندلعت حرب المئة يوم عندما حاولت القوات السورية دخول بيروت الشرقية، وخرج منها بشير بطلا وبدأ "أطول انقلاب في تاريخ لبنان"، لتسلّم السلطة بدعم أميركي واسرائيلي. وبدأ غرق النظام سوري وجيشه، واستراتيجية حافظ الأسد الفيدرالية، فيما سمّي “وحول الحرب اللبنانية” والاحرى دمائها.
الكسر عند الفالق الطائفي
لماذا يندلع قتال بين كتلتين يغلب على كل منهما الوجه الطائفي بعد عقد من الزمن من النضالات المطلبية والنقابية والشعبية والاجتماعية المشتركة بين اللبنانيين؟ بعبارة أخرى، لماذا انكسر الاجتماع اللبناني عموديا عند الفالق الطائفي بعدما كان موحّدا الى حد كبير افقيا على المشترك الاقتصادي-الاجتماعي خلال فترة ١٩٦٤-١٩٧٥ بل حتى قبلها؟
هذا سؤال نادرا ما يطرح. وهو يرمي التحدي إياه عن العلاقة بين الطائفي والطبقي ولكن على مستوى جديد. اكتفي بتقديم عناصر إجابة نصف مشغولة نحو بحث أوسع وأعمق. وابدأ بملاحظتين.
الملاحظة الاولى: ينتمي اللبنانيون واللبنانيات إلى ثلاث روابط أساسية من الانتماء والتضامن: العائلة والطائفة والطبقة الاجتماعية. وتلعب العائلة دور خلية التشغيل داخل الطائفة كما داخل الطبقة. فالعائلة هي خلية التربية الاولى بمعناها الواسع: الايمان الديني والمذهبي والعادات الاجتماعية، والتدريب على الطاعة، وفرض التحريمات، واكتشاف الأبناء الفوارق مع أبناء الآخرين، او ما يسمّيه فرويد "نرجسية الفروقات الصغرى" التي تتضخم أكبر من جحمها بكثير في التخييل. والعائلة هي في الآن ذاته الخلية الاقتصادية الاولى. ولها دور كبير في لبنان يمتد من الإنتاج السوقي الصغير في الزراعة والحرف والتجارة الصغيرة مثلما هي حاضرة في الطابع العائلي لشركات الهولدينع في قمة الاقتصاد) مثلما هو دورها في تصدير الابناء والبنات للعمل في الخارج والمساهمة في اعالة الاسرة للقيام بأودها او لتحقيق ارتقائها الاجتماعي.
بالطبقات نعنى جماعات من البشر تتمايز فيما بينها بناءً على علاقاتها بظروف المعيشة وبالقطاعات الاقتصادية وبعلاقات الإنتاج وبحصتها من الثروة الاجتماعية. وهي جماعات متراتبة ويمكن لواحدة منها أن تستغل عمل جماعة اخرى. على ان التراتب لا يمنع الحراك، ارتقاء او نزولا. اكتفي بهذا التعريف من اجل التأكيد على ان الحديث عن صراع طبقي يشمل كل طبقات المجتمع. وهو صراع متنوّع الاوجه: صراع على الأجور والثبات في العمل ومستوى المعيشة، والريع الزراعي، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية بما فيها الضمانات الاجتماعية والصحية، وصولا الى الصراع لتغيير التوازن الطبقي في السلطة والنظام او تغيير النظام ذاته.
الملاحظة الثانية، الصراع الطبقي موجود. مثلما الصراع الطائفي موجود. وهذا الأخير يدور الى حد كبير مدار التوازن في السلطة دون ان يقتصر عليه. والصراع تارة خفي مستتر وطورا سافر في الحالتين. والمواطن اللبناني يستجيب للاستدعاء الطائفي كما للاستدعاء الطبقي، لكن تغليب الواحد على الآخر، في الوعي والسلوك، ينحكم بظروف وعوامل خارجية في معظمها.
ويمكن ان يخاض الصراع من طرف الممسكين بالسلطة والمال على الأكثرية الشعبية أو أن يخاض من القوى الشعبية ضد السلطة والنظام. والكثير يتوقف في تلك الصراعات من تحت على الشريحة الاجتماعية او الطبقة التي تمارسه او تقوده أو تغلب عليه. ويهم معرفة القوى المشاركة في الصراع الاجتماعي. ففي حين كانت الصراعات الاجتماعية أكثر واشمل تمثيلا للطبقات المتوسطة والشعبية، كانت المبادرة في الهجوم في عهد إعادة الاعمار هي مبادرة سلطة رجال المال والميليشيات.
ليس يطغى الصراع الطائفي على الاجتماعي بالضرورة ودائما. ويمكن للصراعين ان يتعاقبا الواحد منهما بعد الآخر. دار صراع اجتماعي خلال عقد من الزمن بين ١٩٦٤ و١٩٧٤ حول الخيارات الاقتصادية والاجتماعية تلته حرب أهلية ذات طابع طائفي خلال فترة ١٩٧٥-١٩٩٠. ويمكن أن تكون العلاقة بين الصراعين علاقة تواشج، بحيث تتوسل طبقات وشرائح اجتماعية النزاعات الطائفية لتأمين حصة لها في السلطة وفي الثروة. كما يمكن ان يؤدي تعديل في ميزان القوى في النزاع الطائفي الي تعديل في ميزان القوى الطبقي. هكذا نتج عن "احداث" العام ١٩٥٨ ارتقاءٌ اجتماعي وسياسي لرجال الاعمال السنّة والطبقة الوسطى السنّية، كما نتج عن حرب الأعوام ١٩٧٥-١٩٩٠ الامر ذاته بالنسبة لرجال الاعمال والطبقة الوسطى الشيعية.
وهذه بعض نقاط الاستدلال في أسباب وعوامل الانتقال من الاجتماعي-الطبقي الى الطائفي في السبعينات.
- نظام الطائفية السياسية والإدارية أقدم من البنية الاقتصادية-الاجتماعية. نشأ النظام الاول مع قيام متصرفية جيل لبنان (١٨٦١-١٩١٥) بعد عقدين من النزاعات الأهلية ثم النزاعات الطائفية المسلّحة (بين دروز ومسيحيين) واعتمد التمثيل السياسي بناء على الوزن العددي لست جماعات مذهبية ينتمي اليها سكان جبل لبنان. وقد بنى الانتداب الفرنسي على هذا النظام وادخله في الدستور العام ١٩٢٦ وتكرّس تدريجيا مع الاستقلال في المؤسسات الحكم وفي الإدارة ونظام الأحوال الشخصية. في المقابل، لا يمكن الحديث أصلا عن نظام سياسي واقتصادي للبنان قبل العام ١٩٢٠ ولا عن البنية الطبقية للمجتمع اللبناني وهيمنة البرجوازية على السلطة فيه قبل رسملة الحياة الاقتصادية والاجتماعية خلال العهود الثلاثة الاولى من الاستقلال.
- النظام الطائفي معلَن ومؤسس ومشرّع فيما نظام التراتب الطبقي ضمني ومتفاوت وإن تكن مبررات السيطرة الطبقية حاضره في الدستور والقوانين والامر الواقع والفكر السائد. الى هذا فالوعي الطائفي كأنما يأتي بالسليقة، فيما الوعي الطبقي، لدى الطبقات المتوسطة والعاملة، غالبًا ما يشوبه التشوّش والخلط ويحتاج الى بلورة وجلاء.
- ان مؤسسات التمثيل الطائفي السياسية وخصوصا الجمعيات والأحزاب أوسع وأشمل وأقوى نفوذا من المؤسسات المهنية والنقابية القائمة على أساس مهني وطبقي، خصوصا أن القوى المدافعة عن الأمر الواقع ليست تقتصر على الوجود في السلطة وتحظى بدعم قواها وأجهزتها وحسب وإنما لها امتداداتها في المجتمع. وهنا أهمية دور الأحزاب الطائفية في التنظيم والتعبئة والقيادة.
- يمكن ان يتحوّل النزاع من اجتماعي إلى نزاع طائفي عندما النضالات الاجتماعية لا تلقى أي استجابة ولا تحقق أي انجاز ولا تواجَه الا بالصد والقمع من قبل السلطة والطبقة الحاكمة، فيسهل ان ينفجر الاحتقان الاجتماعي في المجرى الطائفي. بعبارة أخرى، الحلقة الأقوى في النظام السياسي، التي هي الحلقة الطائفية، هي الحلقة الاضعف في البنية المجتمعية. أسهل أن ينكسر الاجتماع اللبناني عند الفالق الطائفي منه عند الانقسام الطبقي، خصوصاً في حالات الازمة والنزاعات العنيفة وعلى الاخصّ في المواجهات المسلّحة.
- الخلاصة انه إذا كان هناك صراع اجتماعي لفترة عشر سنوات قد أعقبه صراع طائفي، فهذا يعني أنّه يمكن العودة إلى الصراع الاجتماعي. ولكي يكون صراعاً اجتماعياً من تحت لفوق، أي أن يمثل مصالح وآمال وتطلعات الاكثرية الشعبية، فهو يتطلّب بلورة الرؤية وبناء القوة والقدرة ورسم المسار وامتلاك الوسائل.
هل كان الامن الاجتماعي هو البديل؟
أو فرصة البرجوازية الضائعة
ثمة تيار غالب يلقي بالمسؤولية عن الحرب على قادة الميليشيات التي خاضت الحرب. وهم مسؤولون طبعا. ولكن هل أن هذا يبرّئ الطبقة الحاكمة لفترج ما قبل الحرب، ونظامها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي؟ ما مدى مسؤوليتها في اندلاع الحرب او في عدم النجاح من منع قيامها؟ بعبارة أخرى، هل كان ثمة من امكانية غير سياسية وعسكرية لتفادي اندلاع الحرب؟ يمكن طرح السؤال افتراضياً على وجه آخر: هل كان ثمة مجال لتسوية اجتماعية كتلك التي أوصى بها فؤاد شهاب لتأمين الاستقرار السياسي والامني بواسطة الامن الاجتماعي؟
كان امام البرجوازية وطاقمها الحاكم خيار إصلاحي افتراضي يؤمن مثل ذاك الاستقرار السياسي بالواسطة الاجتماعية. لم يقتصر الامر على تدارك مخاطر الإهمال الكامل والقمعي لعشر سنوات من مطالب حركات شعبية متواصلة خلال عشر سنوات تتعلق بالعمل ومستوى المعيشة والصحة والتعليم والامل بالمستقبل. بل كان الخيار الإصلاحي من صميم مصالح هذه البرجوازية ذاتها. ففي مقابل التنازلات التي سوف تقدمها، في الحقل الاقتصادي والاجتماعي، كان المضون انه سيجري التعويض عنها اضعافا مضاعفة من حيث الفوائد والعمولات والريوع والارباح.
كان عام ١٩٧٣مطلع الطفرة النفطية في بلدان الجزيرة والخليج، ولبنان مرشح، بفعل موقعه ودوره في الاقتصاديات العربية، أن يحصد تدفقات من مليارات البترودولارات على مصارفه ومن استثمارات في قطاعاته الاقتصادية وأن يتوقع تزايُد الطلب على خدماته المختلفة بما فيها السياحة والتعليم والطبابة والترانزيت. لكن غلب قصر النظر، وشهوة الربح السريع، والتعالي الطبقي، في الاقتصاد والاجتماع كما في السياسة. لم يخرج من البرجوازية اللبنانية "يمين ذكي" كالذي بشّر به المتذاكي غسان تويني أو اخذ يبحث عنه جورج حاوي والحزب الشيوعي، فيما تضرب منظمة العمل الشيوعي اخماساً بأسداس، حول وجوده أو عدم وجوده وكيف سوف يتصرّف. هذا الذي حصل: "رفضت البرجوازية اللبنانية، بجناحيها المسلم والمسيحي، تقديم أي تنازل لقضية الإصلاح"، على ما كتب المؤرخ كمال صليبي.
ويحدثونك عن "عقلانية" البرجوازية!
لكن مثل هذا التنكّر لمعيشة الناس وتطلعاتها وامال مستقبلها لم يمر بسهولة. وارَبَ ولم يختفي. تعويضا عن التوزيع الاجتماعي، الذي حُرِم اللبنانيون من الحصول على أي حصة منه بالنضال السياسي والاجتماعي السلمي - بعد عقد من الاحتجاج والمطالبة والتظاهر والاضراب والاعتصام - تدفقت جحافل من أهالي بيروت ومسلحيها، ومعهم مسلّحون من الضواحي والارياف والأطراف، قادمين من احيائها الغربية ومن احيائها الشرقية، في حفلة عربيدة من حفلات إعادة التوزيع الاجتماعي، مؤقتة، عنيفة، مادية ورمزية معًا، على المرفأ والوسط التجاري والاسواق، واستباحوا مدينتهم واعملوا فيها النهبً والحرق والتخريب.
كانت تلك الحفلة آخر أدوار الصراعات الاجتماعية المشتركة، قبل أن يُوظّف كل ما احتقنَ من كبت وعنف مناطقي وطبقي في الاقتتال الأهلي.
[1] "،باسم الجسر، الميثاق الوطني اللبناني ولماذا سقط، ١٩٧٨، كما ورد في
Nawaf Salam, Lebanon Between
Past and Future. Beirut, 2022, p 81.)

[2] ” The Agony of Lebanon”, BBC, 1976. https://www.youtube.com/embed/0NWwuEIsiZk
[3] محضر اجتماع مجلس الامن القومي بحضور الرئيس جيرالد فورد ووزراء ومسؤولين عسكريين وامنيين، أيار ١٩٧٦، ، "من الوثائق الاميركية عن التدخل العسكري السوري في لبنان، ١٩٧٦ " مجلة بدايات، العدد الاول، شتاء-ربيع ١٩٧٦.
فواز طرابلسي
[4] Henry Kissinger, Years of Renewal, 1999, p 1042.

نيسان ـ نشر في 2024-01-20 الساعة 11:56

الكلمات الأكثر بحثاً