اتصل بنا
 

الروسي ليسكوف سبق دوستويفسكي في 'فضح' العدميين

نيسان ـ نشر في 2024-01-24 الساعة 23:18

x
نيسان ـ عندما رحل الكاتب الروسي نيكولا إيسكوف عن عالمنا في عام 1895 كان مغضوباً عليه من كثر باستثناء ليو تولستوي الذي لم يتورع عن أن يقول تعليقاً على رحيله "يقيناً أن زمن ليسكوف لم يأت بعد. فهو كاتب ينتمي إلى المستقبل لا إلى هذا الزمن الذي نعيش فيه". وكان على تولستوي أن "ينتظر نحو قرن من الزمن قبل أن تتحقق نبوءته، أما القراء الأوروبيون فكان عليهم أن ينتظروا نهاية القرن الـ20 وبداية القرن الذي يليه، قبل أن يتعرفوا على ليسكوف وتحديداً من خلال روايتيه الكبيرتين "نحو اللامكان" (1864) و"ضرب الخناجر" (1870) اللتين من المؤكد أن تولستوي كان من أوائل الذين قرأوهما عند صدورهما تباعاً فاعتبرهما روايتين كبيرتين ومستقبليتين، فيما قرأهما آخرون لم يروا فيهما سوى استباق لرواية دوستويفسكي التي تتناول الموضوع نفسه وربما من المنطلق الأيديولوجي نفسه والتي أصدرها صاحب "الأبله" و"الجريمة والعقاب" في العام التالي لصدور "إشهار الخناجر" وفي خضم السجالات الصاخبة التي ثارت من حول الروايتين. وكانت سجالات فكرية لا أدبية على أي حال.
حكاية إعدام لم ينفذ
ولعل أول ما أطلق تلك السجالات كان أن روايتي ليسكوف، وتماماً مثلما حال رواية دوستويفسكي، إنما أتيتا كنوع من الرد على رواية "ما العمل؟" التي كان تشرنيشفسكي قد أصدرها في عام 1863 فأثارت سجالات صاخبة، لا سيما بين أنصار نفس هذا الكاتب الذي لم يكن، على أي حال، روائياً مميزاً بقدر ما كان أيديولوجياً تطارده السلطات القيصرية مثلما تطارد جماعته ومريديه معتبرة إياه وأولئك المريدين عدميين وفوضويين وإرهابيين. ونعرف هنا أن انتماء دوستويفسكي المبكر إلى واحدة من أكثر الحلقات المحيطة بتشرنيشفسكي تطرفاً، كان وراء اعتقاله في مطع شبابه والحكم عليه حينها بإعدام استبدل في النهاية بنفيه إلى سيبيريا نفياً عاد منه وقد راح يتخلى عن ذلك الانتماء إلى حد أنه حين كتب "الشياطين" عبَّر فيها عن عداء تام للعدميين وفوضاهم وخطلهم وإرهابهم. وهو نفس ما كان قد سبقه إليه ليسكوف على أي حال، لكن ليسكوف كان منذ بداياته وحتى من قبل أن يكتب روايتيه، معادياً لذلك التيار الذي، تاريخياً، إنما انطلق في نوع من الرد على إصلاحات القيصر نيكولا التي لئن كانت قد جعلت للقيصر شعبية كبيرة في البلاد الروسية، أثارت عليه نقمة الكتاب والمثقفين الذين وعلى خطى تشرنيشفسكي اعتبروها تمتص النقمة العامة لا أكثر.
المهم هنا أن ذلك كله كان لا بد له في تلك الأزمنة الصاخبة من أن يتحول إلى قضية أدبية أوصلها ليسكوف إلى ذروتها في روايتيه، كما حولها تولستوي -الذي كان على عكس كثر حينها من المعجبين بقوة بليسكوف– إلى تلك النبوءة التي أسفرت عن اعتبار الكاتب كاتباً مستقبلياً.

بين كاتبين كبيرين
ومن المؤكد أن في مقدورنا انطلاقاً من ذلك كله، أن ننظر إلى عداء دوستويفسكي لليسكوف باعتباره عداء فكرياً يقابله لدى تولستوي إعجاب فكري – أدبي سيقول معه كثر ما يستبق قولة شهيرة برزت في فرنسا، في القرن الـ20 لكنها تتعلق هنا بريمون آرون وجان بول سارتر وأُثرت عن اليساريين المعلنين أنهم يؤيدون سارتر ولو أخطأ، على الضد من آرون حتى وإن كان على صواب. ففي النهاية كان من الواضح أن الحياة الثقافية الروسية انقسمت بين مؤيدين لتولستوي وآخرين لدوستويفسكي وعلى القواعد نفسها. ولكن في ما عدا ذلك لا شك أن قارئنا سيتساءل هنا عم تتحدث الروايتان وهما تصلان إلى الاستنتاجات نفسها وكأن الكاتب، وهذا ما رآه كثر من النقاد والمؤرخين على أي حال، بعدما أصدر الرواية الأولى "نحو اللامكان" متسرعاً، تنبه إلى أنه كان في إمكانه لو تباطأ بعض الشيء، أن ينتج رواية أكثر فائدة لفكره وأكثر تعبيراً عن نفوره من العدميين، فأنتج الرواية الثانية مستكملاً بها تلك الأولى التي ستبقى من أشهر أعماله لتثير حنق "الثوريين الروس". ومهما يكن فإن الروايتين لن تكونا سوى هجوم عنيف ضد جماعة تشرنيشفسكي العدميين المتهمين مثلما ستكون الحال كما نعرف في "شياطين" دوستويفسكي، بخيانتهم ثورتهم الحقيقية لصالح الانتهازيين والاستغلاليين وكل أنواع النصابين.
تهريج لا أكثر
وهكذا وكما سيشير النقاد منذ صدور أولى الروايتين ثم ثانيتهما خلال فترة زمنية لا تزيد على ست سنوات، تضحي التطلعات الثورية المشروعة عند أول ظهورها مجرد تهريج في تهريج. بل "نوعا من كرنفال يتبادل أهل السمو وأهل الانحطاط الأخلاقي أماكنهم فيه بكل بساطة من دون وازع أو رادع، بمعنى أن الثوريين العدميين هؤلاء يمضون وقتهم وهم يغدرون ببعضهم بعضاً باحثين في كل حالاتهم عن أنجع الوسائل والأدوات لتدمير كل شيء، لا سيما كل ما ينتمي إليهم – وهو على أي حال ما تفيدنا الروايتان بأنه مصير كل الثورات التي تنتهي على عكس ما تبدأ وغالباً على يد الثوريين أنفسهم من الذين بدلاً من أن يتابعوا معركتهم ضد من يكونون قد ثاروا عليهم أول الأمر تتحول المعركة لديهم إلى تصفية حسابات بين بعضهم بعضاً (وهو ما ينصح تولستوي قراءه بألا يبحثوا عن أمثلة من التاريخ لتأكيده بالنظر إلى أن ذلك هو مصير كل الثورات التي تعرفها البشرية) آملين، وكل من وجهة نظره أن يتمكن الواحد منهم من تحطيم رفاقه كي يتمكن من الرقص فوق الأطلال بمفرده!

كما أشرنا، كان تولستوي سبّاقاً حين أكد في نص كتبه تعليقاً على رحيل ليسكوف في عام 1895، أشار فيه إلى أن المستقبل وحده سيعطي الحق لهذا الكاتب ذي البصيرة المرهفة. ومع ذلك وخارج إطار السجالات التي اندعت من حول تينك الروايتين تحديداً، لم يكن ليسكوف يتحدث عن المستقبل بل عن الماضي الذي كان راهناً في حينه. هو الذي كان يعتبر نصيه نوعاً، شديد الروسية بدوره، من الحديث على تلك الراديكالية الجديدة التي وُلدت لتدمر الروح الروسية منطلقة مما وصل إليها من أوروبا على شكل أيديولوجيات عدمية. ومن هنا كان اللوم في ذلك كله ينصب على تشرنيشفسكي. ولكن فيما كان دوستويفسكي في روايته "الشياطين" مثلما في نصوص أخرى له، يسعى إلى فضح تلك الراديكالية العدمية من منطلق أخلاقي، تميز ليسكوف عليه بكونه، من ناحيته ينطلق في توجهه من منظور الخطأ والصواب معتبراً أن تلك الراديكالية خطأ لا أكثر بل مجرد منظومة خاوية لا معنى لها تتأسس على واقع لا يفقه العاملون تبعاً لها ما يفعلون. بل منظومة التصقت بالواقع الروسي واصلة إليه من الخارج من طريق مجموعة من الحمقى تسعى إلى أن تفرض على الواقع المحلي نظريات آتية من خارجه بمعنى أن كل ذلك الحراك لا يمكنه أن يكون أكثر من دخيل أجنبي، الروح الروسية منه براء. منطق قد يتماشى مع حقائق روح شعوب أخرى لكنه لا يتماشى وبأي حال مع الروح الروسية "فلكل شعب روحه الخاصة التي يمكن أن ترتبط بواقعه والشر والحمق يحلان محل كل شيء حين تسعى فئة جاهلة تنتمي إلى شعب ما إلى استعارة أفكار تخص شعباً آخر لتلصقها بشعب تنتمي إليه، لكنها لا تعرف ماهية ذلك الانتماء أو مآلاته".
البلشفيون يحققون النبوءة
ولعل ما يجدر ملاحظته من خلال هذا المنظور هو أن سحره الوحيد والمبهر يبرز من خلال الصورة التي يرسمها ليسكوف للفئة من المثقفين التي يحملها وزر تدمير الروح الروسية لصالح ما سيعتبر في القرن الـ20 "فكراً مستورداً". فهو ومن خلال تلك الصورة التي قد يمكن دمغها اليوم بالشعبوية، يتمكن من تقديم واحدة من أبرز اللوحات الفسيفسائية الضخمة التي رسمها قلم كاتب للمجتمع الذي يتحدث عنه، لا سيما من خلال وصفه الذي اعتبره تولستوي دقيقاً للطريقة التي يسعى بها الجهلة إلى تفكيك المجتمع وصولاً إلى تحطيم أبعاده الروحية من دون أن يدركوا أنهم يفعلون ذلك ومن دون أن يفهموا أن ما يفعلونه إنما هم تدميرهم للمؤسسات وصولاً إلى المشاهد الختامية المتسمة بمجازر رهيبة في الرواية الثانية "إشهار الخناجر" لا شك أن لا ليسكوف ولا حتى تولستوي كانا يتوقعان تحقق ما تتنبأ به عبر الثورة البلشفية ووليدتها الستالينية...
إبراهيم العريس

نيسان ـ نشر في 2024-01-24 الساعة 23:18

الكلمات الأكثر بحثاً