اتصل بنا
 

فواز طرابلسي عن 'زمن اليسار الجديد' [3]

نيسان ـ نشر في 2024-01-27 الساعة 07:23

فواز طرابلسي عن زمن اليسار الجديد
نيسان ـ الحديثُ هنا عن كتاب فواز طرابلسي الجديد، «زمن اليسار الجديد»، الصادر عن دار رياض نجيب الريّس. صدرَ العدد الأوّل من نشرة «لبنان الاشتراكي» في أيلول 1966 واستمرّ حتى آذار 1970، وأصبحت المجموعة تُعرَف باسم «لبنان الاشتراكي» (يرجّح فوّاز أن وضّاح شرارة كان وراء التسمية، ص. 51). التصميم على الاشتراكيّة يمكن أن يُفهم في سياق التصادم الفكري مع الحزب الشيوعي اللبناني الذي كان يؤمن بمقولة «الرأسمالية الوطنيّة»، والمفهوم كان بمنزلة تصالح بين الاتحاد السوفياتي وبين أنظمة عربيّة وغير عربيّة لا تؤمن بالشيوعيّة. لم يكن الاتحاد السوفياتي يرى أننا مهيؤون لتطبيق الاشتراكية بعد، ونظريّات الاستحالة تعدّدت. من هذا المنظور، فإن «اليسار الجديد» في هذه المجموعة هو تعبير عن استقلالية عن الاتحاد السوفياتي، خصوصاً قبل انعقاد المؤتمر الثاني للحزب الشيوعي اللبناني في 1968. وصِفة اللبناني في اسم المجموعة كانت مُلفتة وذلك في زمن كان الجدال اليساري فيه يراوح بين القوميّة وبين الأمميّة. قد تكون هذه المجموعة، عبر حصرها النضال الاشتراكي في حدود لبنان، سابقة لتعبيرات الوطنيّة اللبنانيّة اليساريّة التي انطلقت في رحم 14 آذار بعد اغتيال الحريري.
يذكر المؤلّف عدد الكتب التي كانت تناقَش (باقتراح من شرارة، ص53) وغزارة القراءات كانت تختلف في الكمّ والنوع عن التثقيف الشيوعي الضحل في الأحزاب الشيوعيّة («الإصلاحيّة» منها كما «الثوريّة») في زمن الحرب الأهليّة. كان يكفي للتدرّج في صفوف تلك الأحزاب قراءة نتف من «18 برومير» ونتف من «ما العمل» كي تكتمل ثقافة العضو العقائديّة. يقرّ المؤلّف بتأثّره بغرامشي وهو كان من أوّل مُترجميه إلى العربيّة. وكان الأعضاء يواظبون على مطالعة الصحف اللبنانيّة والعربيّة والأجنبيّة على حدّ سواء. التنظيم لا يشبه أياً من الأحزاب اليساريّة التي عاصرتُها أثناء سنوات الحزب، ربّما لأن مجموعة «لبنان الاشتراكي» كانت أقرب إلى تنظيم نخبة فكريّة لا تطمح إلى الاختراق الجماهيري (تماماً على نسق تمييز موريس دوفرجيه بين نوعيْن من الأحزاب). لا يمكن أن يستطيع حزب بهذا التطلّب في التثقيف الفكري أن يصل إلى العمّال والفلّاحين الذين طمحت الأحزاب الشيوعيّة آنذاك لجذبهم. هذا لا يعني أن النخبويّة لم تعترِ صفوف تنظيمات شيوعيّة تقليديّة، حتى تلك التي استطاعت أن تضمّ جماهير إليها. لكن المعايير في التثقيف لم تكن واحدة، وكان هناك تراخٍ في المتطلّبات والواجبات في خلايا التنظيمات في المناطق الريفيّة والعمّاليّة في نواحي بيروت. ويتحدّث طرابلسي بصراحة عن طقوس رفاقيّة في التدخين والسلام بين الأعضاء (ص. 55). وكان الانضمام إلى التنظيم نخبوياً وانتقائيّاً، على عكس ما ساد في تنظيمات الشيوعيّين التقليديّين، خصوصاً في سنوات الحرب. كان يُفترض أن يكون هناك ترشيح وموافقة لكن لا أذكر أن هناك عضواً طُرد. المنافسة كانت على أشدّها بين التنظيمات وكان حجم التنظيم يقرّر حجم التمويل الخارجي (العربي أو الاشتراكي الشرقي).
ويذكر طرابلسي، شاكراً، الدور الطليعي الذي لعبه بشير الداعوق، صاحب «دار الطليعة». الداعوق ليس معروفاً كثيراً وكان يبتعد عن الأضواء، ولم يضره أن تكون زوجته (الأديبة، غادة السمّان) معروفة أكثر منه. يصفه طرابلسي بـ«الإنسان الدمث، والقارئ الدؤوب، والبعثي المنفتح، والناشر الجريء الاستثنائي الذي أسهم بدور بارز في نشر أدبيّات التحرّر الوطني والاشتراكيّة والماركسيّة» (ص. 56). الداعوق بلا شك كان عَلماً من أعلام النهضة الفكريّة التقدميّة في لبنان. كان بعثيّاً لكن لم يكن دوغمائيّاً أو عقائديّاً في سياسة النشر، في داره أو في مجلّة «دراسات عربيّة». مجلّة «دراسات عربيّة» (التي كنا نعود إلى مقالاتها بعد سنوات) أسهمت في إذكاء الخلافات الفكريّة وفي إثراء التثقيف الفكري التقدمي لمَن يرغب. كانت مروحة التعبيرات الأيديلوجيّة تنمّ عن سعة صدر وانفتاح الناشر الفريد. كتب «دار الطليعة» ثقّفت اليساريّين أكثر بكثير من منشورات «دار التقدّم» (أي الدار الموسكوبيّة التي كانت تنشر التراث الماركسي المختار بالعربيّة). وكانت مقالات «دراسات عربيّة» تراوح بين الإنتاج الأكاديمي والمناكفات الحزبيّة بين عقائديّين. تفرّغ طرابلسي لترجمة التراث اليساري لـ«دار الطليعة» في سنوات الدراسة في الجامعة الأميركيّة.
وتزامن تنظيم «لبنان الاشتراكي» مع «جبهة القوى الطالبيّة» وهي تنظيم لطلاب يساريّين في المدارس والجامعات الفرنسيّة التعليم (كان أمين معلوف وسمير فرنجيّة من بين الأعضاء، بالإضافة إلى يهود لبنانيّين يساريّين) (ص.59). وتنافس على كسب ودّ الجبهة الحزب الشيوعي اللبناني و«التيّار اللينيني» فيه. طُردت يولا بوليتي من «التيّار اللينيني» بعد أن اتُّهمت بـ«تمرير معلومات» عنه إلى «لبنان الاشتراكي» (عبر شرارة). استقال طرابلسي احتجاجاً. عمل طرابلسي مع مجموعة من اليساريّين في نشاطات من أجل فلسطين وضد الحرب الأميركيّة في فييتنام. تسبّب ذلك في منع طرابلسي من زيارة أميركا لمدة عشرين عاماً (ص. 60).
كتب «دار الطليعة» ثقّفت اليساريّين أكثر بكثير من منشورات «دار التقدّم». وكانت مقالات «دراسات عربيّة» تراوح بين الإنتاج الأكاديمي والمناكفات الحزبيّة بين عقائديّين. تفرّغ طرابلسي لترجمة التراث اليساري لـ«دار الطليعة» في سنوات الدراسة في الجامعة الأميركيّة
ميّز الإنتاج الفكري لـ«لبنان الاشتراكي» بين البورجوازيّة المالية-التجارية وبين الإقطاع السياسي، وشغل هذا التمييز النقاش الفكري مع أن المجموعة أخذت في الحسبان «تبرجز الإقطاع السياسي» (ص. 63). لكن النقاش كان نظريّاً ومجرّداً بعض الشيء. يذكر طرابلسي القضايا المطلبيّة، ولكنها لم تشغل التنظيم وإن شارك فيها مع الطلاب الثانويّين. كان التنظيم يقدّم تحليلات طبقيّة للظواهر السياسيّة، مثل الحكم على التجربة الشهابيّة بأنها كانت تمثّل «مصالح الرأسماليّة اللبنانيّة ذات الطابع التجاري-المصرفي في الغالب» («لبنان الاشتراكي»، تموز 1968، والاستشهاد من ص. 66 من الكتاب) لكن من دون تقديم مساهمة عن التركيب الطبقي للمجتمع اللبناني (أوّل دراسة في هذا الصدد كانت في كتاب بالفرنسيّة لسليم نصر وكلود دوبار في 1976). لكن الشهابيّة لم تقطع بالكامل مع الإقطاع السياسي بل تحالفت مع أجنحة منه ضد أخرى (هي فضّلت صبري حمادة على كامل الأسعد, مثلاً). ويتفوّق تقييم المجموعة للتجربة الشهابيّة على تقييمات لاحقة كادت أن تجعل من شهاب المصلح الأكبر. يذكر طرابلسي القيود على الطبقة العاملة في عهده (ص. 67)، كما أن شهاب كان المتبنّي لحزب الكتائب نكاية بريمون إدة. وطرابلسي على حق في أن «النظر إلى الشهابية قبل الحرب الأهليّة ليس كالنظر إليها بعدها» (ص. 68).
وقفت المجموعة ضد الستالينيّة وضد التدخّل العسكري السوفياتي في تشكوسلوفاكيا. هذا النقد المبكر للستالينيّة كان بالفعل من تجليّات «الجِدة» في التجربة اليساريّة لأن الأحزاب الشيوعيّة لم تكن تجرؤ على نقد الستالينيّة حتى بعد عام 1956. لكن هل إن نقد الستالينيّة والتدخّل العسكري السوفياتي في تشكوسلوفاكيا أسهم في إضافة المسحة الليبراليّة التي شدّت في ما بعد معظم أعضاء المجموعة وجعلتهم من أصدقاء اليمين؟ وفي ضوء الحرب الباردة، والحروب الأميركيّة المنتشرة حول العالم، لماذا يكون التدخّل العسكري السوفياتي الشرّ بعينه خصوصاً بعد جلاء حقيقة حركات المعارضة في أوروبا الشرقيّة وتبخّر أوهام التعويل على «اشتراكية إنسانيّة» في تلك الدول كي تكون في تضاد مع الماركسية السوفياتية؟
يعترف طرابلسي أن المجموعة كانت تجهد كي تظهّر الاختلاف مع الحزب الشيوعي اللبناني وأن المعرفة الماركسية النظريّة للمجموعة أتاح لها النظر باستعلاء نحو الشيوعيّين التقليديّين، في حقبة عانوا فيها من صراعات ومن أثقال قرارات خطأ (بالنسبة إليهم) مثل قبول التقسيم ومعارضة الوحدة ومجابهة عبد الناصر في الوقت الذي كان فيه رأس الحربة ضد الاستعمار الغربي. كان العداء أو الاختلاف مع الحزب الشيوعي هو مبرّر وجود كل الأحزاب الشيوعيّة الأخرى في لبنان. المفارقة أن مجموعة «لبنان الاشتراكي»، التي انضوت في ما بعد في إطار «منظمة العمل الشيوعي»، لم تعد تؤمن بالاختلاف العقائدي مع الحزب الشيوعي وتبيّن في هذه السيرة أن السبب الذي منع الاندماج بين التنظيميْن كان شخصيّاً (من ناحية المنظمة وزعيمها، محسن إبراهيم).
يقول فواز إن الحزب لم يكن آنذاك (في منتصف الستينيّات وبعدها) جاذباً للشباب الحالمين و«المستعجلين» للتغيير (ص.71). والحزب لم يكن جاذباً أيضاً في مرحلة الحرب بالنسبة إلى الشيوعيّين الثوريّين. كانت النظرة إليه أنه جامد وستاليني وإصلاحي النزعة والتوجّه. لكن المنظمات الشيوعيّة الثوريّة فشلت هي الأخرى في التمايز الحقيقي عن الحزب ولم تثبت أن مسلكها أو عقيدتها ثوريّة في مقابل إصلاح الحزب، تبلورت على الواقع، خصوصاً أن بعضها (مثل حزب العمل الاشتراكي العربي-لبنان) كان منضوياً في إطار الحركة الوطنيّة اللبنانيّة. والتبعيّة للاتحاد السوفياتي حكمت سياسات كل الأحزاب الشيوعيّة في لبنان، باستثناء التروتسكيّين والفوضويّين والمجموعات الصغيرة التي لم تحمل صفة أحزاب.
لكن خلاف «لبنان الاشتراكي» مع الحزب شمل قضايا كبرى مثل مشروع روجرز والموقف من العمل الفدائي والكفاح المسلّح على الصعيد العربي والعالمي والنظرة إلى الشهابيّة (كان من المفيد لو أن طرابلسي أسهب في شرح المواقف المختلفة للمجموعة هنا) (ص. 72). لكن طرابلسي على حق في أن مجمل إصلاحات الشهابيّة لم تمسّ بـ«التزام لبنان مبادئ الاقتصاد الحرّ» (ص. 80). كما إنّ المجموعة على حقّ في أن الشهابيّة لم تقلب النظام الطائفي أو تسعى إلى القضاء عليه، بل سعت إلى تعديل موازين التمثيل في الإدارة، ليس إرضاءً للمسلمين، بل من أجل تحقيق السلم الأهلي. ونقاشات المجموعة مع الأحزاب والشخصيّات الأخرى غلب عليها طابع «التشاوف» النظري كما اعترف طرابلسي. هناك وثيقة من 1968 (من إعداد أحمد بيضون، على ما أظن) وفيها نقد لتناول كمال جنبلاط للماركسيّة (بعنوان «تهافت الجنبلاطيّة في تعدّي الماركسيّة»). هناك القليل من النقاش السياسي في الدراسة وكثير من إثبات القصور النظري والمعرفي لجنبلاط حول الماركسيّة.
واختلفت المجموعة مع الحزب الشيوعي في تقييم انتخابات 1968. رفضت المجموعة الفصل بين المرشحين الشهابيّين وبين مرشحي «الطغمة الماليّة» (ص. 75). وكتب طرابلسي في «لبنان الاشتراكي» في آذار 1968 عن موضوع الانتخابات وردّ على الحزب الشيوعي بمقولة «التحالف الحاكم بين البورجوازيّة التجاريّة-الماليّة والإقطاع السياسي المكوَّن من عائلات مالكة للأرض فقدت نفوذها الاقتصادي أمام التطوّر الرأسمالي» (ص. 75). وحالة الصناعي بطرس الخوري ماثلة لتدعيم مقولة طرابلسي، فالرجل تحالف مع عائلات الإقطاع ليس من أجل البروز كزعيم سياسي، وإنما من أجل تمرير مشاريعه الاقتصاديّة ومحاربة اليسار (كان قريباً من رشيد كرامي ومن كميل شمعون وكان من أبرز مموّلي شحنات السلاح في أوّل الحرب الأهليّة لمصلحة ميلشيات اليمين). يعترف المؤلّف بقصور نقد المجموعة للحزب الشيوعي: هم أخذوا على الحزب عدم دفعه نحو الاشتراكيّة فيما توصّلت المجموعة إلى خلاصة الدعوة إلى «مرحلة وطنيّة ديموقراطيّة... وسيطة». كما رهنت المجموعة عمليّة البناء الاشتراكي بـ«تحوّلات عربيّة أساسيّة» (ص. 75-76). ويمكن الملاحظة أن التعويل على التحوّلات العربيّة تجلّى في الاتكال على المقاومة الفلسطينيّة. وعندما فشل التغيير، قام محسن إبراهيم وغيره بلوم المقاومة الفلسطينيّة كأنها هي المولجة بتغيير الوضع اللبناني وتثويره.
(يتبع)
* كاتب عربي - حسابه على تويتر
asadabukhalil@

نيسان ـ نشر في 2024-01-27 الساعة 07:23


رأي: أسعد أبو خليل

الكلمات الأكثر بحثاً