اتصل بنا
 

هل تأثّر بورخيس بالغزالي؟مقارنة بين نصّين

نيسان ـ الشرق الأوسط ـ نشر في 2024-01-30

x
نيسان ـ الأدب في مجمله ليس سوى تاريخ يجنح إلى المحو... محو اسم كاتب وتثبيت اسم كاتب جديد آخر فوقه في عملية لا نهائية
يعرف قارئ بورخيس أن مفردات وأسماء، مثل القرآن، التأريخ الهجري، العباسيين، بغداد، «ألف ليلة وليلة»، القاهرة، زهير بن أبي سلمى، البلاذري، ابن خلدون، ابن رشد، والغزالي، بما تنطوي عليه من دلالات، هي بعض مما يحتويه سِفر بورخيس في بعده العربي - الإسلامي الظاهر. هذه المفردات، بقدر ما تكون باعثاً على دهشة القارئ لسعة اطلاع واهتمام الكاتب، من جهة، وتفاعله مع نصوص ورموز في الثقافتين العربية والإسلامية والاستفادة منها أو استنطاقها بطريقة مغايرة، من جهة أُخرى، هي بالقدر ذاته تمثل علامة، وشاهداً آخر على موسوعية بورخيس، وكونيته. وكثيراً ما استحال هذا التفاعل إلى تأثر، الشيء الذي لا يفاجئ كثيراً دارسي بورخيس والمهتمين بأدبه؛ فهو في الأخير يشكل ملمحاً مهماً وأساسياً في سيرته الكتابية، عامة، إن لم يكن العنوان الأبرز فيها، والحديث هنا عن تفاعل بورخيس مع الثقافة الإنسانية بإطلاقها. وما يعزز حكماً كهذا، من بين شواهد كثيرة، ما شخّصه بجرأة ألبرتو مانغويل، في حوار معه، تضمنه كتاب «بورخيس صانع المتاهات»، ترجمة محمد آية العميم، حيث يرى أن «المظهر الأكثر إثارة للاهتمام أو الأكثر أهمية لعمل بورخيس فيما ندعوه بتاريخ الأدب أو تاريخ القراءة هو أنه لم يأتِ بجديد؛ فهو يعيد اكتشافاتٍ وأفكاراً مبتدعة تشكّلت عبر تاريخنا الأدبي بغية إعادة نشرها وإشاعتها ليجعلنا نكتشفها ونستعملها في توليفات مغايرة». ومبدأ التأثر، عموماً، مما لا ينكره بورخيس نفسه، ولطالما أشار إلى مقولة روبين داريو، الشاعر النيكاراغوي، التي تفيد بأنّ الوحيد الذي يحق له نفي تأثره بأي كاتب قبله، هو آدم. ويمكن وصف بورخيس بأنه سليل مكتبة العالم، والأكثر انتماءً لها، وما أكثر المواضع التي يؤكد فيها تأثره المباشر بكتَّاب آخرين، باختلاف وتنوع اتجاهاتهم وعصورهم. وقد يكون تبحّر بورخيس في ثقافات وآداب العالم المختلفة ليس من دون ثمن، «فهو قد قرأ كلّ شيء»، كما يرى أندريه موروا! والثمن المعني هنا هو هذا التسرب الذي يحدث من تلك الآداب والثقافات، جرّاء إبحاره فيها، إلى أدبه ونتاجه، تسرب يحفر بالتالي مجراه عميقاً لديه، سواء فيما يخوض فيه من تفاصيل أو ثيمات كبرى في ذاتها، كالخلود، شكّلت بالأخير هويته وكرّسته كاتباً ومفكراً على صعيد عالمي.
غلاف "كيمياء السعادة" للغزالي
وبما أن «مصادر» بورخيس أكبر وأوسع من أن يتم حصرها، بالمعنى الدقيق، وتحديدها، فإن هذا المقال لن يكون معنياً هنا سوى بنص واحد يرى أنّ بورخيس قد عمد إلى استثمار فكرته، بعد تمريرها في مختبره، بلاغة ومعالجة، اتساقاً مع الهدف الأدبي - الجمالي، حيث يمكن النظر إلى نص بورخيس هذا، أيضاً، كقصيدة نثر بمعناها الأوروبي. وبمجرد قراءة النصين، يخرج القارئ بانطباع عن مدى التشابه، وكأنّ نص بورخيس صدى للنص المذكور، والنص المعني يعود لأبي حامد الغزالي (1058-1111م)، الفيلسوف والعالم الإسلامي، وستتم مقارنته بما يقابله لدى الأديب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس (1899 - 1986)، ومناقشته. يرد النص في كتاب «كيمياء السعادة»، وقد اعتمدت، هنا، نسخته المتضمنة في مجلّد «مجموعة رسائل الإمام الغزالي»، بمراجعة وتحقيق إبراهيم أمين محمد، المكتبة التوفيقية - مصر. وكتاب «كيمياء السعادة» المترجَم عن الفارسية هو اختصار وتشذيب لكتاب «شرح عجائب القلب» في موسوعة «إحياء علوم الدين»، ذائعة الصيت. أما نص بورخيس فقد تضمنته خاتمة كتاب «الصانع»، الذي يضم نصوصاً مختلفة وقصائد، وهو بترجمة سعيد الغانمي، وإصدار «المؤسسة العربية للدراسات والنشر».
نص الغزالي
«واعلم أن نفس ابن آدم مختصرة من العالم، وفيها من كل صورة في العالم أثر منه، لأن هذه العظام كالجبال، ولحمه كالتراب، وشعره كالنبات، ورأسه مثل السماء، وحواسّه مثل الكواكب». وأيضاً فإن في باطنه صُنّاع العالم، لأن القوة في المعدة كالطبّاخ، والتي في الكبد كالخبّاز، والتي في الأمعاء كالقصّار، والتي تُبيّض اللبن وتُحمّر الدم كالصبّاغ. والمقصود أن تعلم كم في باطنك من عوالم مختلفة كلهم مشغولون بخدمتك، وأنت في غفلة عنهم، وهم لا يستريحون، ولا تعرفهم أنت، ولا تشكر مَن أنعم عليك بهم.
نص بورخيس
«يوكل رجل لنفسه مهمة رسم العالم. وخلال السنين يعمر الفضاء بصورة الأقاليم والممالك والجبال والبحار والسفن والجزر والأسماك والغرف والأدوات والنجوم والخيول والناس. وقبل موته بقليل، يكتشف أنّ ما ترسمه تلك المتاهة الطويلة من خطوط هي صورة وجهه».
غلاف "كيمياء السعادة" للغزالي
على الرغم مما بين النصين من فارق على صعيد هدفية كل منهما؛ فلدى الغزالي يسمو الهدف الأخلاقي فوق أي اعتبار، بحكم طبيعة انشغال وتوجه كاتبه اللاهوتي، وهو ما يقوله النص ابتداءً، وما يفسر، أيضاً، تسمية «رسالة» المعتمدة للكتاب ككل (هنا تجب الإشارة إلى أن المقال يتناول نص الغزالي حتى جملة «وحواسّه مثل الكواكب»، فهذا الجزء هو المعني بالمقارنة بنص بورخيس، وهو الذي استدعى هذه الكتابة)، فيما يكون الهدف وكما هو متوقع لدى بورخيس، أدبياً، جمالياً، فإن ما يوحد النصين، إضافة إلى وحدة الفكرة فيهما، وهو المشترَك الأهم، طابعهما الكوني المتمثل بسعي الكاتبين إلى تقديم صورة يتكامل فيها الإنسان والعالم، ويختصر كلٌّ منهما الآخر. وهي خصيصة حاسمة تعطي كلا النصين صبغته وفخامته الجمالية والفنية وتعزز من قيمته الإبداعية. إنّ الأدبي يمكن له أن يتفوّق على أي اعتبار آخر في نص الغزالي، فالمنطلق في النظر إلى كتابة الغزالي هنا منطلق فني يرى أن الأخير قد استوى في نصه القصير هذا مبدعاً استطاع أن يرسم بكلماته لوحة متكاملة، داغماً فيها الإنسان بمظاهر عظمة الكون وتجليات الطبيعة، موحِّداً ومناظِراً بينهما، ليتعاظم حجماً ونفْساً، وقد كانت ذروة شعرية النص والتماعته تشبيه الرأس بالسماء، ومعادلة الحواس بالكواكب. وعلى الرغم مما تقدم من هدفية الغزالي الروحانية، بالمعنى المضموني - الرسالي، في نصه هذا أو كتاب «كيمياء السعادة»، إجمالاً، فإن ذلك لم يأتِ على حساب الاكتناز المجازي، وبالتالي، الجمالي للنص.
بهذا المعنى فإن الغزالي قد كتب قصيدته، بمعنى تحقق الشرط الشعري وليس بالضرورة قصْديته. إن التواتر لدى الغزالي في استخدام أدوات أدبية، كالتشبيه والعناية بالصوغ والنحو إلى التكثيف، وطبيعة بناء النص، كل ذلك يشف عن قصدية إبداعية ومنهجية أدبية. كما لا يمكن إغفال البعد الجوهري للنص، وهو بُعد صوفي يلتقي، بالضرورة، بالبعد الفني، ليتحدد بذلك الإطار النهائي له، وهو إطار أدبي، بامتياز، وهو ما يكون عليه الخطاب الصوفي، منظوراً إليه في مداه الإبداعي الخالص، من وجهة نظر الأدب، كما لدى ابن عربي، والنفّري، والبسطامي، تمثيلاً لا اقتصاراً. بالمقابل، فإن المسعى الأدبي لبورخيس لم يسلب نصه المسحة الصوفية التي بدا عليها، فالروح التي حكمت النصين هي روح واحدة، تسعى لأن تتسقّط أو تتقرى ظل العالم على الإنسان، وبالعكس، ليبدو بالأخير كل منهما هو الآخر. هنا ما يدعو إلى القول، بشيء من المفارقة، بغزالية بورخيس وبورخيسية الغزالي!
إن صوفية بورخيس، وإن اختلفت دوافعها لديه، تلتقي مع الصوفية بصفتها اللاهوتية، فهي تعني عنده، أيضاً، التحرر من ثقل العالم المادي، المحسوس، لذا فإنّ بورخيس الميتافيزيقي، يغلب على بورخيس الفيزيقي، من دون الاستنكاف عن اليومي أو الجزئي، كما في تفصيلة الانتقال من رحابة الأقاليم إلى محدودية الغرف، في النص أعلاه. وفضلاً عن الثقافة العربية الإسلامية، تخبر آثار بورخيس عن درايته بالشنتو، والبوذية، والهندوسية، والوثنية، والقابالا اليهودية، وما يتجاوز ذلك إلى تفاصيل وشوارد في ثقافات الشعوب، وهو ما ينبئ أن ذلك يكون أدعى لاطلاعه على آثار الغزالي، الحاضر لديه مع عنوان كتابه المعروف «تهافت الفلاسفة»، في قصته «بحث ابن رشد». وإجمالاً، فإن حضور الغزالي جلي في الثقافة الأوروبية، حتى إنّ كتابه «إحياء علوم الدين»، مترجم إلى أكثر من لغة رغم الطابع الفقهي لكثير من محتواه. أما «كيمياء السعادة»، فهناك ترجمتان بالإنجليزية له تعودان إلى عامَي 1873 و1910.
إنّ ما يمكن القطع به، إلى كل ما تقدّم، هو أن الأدب في مجمله ليس سوى تاريخ من التأثير والتأثّر، بل حتى ما يتجاوز ذلك. تاريخ يجنح إلى المحو؛ محو اسم كاتب وتثبيت اسم كاتب جديد آخر فوقه، في عملية لا نهائية، وإذا كان الاسم ينحو إلى طمس الاسم، وقد ينجح في ذلك، سوى أنّ المتن يقف على الضد، فهو الطرس الذي يفضح ذلك. والطِرس، في القاموس، هو الصحيفة أو الكتاب الذي مُحي وأُعيدت كتابته، والتطريس وفقاً لجيرار جينيت هو محو نص قديم وكتابة نص جديد فوقه، دون أن يستطيع النص الجديد إخفاء آثار المكتوب القديم، تماماً. وقد يكون هذا هو ما فعله بورخيس مع نص الغزالي، بشكل أو آخر، دون نسيان أن بورخيس هو ذاته مَن سعى دائماً إلى تأكيد وتعزيز هذه الحقيقة، فالكتّاب جميعاً، برأيه، إنما يكتبون في الواقع كتاباً واحداً. وهكذا، فإنّ قراءة بورخيس تعني توقّع الاستماع، لا إلى صوت وحيد معزول، بل إلى صوت مسكون بسيل من الأصوات الأدبية للرواد السابقين عليه. مثلما يذهب إلى ذلك الناقد هارولد بلوم في كتابه «كيف نقرأ ولماذا»، وكأنّ بورخيس الكاتب لا يكتمل دون شرط حضور الكتاب الآخرين فيه، مثلما أن قراءته لا تتم دون الوعي بحقيقة هذا الحضور.
باسم المرعبي

نيسان ـ الشرق الأوسط ـ نشر في 2024-01-30

الكلمات الأكثر بحثاً