'وقائع موت معلن'... ماركيز روى حكاية كتابتها منذ كانت فكرة
نيسان ـ نشر في 2024-02-29 الساعة 08:01
نيسان ـ منطلق الحكاية في مطار الجزائر بين أمير عربي وصقره الموشى بالذهب وعباءته الفخمة
لا شك أن من السهل أن ننظر إلى رواية الكاتب الراحل غابريال غارسيا ماركيز "وقائع موت معلن" باعتبارها أشهر رواياته على الإطلاق إذا وضعنا جانباً مأثرته الأدبية الكبرى "مائة عام من العزلة" التي لا شك أنها تخرج عن التصنيف، وعلى الأقل بالنسبة إلى فئتين عريضتين من قرائه: هواة السينما بصورة عامة؛ والقراء العرب بصورة خاصة. ولئن كنا نعرف تماماً لماذا استوقفت "وقائع موت معلن" قراء ماركيز العرب – لكون شخصيتها المحورية مهاجراً من أصل عربي يدعى سانتياغو نصار، ما استثار فضول هؤلاء القراء ودفعهم إلى مزيد من الأبحاث حول الوجود العربي في أميركا اللاتينية، وفي كثير من آداب مختلف بلدانها ولا سيما لدى جورج آمادو البرازيلي الذي ملأ رواياته بشخصيات عربية سماها هو تركية في واحدة من رواياته الأخيرة "كيف اكتشف الأتراك أميركا"، فإن الفئة الثانية من قراء الكولومبي الشهير هي تحديداً فئة قراء الروايات من هواة السينما من الذين اهتموا دائماً بالسبب الذي جعل أدب ماركيز عصياً على الاقتباس السينمائي. لكنهم اعتبروا في المقابل أفلمة "وقائع موت معلن" واحدة من المحاولات الناجحة إلى حد كبير إضافة إلى أفلمة رواية أخرى لماركيز لا تقل عنها نجاحاً. ولم يكن الأمر صدفة. فالواقع أنه قيض لهاتين الروايتين مخرجان كبيران هما بالنسبة إلى "موت معلن" الإيطالي الكبير فرانشيسكو روزي، وبالنسبة إلى "ليس للكولونيل من يكاتبه"، للمكسيكي المبدع أرتورو ربشتاين، الذي سيكون هو من يشتغل على روايتي نجيب محفوظ - "بداية ونهاية" و"زقاق المدق" - إنتاجاً وإخراجاً كعملين سينمائيين كبيرين في السينما المكسيكية. وسنتناول هنا رواية "وقائع موت معلن" كموضوع لنا على أن نعود إلى الروايات الأخرى في بعدها السينمائي في مناسبات تالية. وذلك بالتحديد هنا انطلاقاً من حكاية عنونها ماركيز نفسه "حكاية الحكاية" نشرها بعد بدء ترجمة تلك الرواية عند بداية الثمانينيات. وهي حكاية ربما تمعن في إيجاد المبررات لشهرتها لدى القراء العرب كما سوف نرى.
نشر ماركيز هذه الرواية للمرة الأولى في عام 1981 أي مباشرة في غمرة النجاح المدهش الذي كانت حققته، على الأقل، روايتاه الكبيرتان "مائة عام من العزلة" و"خريف البطريرك"... ولقد حققت الرواية نجاحاً كبيراً فور نشرها وترجمت إلى العديد من لغات العالم كما الحال مع كلّ أعمال ماركيز منذ ذلك الحين. وعلى رغم نجاحها الفوري، لم تعتبر "وقائع موت معلن" من أعمال ماركيز الكبرى... بل نُظر إليها على أنها رواية تشويق بوليسي مع أنها لا تنطلق من السؤال المعهود: من ارتكب الجريمة؟ بل من سؤال أقلّ إثارة للفضول: لماذا ارتكبت الجريمة؟... أما الجريمة المرتكبة هنا فهي جريمة قتل الشاب سانتياغو نصار قبل عقدين ونصف العقد من الزمن الذي تُروى فيه الحكاية. وهي تُروى على لسان راو لا اسم له تشغله الأحداث التي درى بها ويحيّره سكوت الناس عن الدوافع التي أدت إلى قتل الشاب. وكان ذلك إلى تقرير كتابة الرواية قبل عقدين من الزمن. وهو سيروي في النص الذي نشره حول الرواية كيف ولماذا انتظر كل ذلك الوقت لكتابتها.
منظر أمير عربي
ولننطلق هنا على أية حال مما يرويه ماركيز حول دافعه لامتشاق قلمه. فهو، بعد أن يروي لنا "المخاض الطويل والمتعرج" الذي عاناه طوال سنوات أمضاها باحثاً عن مصائر تتعلق باثنتين من شخصيات الحكاية ويفصل لنا ذلك المخاض الذي كانت انطلاقته الرئيسة مما أخبره إياه ذات يوم صديقه ألفارو ثيبيدا من أن للحكاية نفسها والتي يعرفونها جميعاً لأنها حدثت قبل ربع قرن وباتت من تراثهم الشفهي، نهاية جديدة تمثلها عودة الخطيبين إلى اللقاء وهما يعيشان الآن سعيدين وقد نسيا نصار الذي كان شقيقا أنجيلا فيكاري قد قتلاه عبر تلك الجريمة المعلنة والتي نتجت من اكتشاف خطيب أنجيلا أن سيمون كان على علاقة بها فقرر أخوتها قتله لفعلته الخارجة عن تقاليد القرية، وفعلاً كما نعرف ونستعيد بعد سطور. ما يهمنا هنا هو أن ماركيز يروي مغامرة سعيه لكتابة الرواية وتأجيله ذلك طوال سنوات زار خلالها المنطقة وعاش فيها والتقى أنجيلا وزوجها... لكن ذلك لم يعطه أي إلهام. ولكن حدث يوماً أنه كان وامرأته مرسيدس في مطار الجزائر في انتظار سفر ما. وفجأة طاوله منظر مهيب "منظر أمير عربي بادي الأناقة بعباءته ومظهره وهو يحمل بكل أبهة وعناية صقر صيد مزيناً بأربطة ذهبية وما إلى ذلك" وفي تلك اللحظة بالذات "وجدت ضالتي" كما يقول، "أمسكت بالخيط الأول لكتابة روايتي من دون أن أفهم العلاقة بين قتيل الرواية وشخص الأمير سوى كونهما معاً عربيين!".
حقاً لماذا قتل نصار؟
إذاً في عودتنا هنا إلى الرواية نفسها، كان السؤال: لماذا قُتل سانتياغو نصار؟ وها هو طارح السؤال، الراوي، يعود اليوم إلى الديار بحثاً عن الجواب... وهكذا تبدأ الرواية...على لسان هذا الراوي المجهول، ولكن انطلاقاً من اليوم الذي ساد فيه الحداد على نصار... أي اليوم الذي قُتل فيه هذا الشاب على يدي الأخوين التوأم من آل فيكاريو. والحال أن اليوم الذي قَتل فيه التوأمان نصار كان اليوم التالي لعرس أختهما أنجيلا على الشاب باياردو سان رومان، الذي كان قَدم إلى القرية للبحث عن عروس فأعجب بأنجيلا وخطبها. لكنه في ليلة الدخلة اكتشف أنها ليست العذراء التي كان يعتقد. فنبذها أمام ذعر العائلة التي تُقرر الثأر لشرف الفتاة، مفترضة أن المسؤول عما عارها إنما هو الشاب سانتياغو ابن إبراهيم نصار، اليتيم الأرستقراطي الذي يعيش مع أمه العجوز بعد وفاة أبيه وقد أضحى مسؤولاً عن المزرعة العائلية. وهكذا إذاً، يصدر الحكم العائلي لدى آل فيكاريو بإعدام سانتياغو حتى وإن كان ماركيز لا يؤكد لنا في أي صفحة من صفحات الرواية أن ابن إبراهيم نصار هو الفاعل حقاً. بل إن الأخوين القاتلين لا يبدوان في أية لحظة واثقين من أنه هو الفاعل بخاصة أن أنجيلا لا تعترف بمن تسبب في حالها. ولكن "استعادة شرف العائلة" كانت تتطلب مذنباً... والمذنب جاهز لا يحتاج الأمر لا إلى اعترافه ولا إلى إصدار أي حكم قضائي عليه. إن الحكم سيكون عائلياً مبرماً وما على المجتمع الصغير في القرية إلا الانصياع.
احتجاج اجتماعي
بل أكثر من هذا: التواطؤ... وذلك لأن الرواية تركّز أكثر ما تركز على اليوم الذي يتم فيه تنفيذ "الحكم" حيث سنجد الشاب سانتياغو مطارَداً من مكان إلى آخر وقد أُغلقت كل المنافذ في وجهه... ولم تعد حتى أمه قادرة على إنقاذه من القتل، هذا القتل المعلن كقدر لا مفر منه، قدرٌ يتجاوز كل بعد عقلاني... لأن المسألة تتعلق هنا بما يتجاوز العقلانية: "لا يسلم الشرف الرفيع هنا حتى يراق على جوانبه الدم"، كما يقول الشاعر العربي. والدم هنا إن لم "يُرق" ليلة دخلة أنجيلا، لا بد أن يراق في مكان آخر: من جثة سانتياغو. وهو أمر عرفته القرية كلها... ورضيت به القرية كلها، وسكتت عنه القرية كلها. وحده الراوي سيأتي بعد سنوات طويلة ليطرح السؤال مندهشاً... وليعرف الجواب وقد بات أكثر اندهاشاً... ولا سيما أن ماركيز يترك النهاية مفتوحة والحيرة أكبر: إنه يترك قارئه غير دارٍ بما إذا كان التوأمان قد قتلا الفتى عن قناعة حقيقية منهما، أو لأن القرية كانت تريد هذا، تريد قرباناً - ولو بريئاً - على مذبح "الشرف" الجماعي. والحال أن قوة الرواية، التي تخرجها من حدثيّتها و"عاديتها"، إنما تكمن ها هنا، عند هذه الفرضية التي تحوّل النص من رواية بوليسية تشويقية، إلى نص في الاحتجاج الاجتماعي يندد بطقوسية المجتمع وقسوته... وهو يبحث عن أي ضحية لمحو عارٍ مفترض - أو حقيقي -والحال أن غابريال غارسيا ماركيز تمكن في هذه الرواية البسيطة من أن يطرح العديد من الإشكالات الاجتماعية والفكرية، من دون أن يكتب نصاً معقداً مؤسلباً، وهذا ما مكّن السينمائي الكبير روزي تحويل النص إلى فيلم مميز أتى متماشياً مع سينماه التي كانت دائماً سينما الاحتجاج الاجتماعي.
لا شك أن من السهل أن ننظر إلى رواية الكاتب الراحل غابريال غارسيا ماركيز "وقائع موت معلن" باعتبارها أشهر رواياته على الإطلاق إذا وضعنا جانباً مأثرته الأدبية الكبرى "مائة عام من العزلة" التي لا شك أنها تخرج عن التصنيف، وعلى الأقل بالنسبة إلى فئتين عريضتين من قرائه: هواة السينما بصورة عامة؛ والقراء العرب بصورة خاصة. ولئن كنا نعرف تماماً لماذا استوقفت "وقائع موت معلن" قراء ماركيز العرب – لكون شخصيتها المحورية مهاجراً من أصل عربي يدعى سانتياغو نصار، ما استثار فضول هؤلاء القراء ودفعهم إلى مزيد من الأبحاث حول الوجود العربي في أميركا اللاتينية، وفي كثير من آداب مختلف بلدانها ولا سيما لدى جورج آمادو البرازيلي الذي ملأ رواياته بشخصيات عربية سماها هو تركية في واحدة من رواياته الأخيرة "كيف اكتشف الأتراك أميركا"، فإن الفئة الثانية من قراء الكولومبي الشهير هي تحديداً فئة قراء الروايات من هواة السينما من الذين اهتموا دائماً بالسبب الذي جعل أدب ماركيز عصياً على الاقتباس السينمائي. لكنهم اعتبروا في المقابل أفلمة "وقائع موت معلن" واحدة من المحاولات الناجحة إلى حد كبير إضافة إلى أفلمة رواية أخرى لماركيز لا تقل عنها نجاحاً. ولم يكن الأمر صدفة. فالواقع أنه قيض لهاتين الروايتين مخرجان كبيران هما بالنسبة إلى "موت معلن" الإيطالي الكبير فرانشيسكو روزي، وبالنسبة إلى "ليس للكولونيل من يكاتبه"، للمكسيكي المبدع أرتورو ربشتاين، الذي سيكون هو من يشتغل على روايتي نجيب محفوظ - "بداية ونهاية" و"زقاق المدق" - إنتاجاً وإخراجاً كعملين سينمائيين كبيرين في السينما المكسيكية. وسنتناول هنا رواية "وقائع موت معلن" كموضوع لنا على أن نعود إلى الروايات الأخرى في بعدها السينمائي في مناسبات تالية. وذلك بالتحديد هنا انطلاقاً من حكاية عنونها ماركيز نفسه "حكاية الحكاية" نشرها بعد بدء ترجمة تلك الرواية عند بداية الثمانينيات. وهي حكاية ربما تمعن في إيجاد المبررات لشهرتها لدى القراء العرب كما سوف نرى.
نشر ماركيز هذه الرواية للمرة الأولى في عام 1981 أي مباشرة في غمرة النجاح المدهش الذي كانت حققته، على الأقل، روايتاه الكبيرتان "مائة عام من العزلة" و"خريف البطريرك"... ولقد حققت الرواية نجاحاً كبيراً فور نشرها وترجمت إلى العديد من لغات العالم كما الحال مع كلّ أعمال ماركيز منذ ذلك الحين. وعلى رغم نجاحها الفوري، لم تعتبر "وقائع موت معلن" من أعمال ماركيز الكبرى... بل نُظر إليها على أنها رواية تشويق بوليسي مع أنها لا تنطلق من السؤال المعهود: من ارتكب الجريمة؟ بل من سؤال أقلّ إثارة للفضول: لماذا ارتكبت الجريمة؟... أما الجريمة المرتكبة هنا فهي جريمة قتل الشاب سانتياغو نصار قبل عقدين ونصف العقد من الزمن الذي تُروى فيه الحكاية. وهي تُروى على لسان راو لا اسم له تشغله الأحداث التي درى بها ويحيّره سكوت الناس عن الدوافع التي أدت إلى قتل الشاب. وكان ذلك إلى تقرير كتابة الرواية قبل عقدين من الزمن. وهو سيروي في النص الذي نشره حول الرواية كيف ولماذا انتظر كل ذلك الوقت لكتابتها.
منظر أمير عربي
ولننطلق هنا على أية حال مما يرويه ماركيز حول دافعه لامتشاق قلمه. فهو، بعد أن يروي لنا "المخاض الطويل والمتعرج" الذي عاناه طوال سنوات أمضاها باحثاً عن مصائر تتعلق باثنتين من شخصيات الحكاية ويفصل لنا ذلك المخاض الذي كانت انطلاقته الرئيسة مما أخبره إياه ذات يوم صديقه ألفارو ثيبيدا من أن للحكاية نفسها والتي يعرفونها جميعاً لأنها حدثت قبل ربع قرن وباتت من تراثهم الشفهي، نهاية جديدة تمثلها عودة الخطيبين إلى اللقاء وهما يعيشان الآن سعيدين وقد نسيا نصار الذي كان شقيقا أنجيلا فيكاري قد قتلاه عبر تلك الجريمة المعلنة والتي نتجت من اكتشاف خطيب أنجيلا أن سيمون كان على علاقة بها فقرر أخوتها قتله لفعلته الخارجة عن تقاليد القرية، وفعلاً كما نعرف ونستعيد بعد سطور. ما يهمنا هنا هو أن ماركيز يروي مغامرة سعيه لكتابة الرواية وتأجيله ذلك طوال سنوات زار خلالها المنطقة وعاش فيها والتقى أنجيلا وزوجها... لكن ذلك لم يعطه أي إلهام. ولكن حدث يوماً أنه كان وامرأته مرسيدس في مطار الجزائر في انتظار سفر ما. وفجأة طاوله منظر مهيب "منظر أمير عربي بادي الأناقة بعباءته ومظهره وهو يحمل بكل أبهة وعناية صقر صيد مزيناً بأربطة ذهبية وما إلى ذلك" وفي تلك اللحظة بالذات "وجدت ضالتي" كما يقول، "أمسكت بالخيط الأول لكتابة روايتي من دون أن أفهم العلاقة بين قتيل الرواية وشخص الأمير سوى كونهما معاً عربيين!".
حقاً لماذا قتل نصار؟
إذاً في عودتنا هنا إلى الرواية نفسها، كان السؤال: لماذا قُتل سانتياغو نصار؟ وها هو طارح السؤال، الراوي، يعود اليوم إلى الديار بحثاً عن الجواب... وهكذا تبدأ الرواية...على لسان هذا الراوي المجهول، ولكن انطلاقاً من اليوم الذي ساد فيه الحداد على نصار... أي اليوم الذي قُتل فيه هذا الشاب على يدي الأخوين التوأم من آل فيكاريو. والحال أن اليوم الذي قَتل فيه التوأمان نصار كان اليوم التالي لعرس أختهما أنجيلا على الشاب باياردو سان رومان، الذي كان قَدم إلى القرية للبحث عن عروس فأعجب بأنجيلا وخطبها. لكنه في ليلة الدخلة اكتشف أنها ليست العذراء التي كان يعتقد. فنبذها أمام ذعر العائلة التي تُقرر الثأر لشرف الفتاة، مفترضة أن المسؤول عما عارها إنما هو الشاب سانتياغو ابن إبراهيم نصار، اليتيم الأرستقراطي الذي يعيش مع أمه العجوز بعد وفاة أبيه وقد أضحى مسؤولاً عن المزرعة العائلية. وهكذا إذاً، يصدر الحكم العائلي لدى آل فيكاريو بإعدام سانتياغو حتى وإن كان ماركيز لا يؤكد لنا في أي صفحة من صفحات الرواية أن ابن إبراهيم نصار هو الفاعل حقاً. بل إن الأخوين القاتلين لا يبدوان في أية لحظة واثقين من أنه هو الفاعل بخاصة أن أنجيلا لا تعترف بمن تسبب في حالها. ولكن "استعادة شرف العائلة" كانت تتطلب مذنباً... والمذنب جاهز لا يحتاج الأمر لا إلى اعترافه ولا إلى إصدار أي حكم قضائي عليه. إن الحكم سيكون عائلياً مبرماً وما على المجتمع الصغير في القرية إلا الانصياع.
احتجاج اجتماعي
بل أكثر من هذا: التواطؤ... وذلك لأن الرواية تركّز أكثر ما تركز على اليوم الذي يتم فيه تنفيذ "الحكم" حيث سنجد الشاب سانتياغو مطارَداً من مكان إلى آخر وقد أُغلقت كل المنافذ في وجهه... ولم تعد حتى أمه قادرة على إنقاذه من القتل، هذا القتل المعلن كقدر لا مفر منه، قدرٌ يتجاوز كل بعد عقلاني... لأن المسألة تتعلق هنا بما يتجاوز العقلانية: "لا يسلم الشرف الرفيع هنا حتى يراق على جوانبه الدم"، كما يقول الشاعر العربي. والدم هنا إن لم "يُرق" ليلة دخلة أنجيلا، لا بد أن يراق في مكان آخر: من جثة سانتياغو. وهو أمر عرفته القرية كلها... ورضيت به القرية كلها، وسكتت عنه القرية كلها. وحده الراوي سيأتي بعد سنوات طويلة ليطرح السؤال مندهشاً... وليعرف الجواب وقد بات أكثر اندهاشاً... ولا سيما أن ماركيز يترك النهاية مفتوحة والحيرة أكبر: إنه يترك قارئه غير دارٍ بما إذا كان التوأمان قد قتلا الفتى عن قناعة حقيقية منهما، أو لأن القرية كانت تريد هذا، تريد قرباناً - ولو بريئاً - على مذبح "الشرف" الجماعي. والحال أن قوة الرواية، التي تخرجها من حدثيّتها و"عاديتها"، إنما تكمن ها هنا، عند هذه الفرضية التي تحوّل النص من رواية بوليسية تشويقية، إلى نص في الاحتجاج الاجتماعي يندد بطقوسية المجتمع وقسوته... وهو يبحث عن أي ضحية لمحو عارٍ مفترض - أو حقيقي -والحال أن غابريال غارسيا ماركيز تمكن في هذه الرواية البسيطة من أن يطرح العديد من الإشكالات الاجتماعية والفكرية، من دون أن يكتب نصاً معقداً مؤسلباً، وهذا ما مكّن السينمائي الكبير روزي تحويل النص إلى فيلم مميز أتى متماشياً مع سينماه التي كانت دائماً سينما الاحتجاج الاجتماعي.
نيسان ـ نشر في 2024-02-29 الساعة 08:01
رأي: إبراهيم العريس