اتصل بنا
 

ملوك أوديبور وشيوعيو كيرلا وصليب الهندوس المعقوف!

نيسان ـ نشر في 2024-02-29 الساعة 08:20

x
نيسان ـ حسام الدين محمد/ القدس العربي

«الزبون إله». بدا رفع هذا الشعار، على جدار خلف صندوق المحاسبة لمحل ملابس في مدينة كوتشين الهندية (الملقبة جوهرة البحر العربي!) جنب مجسّمات لآلهة هندوسية، نوعا من المفارقة الفكاهية. استثمر فيلم DUNKI «دنكي» (يمكن مشاهدته على نتفلكس) هذه المفارقة. يتسبب عامل بخروج زبونة لأنه قال لها الحقيقة. وحين يعاتبه مديره يقول: كيف نكذب على الإله؟
يبدو الشعار، الذي سنجده في محلات كثيرة، على تناقض مع الصورة، التي تحرص عليها أديان أخرى، مثل المسيحية والإسلام، في تقريظ الزهد والتقشف، لكن اتساقه مع المبدأ الثاني في العقيدة الهندوسية: الإثراء المادي، سيجعلنا نحسّ بهوة ثقافية ينبغي عبورها.
يوضّح الكاتب الهندي نيراد تشودري هذه المسألة بالقول إن الهندوسية لا تعرّف بتقاليدها الروحانية والفلسفية، بل باعتمادها على جانبها الدنيوي: أي بتركيزها على جني الثروة والحب وممارسة الواجب (المبدأ الأول في العقيدة) وأن القوة هي أحد الجوانب المهمة في الهندوسية، إذ يهتم معتنقوها بالسعي للحصول على مساعدة إلهية في حيازة هذه القوة واستخدامها لتحقيق المكاسب. قدّرت ثروة الهند في العام 1700 بـ 23% من ثروات العالم. احتلّ الإنكليز الهند عام 1858 وعند خروجهم منها كانت نسبة ثروة الهند العالمية قد هبطت إلى 3%.
غير أن غنى الهند، والسعي إلى الثروة باعتباره مطلبا إلهيا، يتّسع صعودا، مع عدد الآلهة الكبير، وعدد الأديان، واللغات، وأشكال اللباس المبهرة، والثقافات، واللغات، ونزولا إلى حقول الشاي البديعة، ومزارع التوابل الكثيرة، التي يتعدد استخدامها، في الأكل، والصحة البدنية، وفي التعبير عن الهوية، إذ تندرج الأطباق ضمن تسميات جغرافية ولغوية وذوقية، وفي أنواع الطبخ الكثيرة، وفي الرموز والأيقونات والصور والمجسمات. لا ينعكس الغنى قوة دائما، فالتنوع هو أرض صالحة لحرث الاختلافات أيضا.
في ضيافة المهارانا سنغ الثاني
كان عام استقلال الهند، 1947، هو أيضا عام كارثة التقسيم ومذابحه الطائفية، حين قرّر «الراج» (الحكم) البريطاني فرزها على أساس ديني، فانفصلت السند (باكستان) ذات الأغلبية المسلمة (ثم انفصلت عنها بنغلادش بعد حرب 1971) ويشكّل تضافر مفاعيل وقائع الاستعمار الطويل، والتقسيم، والإرث الأيديولوجي الخطير (حكاية العرق الآري) إطارا واسعا لتفسير مجمل ما يحدث في الهند اليوم.
معلوم، مع ذلك، أن الهند ما تزال وطنا لقرابة 11% من مسلمي العالم (14,2 من سكان الهند) وأن اللونين البرتقالي والأخضر في علم البلاد يرمزان للهندوس والمسلمين، لكنّ المتجول في نيو دلهي، سيلاحظ، بداية، عددا هائلا من صور رئيس الوزراء ناريندرا مودي، مع رئيس وزراء إقليم أوتار براديش، الذي يظهر دائما بثوب الهندوس البرتقالي (كورتا) والرابط هو احتفال الاثنين بعملية هدم مسجد وبناء معبد هندوسي فوقه للإله رام في كانون ثاني/يناير الماضي، وكان ذلك جزءا من حملة حزب مودي، بهاراتيا جاناتا، الذي يسعى لإعطاء الهند طابعا هندوسيا متزايدا، وإبعادها عن الحقبة العلمانية الطويلة، التي ميّزت حكمي جواهر لال نهرو وأنديرا غاندي، وهو ما يثير قلق المسلمين بشدة، وكذلك بعضا من الأقليات الإثنية والدينية واللغوية الكثيرة في الهند.
هبطنا، بعد دلهي، في أوديبور، مدينة البحيرات وإحدى أجمل حواضر راجستان، والتي سميّت على اسم أحد ملوكها، الماهارانا (أي ملك الهنود) أوداي سنغ الثاني، وقد نزلنا في المدينة في فندق أحد أحفاد هذه الأسرة الحاكمة (سابقا) فاتح بريكيش سنغ، والذي أقيمت فيه بعض فعاليات قمة العشرين الأخيرة، لتجتمع قداسة السلطة، مجددا، مع الزبائنية!
هناك وجدنا تلا مقدسا يصعد نحوه الزبائن بعربات أسلاك الكهرباء، وفيه مراكز فيها شعارات للهندوس، والسيخ، والمسلمين (الشيعة). كان واضحا، في أجواء المدينة، أن حمّى حزب بهاراتيا جاناتا اخترقت المكان، فارتفعت صور هانومان الإله القرد (الذي يبدو غاضبا) على سيارات التوك توك والمحلات وأماكن الصلاة، كنوع من إعلان السطوة الهندوسية دينا ولغة وقومية على باقي القوميات واللغات والأديان، وحتى على الهندوس من فئة الداليت (الذين لا يمكن لمسهم).
سريان وماركسيون ويهود!
سنلمس أثر نضال المنبوذين هؤلاء حين نزور مقاطعة كيرالا، حيث نزور مصنعا بدائيا لتنظيف الثياب، ينتصب فيه تمثال للدكتور بيمراو امبيكدار، الحقوقي والمناضل السياسي الذي رأس اللجنة، التي كتبت الدستور الهندي، المدافع العنيد عن المساواة ووقف التمييز ضد الداليت. في مواجهة سردية القومية الهندوسية لحزب بهاراتا (التي تواجه المسلمين بدعوى أنهم محتلّون) يواجه الداليت اضطهادهم بالقول إنهم أصحاب الأرض الأصليين وإن الآريين، الذين اجتاحوا الهند في حدود 1500 قبل الميلاد، هم المحتلون.
يحكم كيرالا حزب شيوعي منذ الخمسينيات، وكانت المنطقة التي نزلت فيها، ألابوتشا، مبتدأ انتشاره بعد انتفاضة للفقراء فيها، إثر مجاعة أودت بالآلاف. تصدّى فيها الديوان (مصطلح للحكومة المحلية مأخوذ من العربية) للمتظاهرين فقتل 400 منهم، وسجن الآلاف من أعضاء الحزب، بينهم رئيس وزراء كيرالا الحالي.
المفاجأة الثانية كانت اكتشاف وجود كنيسة سورية واسعة الانتشار في كيرالا تعود إلى القرن الأول الميلادي، وتعزى لوصول القديس مار توما إلى جنوب الهند عام 52 ميلادية. وتقول الأدبيات السريانية إن مجمع نيقية الأول منح بطريرك أنطاكية سلطة على مسيحيي الشرق كله بما فيه الهند. وفي عام 345 ميلادية ارتحلت من الرها إلى الهند 72 عائلة سريانية وأخذوا معهم كتب الطقوس السريانية التي استمرت تقاليدها حتى اليوم. تعرضت الكنيسة لانقسامات بعد الحكم البريطاني فساد فيها جناحان، أرثوذكسي وكاثوليكي.
سنعلم أيضا وجود طائفة قوية النفوذ من اليهود (وضع أحد الفنادق التي نزلنا فيها كتابا عنهم في صالة الاستقبال) ويبدو أن هؤلاء أضافوا إلى تراثهم الديني نظام الطبقات الهندوسي، فتمايز الباراديسيون (البيض) عن المالاباريين (السود) والماشوكاراريميون (السمار المائل للبني) ويقول الكتاب إن وجودهم يعود للقرن 14 الميلادي.
من تاتا إلى «العصر الذهبي»
لا يمكن لمقال عن الهند أن يتجاهل أقلية صغيرة جدا لكن نفوذها كبير جدا، وهي طائفة الزرادشتيين (يسمّون في الهند بارسيين نسبة إلى فارس – إيران) ورغم أنهم أقل من 60 ألفا فقد كنا حيثما حللنا في الهند نجد أثر أسرة تاتا، التي تنتسب لهذه الطائفة، من شركة الطيران، إلى ماركة تاتا للسيارات، إلى سلسلة الفنادق والمتاجر والإعلام والمدارس، وصولا إلى منتجاتها المنتشرة في 150 دولة، وقيمة شركاتها في العالم التي تعادل 370 مليار دولار.
يعبّر الهنود عن مظاهر التديّن والقوة والثروة عبر الأيقونات والرموز والاحتفالات في كل مكان. وقد أثار وجود الصليب المعقوف (الذي يدل على حسن الحظ في الميثولوجيا الهندوسية) في كثير من الأماكن عجبي، الذي تزايد مع معرفة أن حزب النازيين الألماني استعاره بعد شيوع فكرة رابطة الشعوب الآرية، التي تضم الهند، وإيران، والجرمان الأوروبيين بفروعهم المختلفة: الانكلوساكسون، والفرنسيون، والاسكندنافيون.
تقول كيم نوت، في كتابها «الهندوسية» إن المستعمرين البريطانيين درسوا النصوص السنسكريتية لتعضيد حكمهم، وإن استنتاجاتهم وجود انحدار مشترك للهنود والأوروبيين من أصول آرية نبيلة، وهي الفكرة التي شهدت ذروتها بصعود النازية، وإن هذا الرأي انتشر بين القوميين الهندوس، الذين تطلعوا إلى عودة «العصر الذهبي» للآريين (على طريقة إعادة ترامب أمريكا عظيمة!) وهذا الرابط يفسّر، من جهة، العلاقة بين ممارسات القوميين المتطرفين الهندوس والفكر الغربي الفاشي، ويفسّر، من جهة أخرى، هذا الاحتفال الكبير المستمر بالصليب المعقوف. الدين هنا هو عملة السياسة، والزبون هو الإله!
درس مستفاد: عليك أن تبتعد كثيرا في العالم حتى تعرف نفسك.

نيسان ـ نشر في 2024-02-29 الساعة 08:20

الكلمات الأكثر بحثاً