اتصل بنا
 

ذكرى تعريب قيادة الجيش العربي، قراءة في السياق والأبعاد الوطنية والقومية

أكاديمي أردني

نيسان ـ نشر في 2024-02-29 الساعة 21:49

نيسان ـ لم يكن قرار تعريب قيادة الجيش قرارًا إداريًا سياسيًا عاديًا، في مرحلة شهدت أحداث وتحولات غير عادية ومفصلية، بل كان من أهم القرارات الكبيرة والتاريخية التي اتخذها الراحل الملك حسين، بعد ثلاث سنوات من استلامه مهام الحكم، وبعد ست وعشرين عاما من تولي جون باغوت غلوب (1897 – 1986)، قيادة هذا الجيش، مع عدد من الضباط البريطانيين، بعد فريدريك بك باشا (1886 – 1970)، الذي شغل هذا الموقع بين عامي (1923 – 1939).
وكان قد حدث تحول كبير في بنية هذا الجيش؛ فبعد أن كان يعتمد في العشرينات على الفلاحين، أصبح قوامه الأساسي لاحقا من العشائر البدوية. وعشية الحرب العالمية الثانية وما بعدها كان أغلب الضباط الجدد الذي انضموا إلى صفوف الجيش من أصول حضرية، ما أحدث توازنا كميا بين الضباط من أصول بدوية، والضباط من أصول حضرية.
ورغم حصول الأردن على الاستقلال في عام 1946، فقد زادت صلاحيات غلوب، وتكرست من خلال معاهدة التحالف الأردنية البريطانية، والتي وقّعت في لندن بتاريخ 22 آذار 1946، وكانت بريطانيا بموجبها تقدم مساعدة مالية للأردن، أغلبها كان يخصص للجيش، وكانت توضع في حساب خاص للجيش، ولم تدرج ضمن موازنة الحكومة.
السياسة والجيش
وبالرغم من قدرة الجيش العربي على الاحتفاظ بالضفة الغربية والقدس، خلال الحرب العربية – الإسرائيلية الأولى 1948، وخوضه معارك بطولية، في ظل ظروف غير مواتية سياسيا وعسكريا وعربيا، إلا أن قيام اسرائيل على أجزاء من فلسطين، شكّل صدمة لقطعات هذا الجيش والضباط الأردنيين، وأثار نقاشا كبيرًا، حول استراتيجية غلوب خلال الحرب.
كما أدت هزيمة الأنظمة العربية، وما تلاها من موجات المدّ القومي والوطني، والذي برز بعد صعود قيادة جمال عبد الناصر، ومشروعه القومي، الذي ارتكز في خطابه الأساسي إلى الوحدة، ومقاومة الاستعمار ومشاريعه، والتصدي للمشروع الصهيوني، إلى تعميق فكرة ومشروع استكمال الاستقلال الوطني، والتخلص من القيادة البريطانية.
تحول هذا التقييم إلى نشاط سياسي شبه منظم لأكثر من مجموعة من الضباط، تحمل أهدافا متداخلة؛ كان أهمها تعريب قيادة الجيش، وتخليصه من الهيمنة البريطانية، فكان ذلك مقدمة لبروز ما عرف ب " التنظيم السري للضباط الوطنيين"، الذي ما لبث أن غير اسمه إلى "الضباط الأحرار الأردنيين".
تمثلت النواة الأساسية لهذا التنظيم بعدد من الضباط، كان من أبرزهم: شاهر ابو شاحوت، محمود المعايطة ، نذير رشيد، وضافي الجمعاني. وكان من أبرز سمات هذه الحركة؛ انحدار أغلبية قياداتها من خلفيات فلاحية – حضرية، فيما انحازت غالبية الضباط من أصول بدوية إلى السلطة القائمة، باستثناء عدد قليل، أمثال: نايف الحديد، وسلامة عتًيّق.
كما كانت الحركة، خليطا من الميول الفلّاحية الوطنية، والعمل الحزبي المنظّم، فمن ضباط حزب البعث على سبيل المثال: محمود المعايطة، ضافي الجمعاني، شاهر ابو شاحوت، في حين كان سامح البطاينة ينتمي لحركة القوميين العرب، إضافة إلى عدد من الضباط المقربين من اليسار، أمثال : محمود العبيدات، بالإضافة إلى الضبّاط الناصريين.
الملك غير المتوّج
كانت الحالة الوطنية السياسية في أوجها أنذاك؛ فقد تصدرت برامج وبيانات الأحزاب السياسية كالبعث والشيوعي وحركة القوميين العرب، والاخوان والتحرير، والحزب الوطني الاشتراكي، مطالبات بضرورة تعريب قيادة الجيش، وضرب النفوذ الاستعماري البريطاني في الأردن.
كان غلوب يستخدم الجيش لغايات سياسية، وخاصة في الانتخابات النيابية، وكان قانون الانتخاب يسمح للجيش بالتصويت في ثكناته، وتوجيهه للتصويت لمرشحي الحكومة، وتزوير الانتخابات، واسقاط المعارضين، فكان مصير المرشحين بين يديه، من خلال الإيعاز إلى الضباط بالاقتراع لمصلحة المرشحين الذين يختارهم، وكانت نتائج الاقتراع تصل اليه فيبلغها بدوره إلى الحكومة. كما حصل في انتخابات عام 1954، والتي تسببت في مقتل وجرح العشرات، كرد فعل على التزوير.
كما كان غلوب بنظر الشعب والأحزاب عنصرا أساسيا في النخبة السياسية الأردنية المؤثرة، ومن أعمدة الحكم في الأردن، التي لايمكن تجاوزها. ولعب دورا كبيرا في محاولة الترويج لحلف بغداد، وضم الأردن إليه، ما زاد من حدة النقمة السياسية عليه، وأسهم في إضعاف صورة النظام السياسي داخليا وخارجيا.
ضمن هذه المعطيات قرر الملك حسين التخلص من غلوب، الذي لم يكن على علاقة جيدة معه، كما ورد في مذكراته، ولاستعادة شعبية النظام، وتأكيد الامساك بزمام الأمور.
العملية دنلوب
لم يكن قرار التعريب بدون مخاطر؛ فقد طرح الضباط الأحرار وآخرين كالشريف زيد بن شاكر(1934 – 2002) إمكانية أن تحرك بريطانيا قواتها في الأردن لإرجاع غلوب بالقوة، وأن يتحرك قادة بريطانيون وبعض الضباط الموالين لغلوب، للقيام بعملية عسكرية لإعادته. وفي ضوء ذلك وضعت خطة عسكرية محكمة، بالاتفاق بين الملك حسين وتنظيم الضباط الأحرار، تقوم على تطويق معسكرات الوحدات البريطانية وقصفها عند الضرورة، واحتجاز القادة البريطانيين في الجيش، ومحاصرة وحدات عسكرية معروفة بولائها لغلوب. وقد أطلق على هذه العملية اسم "دنلوب". وهو اسم لولاعة كان يحملها محمود المعايطة، إلا أن العملية تمت بسهولة.
في صباح يوم 1 آذار 1956 وصل الملك حسين مع رئيس وزرائه سمير الرفاعي (1901 – 1965) الى مكتبه، وهناك أخرج من جيبه ورقة سلمها إلى الرفاعي قائلا :"هذا أمر ملكي وأريد تنفيذه على الفور". وكان الأمر ينص على :" قررنا انهاء خدمة الفريق السير "جون باجوت غلوب" باشا ابتداء من هذه اللحظة، وعليه أن يغادر البلاد فورا"، ثم غادر الملك مقر رئاسة الوزراء.

ردود الفعل
طلب سمير الرفاعي استدعاء وزير الدفاع فلاح المدادحة، وأخطره بالأمر الملكي، ثم طلب دعوة غلوب لمقابلته، حيث أبلغه بالقرار. خرج غلوب من مكتب رئيس الوزراء متوجها إلى السفارة البريطانية لمقابلة السفير، وإعلامه بما جرى. وبعد استعراض لكل التطورات طرح السفير تشارلز جونستون( صاحب كتاب الأردن على الحافة) تساؤلا ألح عليه: "من تظنه وراء هذا الأمر أو على علم مسبق به : المصريون أو غيرهم؟ هل تظن أنّ اصدقائنا الأمريكان على علم بهذا الموضوع؟
جلس السفير البريطاني يكتب برقية إلى وزارة الخارجية في لندن التي وقع عليها النبأ وقع الصاعقة، وأسرع السفير عند منتصف الليل برسالة من انتوني ايدن، رئيس الحكومة البريطاني إلى الملك يقول فيها مهددا :" إنّ العواقب ستكون وخيمة جدا عليك شخصيا وعلى الملكية، وعلى مستقبل الأردن كله".
تضمن قرار مجلس الوزراء رقم ()198 ما يلي:
1- إنهاء خدمات الفريق غلوب من منصب رئيس أركان الجيش العربي الأردني.
2- ترقية العقيد راضي عناب إلى رتبة لواء، وتعيينه بمنصب رئيس أركان الجيش العربي الأردني.
3- إنهاء خدمة العقيد (وليم هاتون) مدير دائرة الخدمات.
4- إنهاء خدمة العقيد (باتريك كوجهل) رئيس دائرة الاستخبارات العسكرية.
في الأسباب
وحول الدوافع التي حدت بالملك حسين لاتخاذ هذا القرار، يقول رحمه الله :" لقد كان السبب الرئيسي في عزل غلوب يقوم على عدم التفاهم بيننا، وعلى خلافنا حول مسألتين جوهريتين هما: دور الضباط العرب في جيشنا، واستراتيجيته الدفاعية، فأحد واجباتي كملك هو تحقيق الأمن لشعبي وبلادي، لو لم أقم باستبداله لما كنت قد مارست أعباء مسؤولياتي، إنّ ما تم كان من الواجب أن يتم ... لقد كنت وغلوب مختلفين تمام الاختلاف حول موضوع أساسي؛ فقد كنت أرغب في ترفيع الضباط الأردنيين إلى المناصب العليا في الجيش، وفي أن يتولى قيادته طبقا لخطة واقعية... وقد كان عليّ أن أعطي الأردنيين مزيدا من المسؤوليات، وكان وجود غلوب يقف عائقا أمامي دون تحقيق ذلك ... وقد أصبح غلوب أحد الرجال الأوسع سلطة في البلاد".
وفي رده على استيضاح السفير البريطاني في عمان حول الأسباب التي حملت الملك على اتخاذ مثل هذا القرار، أشار الملك حسين إلى الجهود التي بذلها للدفاع عن غلوب ضد الدعاية المصرية، ولكنه لم يظهر أي تعاون معه لتفادي مثل هذه الدعاية، لذا كان لابد من القيام بما هو ضروري لشرف الأردن وسلامته. وفي حديث آخر عبر عن شعوره بقوله :" طالما بقي غلوب في القيادة بالأردن، فإن كل حكومة أردنية سوف تستشيره أو تستشير السفارة البريطانية قبل ملكها عندما تواجه بقرار سياسي هام".
كما كان الملك حسين يشعر بالحرج لكون رئيس أركان جيشه أجنبيا، ويزعجه أن تذكر الدعايات في الخارج والداخل أنّ غلوب هو السيد المطلق، أو الحاكم الفعلي والدكتاتور في الأردن.
حقيقة الدور المصري
اتهمت بريطانيا عبد الناصر أنه وراء هذه العملية. وكان (سلوين لويد) وزير الخارجية البريطاني قد وصل القاهرة في بداية آذار، ولم يكن لدى أحد علم بما كان يجري في نفس الوقت في عمان. وعندما علم بالقرار اعتقد لويد أنّ عبد الناصر كان على علم به، وأنه رتب ذلك بحيث يتوافق مع يوم وجوده في القاهرة.
وكان عبد الناصر قد أخبر الوزير البريطاني في أول اجتماع لهما، بأن أيام غلوب في الأردن باتت معدودة، الأمر الذي رجّح قناعته بأنّ عبد الناصر رتّب موعد الاستغناء عن غلوب بحيث يتوافق مع موعد زيارته للقاهرة، امعانا في إهانته وإهانة الحكومة البريطانية.
هاجمت الصحافة البريطانية عبد الناصر بشدة، وقام غلوب بدور في ذلك. وبينما شنت الصحافة المصرية حملتها على بريطانيا، مدحت الملك حسين وأشادت بقراره.
تداعيات القرار وطنيًا
أثار قرار التعريب ردود فعل إيجابية على الصعيد المحلي؛ فقد شهدت البلاد مظاهرات طلابية اشتركت فيها الأحزاب السياسية في الأردن، وأخذت تهتف ضد حلف بغداد والاستعمار، أما الصحف الاردنية فقد تصدر صفحاتها في الأيام الثلاث التالية ليوم الاعفاء، وبعناوين بارزة أخبار الحدث، وقيام المظاهرات، ثم تعليقات وافتتاحيات تشيد بموقف الملك حسين، وتشكره على قراره التاريخي.
كما بدأ دور القوى والأحزاب الوطنية يتعاظم في الأردن، وتم الإفراج عن المعتقلين السياسيين، وإيقاف محطة التشويش على إذاعة صوت العرب، وإلغاء قانون الإشراف على البدو؛ لان غلوب كان هو المشرف الحقيقي على قوات البادية.
ردود الفعل العربية
على المستوى العربي كانت ردود الفعل إيجابية وفورية، وخاصة في مصر وسوريا والسعودية، وزادت هذه الخطوة من التقارب العربي؛ فقد عقد عبد الناصر، والرئيس السوري شكري القوتلي، والملك سعود بن عبد العزيز، مؤتمرا في القاهرة، صدر عنه بيان جاء فيه :" تم الاتفاق على التأييد الكامل للأردن ومساندته ضد أي ضغط أجنبي، أو أي عدوان صهيوني، بما يكفل للشعب الاردني الباسل تحقيق غايته، وقد اتصل المؤتمر بحضرة صاحب الجلالة الملك حسين ملك المملكة الأردنية الهاشمية لإبلاغه بذلك، وتأييد ما سبق الإعراب عنه من الاستعداد التام الأكيد بمعاونة الاردن والوقوف بجانبه".
وها هي الذكرى الثامنة والستين، لتعريب قيادة الجيش العربي تحل علينا، في ظروف عصيبة، وتحديات استثنائية، ورهان كبير على وعي الأردنيين لخطورة ما يجري، وخاصة في فلسطين، وموقف القيادة السياسية المتقدّم، من الأحداث، ودور الجيش العربي الميداني، درع الوطن، وسياجه المنيع، الحاضر دومًا، والمتأهب بجهوزية عالية لصد شر العاديات، فتحية فخر واعتزاز لهذا الجيش وقيادته، وكل عام وأنتم والوطن والأمة بأفضل حال.

نيسان ـ نشر في 2024-02-29 الساعة 21:49


رأي: د. فيصل الغويين أكاديمي أردني

الكلمات الأكثر بحثاً