اتصل بنا
 

اكتئاب الحرب: ماذا سيبقى من الثقافة العربية بعد مأساة غزة؟

نيسان ـ نشر في 2024-03-01 الساعة 08:34

x
نيسان ـ عرفت الثقافة العربية المعاصرة صدمتين كبيرتين، مرتبطتين بأحداث حربية كبيرة، دفعتا الناس إلى مراجعة كثير من أفكارهم وقيمهم وخطاباتهم، الأولى كانت صدمة «النكسة» عام 1967، التي خلّفت أدبيات كثيرة في «النقد الذاتي»؛ والأخرى حرب الخليج الثانية، وما تبعها من آثار، وصلت إلى سقوط بغداد، بعد أكثر من عقد من الزمن.
هذان الحدثان لم يخلّفا صدمة بسبب تبعاتهما الإنسانية والمادية فحسب، وإنما بسبب شعور عام بعدم القدرة على فهم العالم بعدهما: كيف هُزمت ثلاث دول عربية، على رأسها مصر، بهذه البساطة؟ وكيف يحتل نظام قومي بلداً عربياً آخر، ثم نتحالف جميعاً مع الأمريكيين ضده، فندمّر العراق؟
صُدم مواطنو الدول العربية بالطبع بأحداث أخرى كثيرة، منها اتفاقية كامب ديفيد، وحصار بيروت، وكذلك «الربيع العربي» وما تبعه من اضطرابات وحروب أهلية، لكنهم نجحوا في الحفاظ على شيء من المعنى، ضمن أطرهم الثقافية المترسخة، ففسّروا الأحداث بوصفها خيانات أو مؤامرات أو حتى «فِتَن» وازداد تمسّك كثير منهم بأفكار مثل المقاومة و»الصمود» والحفاظ على الدولة من الانهيار. الحدثان المذكوران بالتحديد كانا الخروج المقلق من المعنى، الذي سبّب حالة اكتئاب جماعي عميق ومديد، تذكرها جيداً الأجيال التي عاصرتها.
قد تصبح مأساة غزة، التي نشهدها اليوم، الحدث الثالث المخلخل للثقافة العربية، وربما بشكل أكبر من الحدثين السابقين. هذه المرة لا نواجه فحسب أعمالاً عسكرية قاسية النتائج، وحرب إبادة جماعية، راح ضحيتها عشرات الآلاف، وإنما أيضاً هزّة كبيرة لتصوراتنا عن آخر قضية، يُجمع عليها معظم العرب، بعد كل ما حلّ بهم في العقدين الأخيرين.
كان يمكن للناس، في دول عربية تعاني الويلات، الهتاف لأجل فلسطين، حتى وهم يواجهون الجوع والقتل وأبشع أشكال العنف. وما يزالون يهتفون حتى اليوم، إلا أن شيئاً ما لم يعد كما كان، وغالباً لن يعود أبداً كما كان. لقد اختبر ما تبقّى من الأيديولوجيا العربية المعاصرة، على اختلاف تياراته، كل مقولاته في هذه الحرب، ووضعها على المحك. وليست صور النازحين الغزّيين في رفح، الذين تتصايح حولهم «نخب» عن المقاومة والنصر، أفضل طريقة لمنح البشر المعنى والدلالة. المشهد قاسٍ، وفقدان الثقة قد يكون شاملاً، وغالباً ستتصاعد بشدة حالة من التهكّم السوداوي، والتجديف العلني بكل القيم، لن تنفع معها محاولات القائمين على شبكات الثقافة المعاصرة، لإعادة عالمنا الرمزي كما كان.
لكنْ، ألا يمكن أن تؤدي حالة اكتئاب الحرب هذه إلى كثير من العدميّة؟ ماذا سيجد الناس إذا خرجوا من آخر ما يمنحهم الأمل والمعنى والعزاء؟
الحلف الأخير
يمكن القول إن حالة الحماس تجاه ما اعتُبر مقاومة فلسطينية، جمعت أطرافاً كان من المستغرب، حتى وقت قريب، أن تتفق على شيء. فبعد الحرب السورية مثلاً، لم يتصوّر أحد أن الإسلاميين الأقرب لتنويعات فكر الإخوان المسلمين، يمكن أن يعودوا للتضامن مع أنصار «الممانعة» الموالين لإيران وميليشياتها. من جهة أخرى كان الحضور المستجد نسبياً لخطاب «المنظمات غير الحكومية» بما فيه من تأييد لأنماط معينة من النسوية، وحقوق المثليين، قد فتح جبهات صراع مع قوى سياسية واجتماعية متعددة، وتدخّلت فيه حكومات دول. ذلك الخطاب «الجديد» نفسه لم يخل من انقسامات، فأمكن رصد أصوات «ناشطية يسارية» تتهم البقية بـ»الليبرالية» أو تطبيق أجندات الممولين الخارجيين. أما بقايا «اليسار العربي» التقليدي، فانحازت أحياناً للخطاب «الناشطي» وهاجمته بعنف في أحيان أخرى، بالاشتراك مع الإسلاميين. كل هذا النزاع دار على خريطة سياسية فقيرة فعلياً، رغم تعقيدها، فمآلات ما سُمي «الموجة الثانية من الربيع العربي» أي انتفاضات السودان والعراق ولبنان والجزائر، كشفت بوضوح انسداد الأفق السياسي، والعجز الاجتماعي والفكري عن طرح أي حلول، تقي من الانهيارات الشاملة، التي تشهدها المنطقة.
بدت عملية «طوفان الأقصى» أقرب لعودة إلى «المدرسة القديمة». وسط كل هذا التشوّش، هنا يوجد قضية لا يمكن التشكيك في عدالتها؛ عدو واضح وضحية تامّة؛ وتراث مترسّخ من تقديس العمل الفدائي. أي ثلاثة منطلقات أساسية في الخطابات العربية المعاصرة: المطلق؛ النظرة للذات والآخر؛ مفاهيم السياسة المشتقة من منظور التحرر الوطني. بالتالي فإن ما أعادت العملية طرحه ليس القضية الفلسطينية فقط، بل الثقافة العربية التي نعرفها، بمنظومتها القيمية، ومقولاتها العامة، ومسلّماتها التأسيسية، إلى درجة أن كثيرين كانوا مستعدين لتجاوز اختلافهم العقائدي والطائفي والفكري، مع منفذي العملية وخطابهم، مادام يحيل بشكل مباشر وقوي إلى تلك المنظومة ومسلّماتها. ورغم ما أنذرت به حرب غزة من وقائع قاسية، فقد كانت فعلياً عودة لمساحة مفاهيمية آمنة، فضلاً عن كونها ثرية بالرموز والعلامات، القادرة على التحفيز الانفعالي والعاطفي لجمهور واسع.
ربما كانت أنظمة الثقافة العربية مهددة بالتبدّد، مع انهيار كثير من مؤسسات التحضّر في دول مختلفة، وجاءت «طوفان الأقصى» لتعيد إحياء كل ما نظن أنه صحيح ومُحق وحَسَن، وكذلك العبارات المترسّخة في أعماقنا. يبدو أيضاً أن منظور «نزع الاستعمار» المعاصر، إضافة إلى شبكات معقدة من العمل الإغاثي و»المدني» كانوا قادرين على ربط خطاب «الفئات الجديدة» بمَنْ فيها كثير من «راديكاليي» النسوية والمثلية، بمسلّمات الخطاب القومي/الإسلامي العربي. كل هذا لافت بشدة، لكنه مقلق.
ينبع القلق أساساً من أن التعاطي مع مسألة بحساسية حرب غزة أتى من منظور استعادي. بمعنى أن حرباً، توضّحَ منذ ساعاتها الأولى أنها قد تودي بحياة عشرات آلاف البشر، نُظر إليها من زاوية تأكيد «حق الأمة» واسترجاعه كاملاً، وليس ابتكار خطط وحلول لأوضاع مركّبة ومستجدة. ربما كانت مقاومة الاحتلال الحربَ الأعدل، حسب الأفق المفاهيمي للثقافة العربية، بل حتى لليسار العالمي المعادي للإمبريالية، إلا أن مقاومةً، وكتلاً بشرية واسعة مؤيدة لها، ونخباً ملتزمة، لا تهتم بتوضيح منظور سياسي وعسكري لحربها سوى «الاستعادة» قد تخسر «الأمة» نفسها، التي تقاتل لأجلها.
قفزة نحو المعلوم
هنالك سبب إضافي للقلق: عانت كل الأيديولوجيات العربية السائدة، إبان «الربيع العربي» وبعده، من حالة فشل عام، سواء في توصيف الوضع القائم في دولها، أو في ابتكار أي حلول سياسية وتنظيمية وفكرية، أو حتى في الحفاظ على الحد الأدنى من التقليد المتحضّر في دول ومجتمعات منهارة. وبالتالي فربما كان التصرّف الأكثر منطقية هو طرح أسئلة جديّة وصعبة عن المسلّمات الأساسية، تقوم، بشكل مبدئي، بنزع طبيعية كل ما نراه «طبيعياً»؛ وتودي، بطريق مستقيم، إلى التشكيك في البنى الأساسية لنموذج الدولة العربية الحديثة، وأساطيرها المؤسِّسة، ومنظوراتها عن «الشعب» و»الأمة» والتاريخ والثقافة والتحرر الوطني، إلا أن كل هذا لم يتم، وبدت الثقافة العربية عاجزة عن طرح الأسئلة على نفسها، وتجريب أشياء جديدة، رغم الفشل المتكرر في كل المجالات.
حرب غزة كانت على ما يبدو فرصة ممتازة لتجنّب الأسئلة، والتهرّب من الخوض في الأفق المجهول، الذي تفتحه. فكانت الحرب أقرب لقفزة نحو المعلوم، إن صح التعبير. إلا أنه، للأسف، «معلوم» أكثر من اللازم: هنالك القيم التي نعرفها، الأمل بنصر أقرب للإلهي، ثم كثير من الخراب. هذه المرة الخراب أكبر من أن نستوعبه، على كل المستويات الإنسانية والسياسية. ربما هذا وحده ما سيكسر «المعلوم» الذي نصرّ على حصر أنفسنا فيه.
دائرة الاكتئاب
سيصعب على كثير من الناس في العالم العربي فهم ما حلّ بهم فعلاً. لقد تحمّسوا كثيراً لما رأوا أنه الصواب، والطريق الوحيد للعدالة، لكن النتيجة جاءت معاكسة لتوقعاتهم. وربما قد يؤدي هذا إلى نوع من الشك، غير المنهجي، في كل شيء، في فضاء سياسي وثقافي، لا يحوي أي طرح مغاير لما خيّب آمالهم.
في ظرف مثل هذا قد تؤدي محاولات ترميم القيم والمسلّمات القديمة إلى مزيد من الاكتئاب، بين الأعداد المتزايدة ممن يشعرون بالخسارة؛ كما إن الاكتفاء بندب قسوة «العالم» ووحشية العدو، ولامبالاة الآخرين، لن يفسّر وحده بالتأكيد كيف وصلنا إلى هنا؛ كما لا يمكن أن تُبنى ثقافة كاملة على نسبة كل ظاهرة وحالة إلى «خارج» لا يكفّ عن هزيمتنا وتدميرنا واضطهادنا.
ربما سيوجّه كثيرون خيبتهم إلى «الداخل» ليس على سبيل «جلد الذات» أو غيره من المقولات/الاتهامات، التي باتت مبتذلة، بل لفهم هذا «الداخل» فعلاً، وكيف يتركنا دائماً تحت رحمة العدو. قد يؤدي هذا إلى تأسيس ذات جمعية جديدة؛ أو على العكس: تفكيك الوحدة المصطنعة لما نظنه «نحن».
في كل الأحوال لا بأس من التفكير في مبدأ معروف، لكنه قد يكون من «مجهولات» الثقافة العربية: المحاسبة. وليس المقصود به هنا المحاسبة السياسية أو القضائية لمسؤولين عن المأساة، فهذا ليس متاحاً، وإنما محاسبة ذلك «المعلوم» الذي قفزنا إليه، ومَنْ أصرّوا على أنه الحتمي والطبيعي والبديهي.
محمد سامي الكيال/كاتب سوري

نيسان ـ نشر في 2024-03-01 الساعة 08:34

الكلمات الأكثر بحثاً