(الهيشي )
محمد المحيسن
كاتب وصحافي أردني
نيسان ـ نشر في 2024-05-30 الساعة 20:15
نيسان ـ
محمد محيسن
بدا ابو عدنان مبتسما على غير العادة وهو يجلس على عتبة البيت مراقبا العمال وهم في طريقهم الى السوق لالتقاط أرزاقهم، فقد انتهى توا من لف عشر سكاير "هيشي " احتياطية وضعها في علبة السجائر النحاسية التي كان يحتفظ بها من الخليل ، فقد رافقته العلبة سنوات .
لم اعرف سر هذه العلبة، ولكنه كان مصرا على ان للدخان طعم يجعله ينسى همومة المتراكمة منذ ان فقد قريته في عام 1948 وبعد ان عبر النهر شرقا باتجاه المجهول .
ابو غازي الجار الجديد الذي نتهى توا من الخدمة في الجيش مداعبا ابا عدنان .
يا مختار ما بدك تترك هـ الدخان ..
يضحك ابو عدان صدقني يا جار وما عليك سر كنت ناوي ابطلوا ، لا بل حلفت يمين ان اتركوا ، الى غير رجعة .. لقد كان هذا منذ سنوات قليلة سبقت "النكسة" .
ابو غازي.. وهو يشعر بقليل من التراجع قصدق الهزيمة.. ثم تنهد بصوت مرتفع ، اه ما اصعبها من ايام كنا نعتقد ان اليهود لن يصمدوا امام الجيوش العربية الا اياما ولكن ما حدث كان فاجعة ، نعم كانت مصيبة ...
ابو عدانان بعد ان اطلق تعليمات حادة لام عدانان صبي لجارنا كباية شاي ، ولا تنسي " اضافة الميرمية" وزودي السكر .
سمها ما شأت .. حرب الايام الستة الهزيمة النكسة المصيبة ، المهم كنت ناوي ابطلوا ..
ابو غازي يكرر السؤال بعد ان رشف رشفة خفيفة من كاسة الشاي محاولا التخفيف من حرارتها "طيب" شايفك بتعج على السكارة وكانها (امراة فاتنة او حبة ملبس)..
ابو عدنان بعد ان اطلق ضحكته المجلجلة تبعها باتسامة لا يخفى منها ملامح حزن عميق ، وكانه تذكر الماضي وتلك الايام العجاف بكل تفاصيلها المؤلمة ، تذكر ضربات الشمس الحارق في الغور التي شعر بها وهو يحاول عبور النهر ، وتذكر قدمية اللتان تورمتا عندما اضطر للمشي سيرا على الاقدام ايام قبل للوصول الى مخيم العروب الذي تقبع به عائلته بانتظار الفرج ، وتذكر اثار الرصاص الذي حفر عميقا في الجدار وكاد ان يثقبه، فقد كان اليهود على عتبات المخيم بينما كانت الجيوش العربية تلملم عتادها البالي وتنسحب تاركة القرى والمدن دون معيل ودون حماية، الاهم من هذا وذاك تذكر مشاركة اهل قريته عراق المنشية الجيش المصري عام ال، 1948 عام النكبة الذي صمد امام العصابات الصهيونية ، وكيف استطاعت اعداد قليلة من المقاومين التغلب على جيش بكامل عتادة بل وقتل العشرات منهم الا ان السياسة والمفاوضات اضاعت القرية وسلمتها لليهود دون سبب معروف .
وتسائل في قراراة نفسه لماذا حمل اطفاله وذويه على ظهره وسعى في الأرض بحثاً عن مأمن؟ وما الذي اقترفه في عصر يكافأ به الكاذبون على ما كذبوا، والسارقون على ما سلبوه.
كل هذه الذكريات المؤلمة لم توقفه عن الابتسامة فقد استطاع اخيرا الحصول على ورشة بناء لابو على البدوي الذي قرر ان يعمر غرفة اضافية لابنه كي يزوجه .. وهذا يعني انه سيحصل على مبلغ من المال ، لكي يساهم في نفقات البييت المتراكمة والتي تزداد يوما بعد يوم .
ايام صعبة تلك التي مضت عقب حرب 67 وما تلاها من احداث فرقت بين المرء واخيه وكادت ان تعصف بكل شيئ لولا لطف الله .. فقد كانت تلك الحرب اللعينة مقدمة للكثير من الهزائم لحقتها تباعا ، فبعض الهزائم لا تكون ساحقة فقط، بل فاحشة يمارس من خلالها الغالب “ساديته”، وبالتالي يفرض على المغلوب أن ينتشي بهزيمته ويتعود عليها حتى تصبح امرا روتنينيا بعد ان استمرئ المهزوم الألم. فلا يجد وسيلة للتعبير الا بالانقلاب على الذات . اما الأبعاد الحقيقية لنتائج هذه الحقبة المريرة فقد ابقت جذور الهزيمة تعشش تحت السطح . فقد عنت لهم تلك السنوات القليلة وغيره من ابناء جيله عمرا كاملا من الأشواق التي طمست حيناً، وكظمت حينا آخر، لكنها لم تنطفئ لأن الجمرة في عمق الذاكرة، ومدقوق على نواصي القلب، محفور بين تجاعيد الوجوه التي حملت ذل الغربة وهموم التنقل.
ابو غازي مغيرا مجرى الحديث ( كنت في طريق الى السوق ) حتى استوقفتني رائحة الدخان فقلت في نفسي "شكل المختار "مدوزنة معو الامور" .
اخرج ابو عدنان سيجارة من علبته النحاسية وقدمها لابو غازي الذي تردد كثيرا قبل ان ياخذها فهو يعاني من الأم في الصدر رافقته خلال حياته العسكرية الصعبة ، ولما اشعل "السيكارة" وشعر بتلك المتعة والدوار المصاحب لسيجارة الصباح ، قال بتصدق ان لها طعم يذكرني برائحة البارود وشياء اخرى تمنينت ان تستمر لاطول مدة ولكن هذا التمني وهذه الرعبة توقفت بسرعة عقب النكسة ، لم يعد لي رغبة في اي شيء .
ابو عدنان وهو يحاول ان يلملم اطراف الحديث ربما خوفا من الوقوع في المحذور ، فقد بدا علية اللطف رغم ضخامة جسده الذي اكتسبة من العمل في "الباطون" وصوته الاجش وقوته البدنية التي اكتسب على اثرها لقب "مختار الحارة" ..
كنت ناوي ابطل الدخان فهو ملعون ويرهقني وكاد ان يدخلني الى المستشفى في احد المرات ، كان ذلك قبل "النكسة" وفعلا استطعت ان تركه برهة ، ولكن الحرب والظروف القاسية التي صاحبتها جعلتني اعود اليه بل واقسمت يمنيا غليظا ان لا اتركه فهوي الرفيق في الغضب ، والصديق عند الملل، والمؤنس في في الليل وعندما يجافيك النوم ، وبيني وبينك "بفش الغل" .
وقبل ان ينهي ابو عدنا وصفة الدقيق للدخان ، اقبل حسام ابن المختار جالبا معه المعول والفاس والشاكوش ايذنا ببدأ مشوار العمل الذي يستمر حتى مغيب الشمس .....
محمد محيسن
بدا ابو عدنان مبتسما على غير العادة وهو يجلس على عتبة البيت مراقبا العمال وهم في طريقهم الى السوق لالتقاط أرزاقهم، فقد انتهى توا من لف عشر سكاير "هيشي " احتياطية وضعها في علبة السجائر النحاسية التي كان يحتفظ بها من الخليل ، فقد رافقته العلبة سنوات .
لم اعرف سر هذه العلبة، ولكنه كان مصرا على ان للدخان طعم يجعله ينسى همومة المتراكمة منذ ان فقد قريته في عام 1948 وبعد ان عبر النهر شرقا باتجاه المجهول .
ابو غازي الجار الجديد الذي نتهى توا من الخدمة في الجيش مداعبا ابا عدنان .
يا مختار ما بدك تترك هـ الدخان ..
يضحك ابو عدان صدقني يا جار وما عليك سر كنت ناوي ابطلوا ، لا بل حلفت يمين ان اتركوا ، الى غير رجعة .. لقد كان هذا منذ سنوات قليلة سبقت "النكسة" .
ابو غازي.. وهو يشعر بقليل من التراجع قصدق الهزيمة.. ثم تنهد بصوت مرتفع ، اه ما اصعبها من ايام كنا نعتقد ان اليهود لن يصمدوا امام الجيوش العربية الا اياما ولكن ما حدث كان فاجعة ، نعم كانت مصيبة ...
ابو عدانان بعد ان اطلق تعليمات حادة لام عدانان صبي لجارنا كباية شاي ، ولا تنسي " اضافة الميرمية" وزودي السكر .
سمها ما شأت .. حرب الايام الستة الهزيمة النكسة المصيبة ، المهم كنت ناوي ابطلوا ..
ابو غازي يكرر السؤال بعد ان رشف رشفة خفيفة من كاسة الشاي محاولا التخفيف من حرارتها "طيب" شايفك بتعج على السكارة وكانها (امراة فاتنة او حبة ملبس)..
ابو عدنان بعد ان اطلق ضحكته المجلجلة تبعها باتسامة لا يخفى منها ملامح حزن عميق ، وكانه تذكر الماضي وتلك الايام العجاف بكل تفاصيلها المؤلمة ، تذكر ضربات الشمس الحارق في الغور التي شعر بها وهو يحاول عبور النهر ، وتذكر قدمية اللتان تورمتا عندما اضطر للمشي سيرا على الاقدام ايام قبل للوصول الى مخيم العروب الذي تقبع به عائلته بانتظار الفرج ، وتذكر اثار الرصاص الذي حفر عميقا في الجدار وكاد ان يثقبه، فقد كان اليهود على عتبات المخيم بينما كانت الجيوش العربية تلملم عتادها البالي وتنسحب تاركة القرى والمدن دون معيل ودون حماية، الاهم من هذا وذاك تذكر مشاركة اهل قريته عراق المنشية الجيش المصري عام ال، 1948 عام النكبة الذي صمد امام العصابات الصهيونية ، وكيف استطاعت اعداد قليلة من المقاومين التغلب على جيش بكامل عتادة بل وقتل العشرات منهم الا ان السياسة والمفاوضات اضاعت القرية وسلمتها لليهود دون سبب معروف .
وتسائل في قراراة نفسه لماذا حمل اطفاله وذويه على ظهره وسعى في الأرض بحثاً عن مأمن؟ وما الذي اقترفه في عصر يكافأ به الكاذبون على ما كذبوا، والسارقون على ما سلبوه.
كل هذه الذكريات المؤلمة لم توقفه عن الابتسامة فقد استطاع اخيرا الحصول على ورشة بناء لابو على البدوي الذي قرر ان يعمر غرفة اضافية لابنه كي يزوجه .. وهذا يعني انه سيحصل على مبلغ من المال ، لكي يساهم في نفقات البييت المتراكمة والتي تزداد يوما بعد يوم .
ايام صعبة تلك التي مضت عقب حرب 67 وما تلاها من احداث فرقت بين المرء واخيه وكادت ان تعصف بكل شيئ لولا لطف الله .. فقد كانت تلك الحرب اللعينة مقدمة للكثير من الهزائم لحقتها تباعا ، فبعض الهزائم لا تكون ساحقة فقط، بل فاحشة يمارس من خلالها الغالب “ساديته”، وبالتالي يفرض على المغلوب أن ينتشي بهزيمته ويتعود عليها حتى تصبح امرا روتنينيا بعد ان استمرئ المهزوم الألم. فلا يجد وسيلة للتعبير الا بالانقلاب على الذات . اما الأبعاد الحقيقية لنتائج هذه الحقبة المريرة فقد ابقت جذور الهزيمة تعشش تحت السطح . فقد عنت لهم تلك السنوات القليلة وغيره من ابناء جيله عمرا كاملا من الأشواق التي طمست حيناً، وكظمت حينا آخر، لكنها لم تنطفئ لأن الجمرة في عمق الذاكرة، ومدقوق على نواصي القلب، محفور بين تجاعيد الوجوه التي حملت ذل الغربة وهموم التنقل.
ابو غازي مغيرا مجرى الحديث ( كنت في طريق الى السوق ) حتى استوقفتني رائحة الدخان فقلت في نفسي "شكل المختار "مدوزنة معو الامور" .
اخرج ابو عدنان سيجارة من علبته النحاسية وقدمها لابو غازي الذي تردد كثيرا قبل ان ياخذها فهو يعاني من الأم في الصدر رافقته خلال حياته العسكرية الصعبة ، ولما اشعل "السيكارة" وشعر بتلك المتعة والدوار المصاحب لسيجارة الصباح ، قال بتصدق ان لها طعم يذكرني برائحة البارود وشياء اخرى تمنينت ان تستمر لاطول مدة ولكن هذا التمني وهذه الرعبة توقفت بسرعة عقب النكسة ، لم يعد لي رغبة في اي شيء .
ابو عدنان وهو يحاول ان يلملم اطراف الحديث ربما خوفا من الوقوع في المحذور ، فقد بدا علية اللطف رغم ضخامة جسده الذي اكتسبة من العمل في "الباطون" وصوته الاجش وقوته البدنية التي اكتسب على اثرها لقب "مختار الحارة" ..
كنت ناوي ابطل الدخان فهو ملعون ويرهقني وكاد ان يدخلني الى المستشفى في احد المرات ، كان ذلك قبل "النكسة" وفعلا استطعت ان تركه برهة ، ولكن الحرب والظروف القاسية التي صاحبتها جعلتني اعود اليه بل واقسمت يمنيا غليظا ان لا اتركه فهوي الرفيق في الغضب ، والصديق عند الملل، والمؤنس في في الليل وعندما يجافيك النوم ، وبيني وبينك "بفش الغل" .
وقبل ان ينهي ابو عدنا وصفة الدقيق للدخان ، اقبل حسام ابن المختار جالبا معه المعول والفاس والشاكوش ايذنا ببدأ مشوار العمل الذي يستمر حتى مغيب الشمس .....
نيسان ـ نشر في 2024-05-30 الساعة 20:15
رأي: محمد المحيسن كاتب وصحافي أردني