اتصل بنا
 

العرض وليس الطلب ميدان المعارك الانتخابية

نيسان ـ نشر في 2024-06-27 الساعة 03:32

x
نيسان ـ في هدوء، تدور رحى حرب أيديولوجية على جانبي الأطلسي، تحجبها عن الأنظار الشعارات السياسية. إنه صراع حول أفضل السبل لوضع وتنفيذ سياسات تحفز النمو الاقتصادي على المدى المتوسط. فمرحباً بكم في معركة مناصري نظرية جانب العرض (وليس الطلب).
وطوال معظم نصف القرن الفائت، كانت أجندة السياسة الاقتصادية التي تركز على العرض (دعاة خفض الضرائب على الأثرياء) حكراً على اليمين السياسي في المملكة المتحدة والولايات المتحدة. وقد قام بوضع البذور الفكرية لهذه الثورة في أوائل السبعينيات اقتصاديون فلاسفة من دعاة السوق الحرة مثل فريدريش فون هايك وميلتون فريدمان. وقد روت هذه البذور فترة التضخم الكبير في السبعينيات، التي كشفت عن قصور سياسة كينز الموجهة نحو الطلب في مواجهة صدمات العرض المعاكسة. وفي الواقع، فقد شددت أعمال فريدمان وغيره على أن تحفيز جانب العرض هو الوصفة الوحيدة المستدامة وغير التضخمية للنمو على المدى المتوسط.
وبعد ذلك، اجتاحت هذه السياسة الاقتصادية الثورية ما سواها في عهد مارغريت تاتشر ورونالد ريغان. وكانت ركيزتها دعامتين رئيسيتين، أولاهما السياسة النقدية المتشددة للسيطرة على الطلب والتضخم، وثانيها الضرائب المنخفضة لتوفير حوافز للاستثمار والعمل. وبفضل منحنى (آرثر) لافر، اعتقد البعض أن التخفيضات الضريبية يمكنها أن تسدد تكاليفها.
ثم تحول مسار الأمور بشكل حاسم خلال القرن الحادي والعشرين، فقد أعقب الأزمة المالية العالمية وجائحة كورونا وأزمة غلاء المعيشة تدخل حكومي غير مسبوق، ما أدى إلى ارتفاع واضح للضرائب. غير أنه مع اقتراب الانتخابات ومعاناتنا من موجة تضخم كبيرة ثانية، برزت أجندة خفض الضرائب التي تركز على العرض مرة أخرى بين أوساط اليمين السياسي.
وفي المملكة المتحدة، شهدت الموازنات الأخيرة لحزب المحافظين إعفاءات ضريبية لتشجيع الشركات على الاستثمار، وتخفيضات في أسعار التأمين الوطني لتشجيع المواطنين على العمل. وقد ركز البيان الأخير للحزب على مزيج من سياسة العصا والجزرة يشمل تخفيضات واسعة النطاق لكل من الفوائد والضرائب لزيادة تعزيز حوافز العمل.
ولا شك في أن وعكة النمو الحالية متجذرة في مشكلات جانب العرض، وتبرز في تباطؤ الإنتاجية، وشيخوخة السكان، فضلاً عن أعوام من ضعف الاستثمار وتصدع سلاسل التوريد العالمية. لكن لا يعني ذلك أن وصفة خفض الضرائب السابقة تعتبر مناسبة الآن.
وهناك طريق آخر يسلكه بقوة اليسار السياسي في عدد من البلدان. فقد أسفرت أجندة جانب العرض «الحديثة» لجانيت يلين في الولايات المتحدة عن برامج استراتيجية صناعية رائجة. وحققت هذه البرامج نجاحاً مذهلاً وفق غالبية المعايير الاقتصادية. لذلك، خلقت الولايات المتحدة ملايين الوظائف الجديدة منذ 2019، وتخطى نموها الاقتصادي متوسط دول مجموعة السبع، وخالف نمو الإنتاجية لديها الاتجاهات الدولية.
وتعد أجندة جانب العرض الحديثة هذه هي المحور الذي يرتكز إليه برنامج حزب العمال البريطاني حالياً. وحجر الأساس له هو الاستراتيجية الصناعية، بدعم من مجموعة مؤسسات جديدة ومنظمات غير حكومية، مثل «غريت بريتيش إنرجي» و«سكيلز إنغلند» والهيئة الوطنية للبنية التحتية وتحول الخدمات وصندوق الثروة الوطني.
ولا يمكن للتناقض مع سياسات جانب العرض المتبعة في سبعينيات القرن الماضي أن يكون أكثر وضوحاً. وبينما كانت الإجراءات حينها محدودة ومالية، لكنها الآن واسعة النطاق وهيكلية. وقوة قاعدة الأدلة كبيرة للغاية. ولا يوجد دليل على أن التخفيضات الضريبية وحدها ستكون كافية لتغيير حوافز العمل والاستثمار. وأصبحت العوائق العديدة الأخرى التي تحول دون عمل الأشخاص (مثل ضعف المهارات) واستثمار الشركات (مثل ضعف البنية التحتية) أكثر أهمية الآن. أما بالنسبة لمنحنى لافر، فالأدلة أقل وضوحاً من المنديل الذي رسم عليه المنحى للمرة الأولى.
إن سياسات جانب العرض الحديثة الفعالة تركز على رفع هذه العوائق أمام العمل والاستثمار في المنبع. وقد ازدهرت شعبية الاستراتيجيات الصناعية بقوة، باعتبارها تحقق ذلك. لكن هذه التدابير ليست حلاً سريعاً، ولا هي مضمونة النجاح. وهناك الكثير من الأمثلة الجيدة بقدر السيئة، ولا تتأتى خطة النمو من خلال المنظمات غير الحكومية. رغم ذلك، تشير الأدلة الدولية إلى أن الاستراتيجيات الصناعية محددة الأهداف نجحت في إنعاش جانب العرض في عدد متزايد من الدول، بل وحققت ما يشبه المعجزة على جانب العرض في بعض البلدان، مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة.
عموماً، سيكون من السذاجة الاعتقاد بأن انتخابات هذا العام في بريطانيا والولايات المتحدة ستكون معركة للأفكار الاقتصادية على غرار سبعينيات القرن الماضي، وسيفوز بها الحزب الذي تتفاخر سياساته بأكبر اتساق مفاهيمي ودعم تجريبي. وإذا ما كان للأدلة الاقتصادية أن ترجح كفة العدالة الانتخابية، فلسوف نشهد اكتساحاً ليسار الوسط على جانبي الأطلسي!

نيسان ـ نشر في 2024-06-27 الساعة 03:32

الكلمات الأكثر بحثاً