اتصل بنا
 

صفحات من كتاب: ما تفعله فلسطين بالعالم

نيسان ـ نشر في 2024-06-29 الساعة 09:09

x
نيسان ـ فضح العدوان الإسرائيلي على غزة منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر)، أكثر من أي وقت مضى، إفلات إسرائيل التام من العقاب ودعم غالبية القوى الغربية غير المشروط لإسرائيل. وفي فرنسا، أسهمت تلك الحرب في تحفيز الخطاب الذي يروج للصدام الحضاري مع "البرابرة"، وهي السردية التي يرد عليها آلان غريش في كتابه الأخير "فلسطين، شعب يأبى أن يموت"، الذي صدر في فرنسا في 2 أيار (مايو).
* * *

فلسطين، شعب يأبى أن يموت
ألان غريش

"يصبح الخوف خطرًا على من يشعر به، ولذلك لا ينبغي السماح له بالسيطرة عليه والتحكم به. بل إنه يصبح المبرر الرئيسي للسلوكيات التي توصف في كثير من الأحيان بـ"غير الإنسانية". (...) إن الخوف من البرابرة يهدد بجعلنا برابرة، والسوء الذي يمكن أن نرتكبه قد يتخطى السوء الذي كنا نخشاه في البداية".(1)
"لقد أكدت لنا تلك الحرب أن العالم لا يعتبرنا بشرًا مثلهم. ربما بسبب لون بشرتنا، وربما لأننا موجودون على الجانب الخطأ من المعادلة السياسية. حتى حقيقة أن المسيح ابننا لم تحمنا. يقولون: ’إذا كان الأمر يتطلب قتل مائة فلسطيني للقضاء على مقاتل واحد من حماس، فليكن‘. إن نفاق وعنصرية العالم الغربي هي واقع فج ومروع، طالما نظر إلى كلمة ’فلسطيني‘ بعين الريبة والتحفظ".
ألقى الأب منذر إسحق؛ راعي الكنيسة الإنجيلية اللوثرية ببيت لحم، عظته الدينية النارية الحزينة في احتفال الكنيسة بعيد الميلاد المجيد في العام 2023، موجهًا كلماته إلى هؤلاء "الذين يحتفلون به بينما يرسلون إلينا قنابلهم". كلمات وكأنها لعنة. بعد ثلاثة أشهر، قررت الولايات المتحدة الأميركية، التي ترسل قنابل وذخائر بلا حساب لدك غزة، إنزال مساعدات إنسانية لضحايا القنابل والذخائر نفسها، "في الوقت نفسه"، على حد تعبير الرئيس إيمانويل ماكرون الشهير. وقد عبر عن رياء الغرب رسم كاريكاتيري يُظهر الصواريخ وهي تنهال على القطاع ومعها خبز الباغيت.
لقد فضحت أزمة غزة الغرب ذي الوجهين: وجه السلام وحقوق الإنسان والعالمية، ووجه المجازر والإبادة الجماعية والعنصرية.
يقول منذر إسحق في ختام عظته: "إلى أصدقائنا في أوروبا، من الآن فصاعدًا لا تعطونا دروسًا عن حقوق الإنسان أو القانون الدولي. لسنا بيض البشرة، وأعتقد أن هذا القانون لا ينطبق علينا وفقًا لمنطقكم. في ظلال الإمبراطورية، حولتم المستعمِر إلى ضحية والمستَعمر إلى معتدٍ".
انهيار صورة أوروبا والغرب
وبالمثل، أمكننا سماع رد رئيس الوزراء الماليزي أنور إبراهيم في مؤتمر صحفي مشترك عقد يوم 11 آذار (مارس) 2024، على الخطاب المسكن الذي ألقاه المستشار الألماني أولاف شولتس، الذي تدعم حكومته صراحةً السياسة الإسرائيلية وتجرم التضامن مع فلسطين:
"لا يمكنكم إيجاد حل بشكل أحادي، بالتركيز على قضية واحدة ومحو ستين عامًا من الوحشية. لا يتمثل الحل في تحرير الرهائن فحسب. ماذا عن المستوطنات؟ ماذا عن ممارسات المستوطنين التي تتواصل بصفة يومية؟ ماذا عن سلب الفلسطينيين كل شيء؟ أراضيهم وحقوقهم وكرامتهم، ورجالهم، ونساءهم، وأطفالهم؟ ألا يعنينا هذا؟ أين ذهبت إنسانيتنا؟ لمَ كل هذا النفاق؟".
ولم يغير امتناع واشنطن في 25 آذار (مارس) عن التصويت على قرار مجلس الأمن الداعي إلى وقف إطلاق النار لمدة أسبوعين من قواعد اللعبة، طالما استمرت بإمداد إسرائيل بالقنابل التي تدمر غزة.
إلى جانب المعاناة الإنسانية التي بلغت حدودًا غير مسبوقة منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر)، والدمار الذي طال كل شيء، أصبحت غزة أرضًا مقفرة أشبه بسطح القمر. وبالإضافة إلى الصراعات الممتدة من لبنان إلى البحر الأحمر، فإن الفكرة التي صدرتها أوروبا ودول الغرب عن نفسها تحتضر. وقد أظهرت الحرب على أوكرانيا بالفعل حجم الفجوة بين دول الشمال وبقية العالم الذي لم يعد يصدق الدعم المقدم إلى كييف تحت مسمى "القانون الدولي" من قبل نفس أولئك الذين ينتهكونه حينما يصب ذلك في مصلحتهم. إن الحرب على غزة هي خطوة مشؤومة على طريق السقوط في هاوية سحيقة، حيث يسود منطق الأقوى.
في سلسلة تأملات شاركها على منصة "إكس" (تويتر سابقًا) في شباط (فبراير) 2024، أعرب بيتر هارلينغ، مدير مركز "سينابس" البحثي المتخصص في شؤون حوض البحر الأبيض المتوسط ببيروت، والذي يجوب المنطقة منذ أكثر من ثلاثين عامًا، عن قلقه إزاء "القطيعة الخطيرة والمتزايدة بين أوروبا والعالم العربي. لماذا أصبحت تلك القطيعة أعمق وأخطر من خلافاتنا الأخرى على مر العصور؟ لأنها قطيعة تامة على مستوى التواصل. في الماضي، غالبًا ما كانت سردياتنا تتضارب، ولكن ضمن إطار مشترك إلى حد كبير. إلا أن الحرب على غزة أدت -ليس إلى تعميق الخلافات فحسب، وإنما إلى انقطاع التواصل. (...) إن ما نشهده ليس دورة جديدة، هذه المرة اختارت معظم الدول الأوروبية -سواء بشكل علني أو غير مباشر- دعم إبادة جماعية تحدث في حوض البحر الأبيض المتوسط. (...) لقد انهارت صورة أوروبا التي تمثل القيم والحقوق العالمية".

"برابرة" الداخل

بصفتي مراقبًا يشهد منذ أكثر من خمسين عامًا تطورات منطقة شديدة القرب من القارة العجوز -جغرافيا وإنسانيا- والتي يربطنا بها تاريخ طويل حتى في جوانبه المظلمة، لا يسعني إلا أن أقر بمرارة بتلك القطيعة. هل يدرك القادة الأوروبيون ذلك، هم الذين يذهبون إلى حد فرض عقوبات على المنظمات غير الحكومية التي تدين العدوان الإسرائيلي في دول الجنوب؛ المنظمات التي يقودها "أصدقاؤنا" الديمقراطيون العرب الذين كانوا رأس الحربة في ثورات الربيع العربي، والذين يدافعون عن القيم التي نطالب بها، أم أنهم سيتمادون في خطئهم؟
تنتفض أوروبا ضد "معاداة السامية" لكنها تغض الطرف عن "معاداة الإسلام"، وتنحاز إلى أطروحات اليمين المتطرف الذي يتطهر من رهاب اليهودية العتيد بمساندته تل أبيب. في كل أنحاء أوروبا، ولا سيما في فرنسا، تزداد ضراوة الحملة التي تُشن ضد "برابرة" الداخل؛ وهم المسلمون المتهمون بـ"الانفصالية" وبالتواطؤ المزعوم مع الإرهابيين. بعيدًا عن المثُل العالمية التي تتستر خلفها، تُعمق أوروبا الانقسامات والانشقاقات.
لا يدور أي نقاش جدي في فرنسا حول هذه الفجوة الآخذة في الاتساع، لا بين الساسة ولا بين المثقفين، ولا في وسائل الإعلام. منذ الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، صرنا سجناء رؤية بائسة للعالم مبنية على الخوف من "البرابرة"، وكما تنبأ تسفيتان تودوروف، أصبحنا نحن أنفسنا برابرة. لم نعد نرى في المستقبل سوى حرب بين الغرب و"بقية العالم"، "حرب عوالم" قائمة على فكرة متعجرفة مفادها بأننا نمثل "الحضارة" وقادرون على تحرير أنفسنا من القانون الدولي لمحاربة "الشر".
في العام 2003، ختمت كتابي "إسرائيل-فلسطين، وقائع صراع" برواية من الكتاب المقدس عن شمشون؛ أحد أبطال كفاح الشعب اليهودي ضد الفلسطينيين. حيث سجنه أعداؤه الذين فقأوا عينيه وقادوه إلى غزة. وفي أحد الأيام، استقدمه الفلسطينيون ليسليهم:
"وقبض شمشون على العمودين المتوسطين اللذين كان المعبد قائمًا عليهما، واستند عليهما -على واحد بذراعه اليمنى وعلى الآخر بذراعه اليسرى. وقال شمشون لتمت نفسي مع الفلسطينيين، وانحنى بقوة فسقط البيت على الأقطاب وعلى كل الشعب الذي فيه فكان الموتى الذين أماتهم في موته أكثر من الذين أماتهم في حياته".
كنت أخشى آنذاك أن يقود استمرار هذا الاحتلال الفلسطينيين والإسرائيليين نحو الهاوية. وقد تأكدت مخاوفي بشكل يفوق كل تصوراتي.
بعد مرور ثلاثين عامًا، يهدد انهيار المعبد بابتلاعنا جميعًا، جنوباً وشمالاً. إن مستقبل العلاقات الدولية يتحدد الآن في غزة، كما حاولنا أن نشرح من قبل. وهناك مساران آخذان في الظهور. مسار حرب أبدية يحكمها قانون الغاب، قانون الكل في مواجهة الكل، بين لاعبين لكل منهم مصالح يدافع عنها ولا يعنيه سوى تغليبها، من موسكو إلى واشنطن، من نيودلهي إلى برازيليا، من باريس إلى مكسيكو. أو مسار إعادة بناء النظام العالمي على أساس القانون، كما تدعونا قرارت "محكمة العدل الدولية" بشأن غزة، وهو طريق ضيق بلا شك، لكنه الوحيد الذي قد يجنبنا انهيارًا محققًا. في الماضي، تمكن الجنرال ديغول في حزيران (يونيو) 1967 في مواجهة العدوان الإسرائيلي، وجاك شيراك ودومينيك دي فيلبان في العام 2003 أثناء استعداد الولايات المتحدة لغزو العراق، من إيجاد الكلمات الصحيحة للدفاع عن الحق، لتغيير خطاب باريس الذي ترددت أصداؤه في جميع أنحاء العالم، في الجنوب كما في الشمال. من المؤسف أن تكون فرنسا اليوم متواطئة في دعم إبادة جماعية تحدث أمام أعيننا، بتصريحاتها وبصَمتها، بأفعالها وبسلبيتها.
*ألان غريش: مدير مجلة "أوريان" 21، متخصص في شؤون الشرق الأوسط، له مؤلفات عديدة منها "علام يدل اسم فلسطين"؟" (2010)، من منشورات les liens qui libèrent؛ و"أغنية حب، فلسطين وإسرائيل، قصة من تاريخ فرنسا"، بالاشتراك مع هيلين آلدغير، منشورات "La Découv تزفيتان تودوروف؛ و"الخوف من البرابرة، ما وراء صدام الحضارات" (erte (2017. ترجمت هذا النص من الفرنسية دينا علي.
هامش:
(1) تزفيتان تودوروف، "الخوف من البرابرة، ما وراء صدام الحضارات".

نيسان ـ نشر في 2024-06-29 الساعة 09:09

الكلمات الأكثر بحثاً