اتصل بنا
 

البكاء على بابل.. حوار مع آفي شلايم

نيسان ـ نشر في 2024-06-30 الساعة 07:19

x
نيسان ـ ‏تسفي بن-دور بينيت‏؛‏ تقديم: ‏‏جوناثان شامير‏ - (جيويش كرَنتس) 15/5/2024
‏في هذا الحوار، يناقش آفي شلايم العوامل الكامنة وراء هجرة اليهود العراقيين وكيف يمكن لمفهوم "اليهودي-العربي" أن يرسم ملامح مستقبل بديل.‏
* * *
تقديم، ‏بإذن من كتاب آفي شلايم ‏‏"ثلاثة عوالم: مذكرات‏‏ عربي يهودي".
‏‏ثمة القليل من الأماكن عبر التاريخ التي ازدهرت فيها الحياة اليهودية بكثافة وثبات كما فعلت في العراق، وهو ما يجعل تحللها المفاجئ هناك أكثر مأساوية. فبعد أن حول إنشاء دولة إسرائيل اليهود من أقلية دينية إلى وكيل محتمل لدولة معادية، أصدرت الحكومة العراقية سلسلة من التشريعات المعادية لليهود، وعندما رفعت الحكومة العراقية مؤقتًا الحظر المفروض على الهجرة اليهودية – وهو ما شكل إنذارًا كان من شأنه أن يجبرهم على التخلي عن جنسيتهم- تدفقت الغالبية العظمى من المجتمع الذي يبلغ عمره 2.500 عام في البلاد- خارجين في طائرات أرسلتها إسرائيل في ما يزيد قليلاً على ستة أشهر بين العامين 1951 و1952. وكان على ما يقرب من 120.000 شخص انتهى بهم المطاف في الدولة الجديدة أن يبدأوا من الصفر: لم يقتصر الأمر على إجبار الحكومة العراقية لهم على ترك ممتلكاتهم وثرواتهم وراءهم وإلقاء المسؤولين الإسرائيليين لهم في معسكرات استيعاب رثة فحسب، بل كان عليهم أيضًا إعادة تشكيل هويتهم بالكامل، حيث انطوى البلد الذي وصلوا إليه على نفور عميق من اللغة والثقافة العربية التي جلبوها معهم.
‏هذه الصدمة التكوينية هي المكان الذي يبدأ فيه آفي شلايم -الذي وصل إلى إسرائيل من العراق عندما كان طفلاً وانتهى به المطاف إلى أن يكون أحد أبرز "‏‏المؤرخين الجدد‏‏" في إسرائيل‏‏، متحديًا التأريخ الصهيوني التقليدي- عمله الشخصي الأول، "‏‏ثلاثة عوالم : مذكرات عربي يهودي". ‏‏في مقابلته مع الباحث تسفي بن دور بينيت، يحكي شلايم عن حرجه البالغ من تنافر ملابس والده ولغته مع محيطه الجديد. ولكن، بدلاً من تسريع اندماجه في الإسرائيلية، يستنطق شلايم القوى السياسية وراء هذا الشعور بالخجل من خلال نهجه التنقيحي النموذجي للسرد السائد، ليحيك معًا أجزاء رحلته الخاصة من العراق إلى إسرائيل إلى المملكة المتحدة، بتحليل تاريخي أوسع.‏
أضفى استثمار إسرائيل في الترويج لرواية عن العداء الدائم بين اليهود والعرب أبعادًا أيديولوجية على التمثيلات التاريخية لموقف اليهود في العالم العربي قبل قيام دولة إسرائيل، وظروف رحيلهم. وبالنسبة للكثيرين، أصبح هذا التاريخ يرسم خريطة لصلاحية الحديث عن حياة مشتركة بين الإسرائيليين والفلسطينيين. ولهذا السبب، تعاملت الكثير من تغطية ‏‏"ثلاثة عوالم"‏‏ مع فحص شلايم للادعاء المتنازع عليه بأن الحركة السرية الصهيونية كانت وراء سلسلة من التفجيرات في المواقع اليهودية في أوائل خمسينيات القرن العشرين التي عجلت بنزوح المجتمع اليهودي من العراق. وعلى الرغم من أن إسرائيل تنفي رسميًا أي تورط لها في ذلك، يخلص شلايم يخلص، استنادًا إلى أدلة جديدة- إلى أن ثلاثة من التفجيرات الخمسة الكبرى نفذها على الأرجح عميل صهيوني واحد يدعى يوسف البصري. وبينما يناقشان هذه الأحداث، يقاوم شلايم وبن-دور بينيت كلاهما سردية الحزن والدموع التي تسقطهما في مخطط يشرف عليه المركز الأوروبي للاضطهاد الأبدي، وكذلك سرد اليوتوبيا البين-دينية التي تبرئ القيادة والمجتمع العربيين. وفي حين يتصارع شلايم وبن-دور بينيت حول ما إذا كان ينبغي اعتبار الهجرة الجماعية لليهود "طردًا"، فإنهما يتفقان على أن الجالية اليهودية وقعت في نهاية المطاف في تقاطع النيران بين قومية عربية تزداد إقصائية باطراد، وقومية يهودية سعت إلى تصفية الشتات، مما أفسح المجال أمام الهويتين للتعايشا. ‏
بعد أن عاش هذا التمزق التاريخي، يتناول شلايم هنا فكرة "العربي-اليهودي" كنموذج لما كان يمكن أن يكون. وحتى مع اعتراف شلايم بأن هذه الهوية ربما تكون قد أُودعت في خزائن الماضي، فإنه يعتقد أنها تتطلب درجة معينة من "التجديد"‏‏ ‏‏من أجل تعطيل منطق الفصل السائد بين العرب واليهود. وليس من قبيل المصادفة أن يصل إلى هذا الاستنتاج من خلال بحثه المستمر حول فلسطين، الذي يسلط الضوء على المظالم التي ارتكبتها الدولة الإسرائيلية الوليدة. وبإقامة الصلة مع تهميشه هو في نفس اللحظة، يستخدم شلايم قصته الشخصية كـ"عربي-يهودي" للإشارة إلى الطريق إلى الأمام نحو مستقبل صالح للعيش لكل الذين يعيشون بين النهر والبحر، حيث الواصلة (-) هي الجسر. ‏
‏— جوناثان شامير‏
***
تسفي بن-دور بينيت:‏‏ إنك تبدأ كتابك بقصة من طفولتك عن شعورك بالحرج عندما تحدث والدك إليك باللغة العربية في يوم صيفي حار في منتصف خمسينيات القرن العشرين في رمات غان، الجيب اليهودي العراقي المعروف جيدًا. لماذا اخترت أن تبدأ من هناك؟‏
‏آفي شلايم:‏‏ بدأت من هناك لأن هذا الفصل من حياتي بالذات كان رمزًا لما شعرت به في إسرائيل بشكل عام، ولأن تلك الحادثة أوضحت علاقتي بوالدي بشكل أكثر تحديدًا. كان عمري نحو 10 سنوات، وكنت ألعب في الشوارع مع أصدقائي ببنطال قصير وبالصندل، ويأتي أبي مرتديًا بدلة من ثلاث قطع مع قميص أبيض وربطة عنق. ويبدو مثل كائن غريب، في غير مكانه تمامًا، ويبدأ في التحدث معي بالعربية. وليس الأمر أنها لغة أجنبية فحسب، بل إنها لغة العدو، وكانت تعتبر لغة بدائية قبيحة جدًا. ما أزال أتذكر كم كنت مُحرجًا، وهو ما كان شعورًا نمطيًا تمامًا ملازمًا لكون المرء عراقيًا في إسرائيل. ‏
لم نكن نعرف حقًا الكثير عن أبي. هو لم يتعلم العبرية كما ينبغي، وأنا لم أكن أستطيع التحدث بالعربية بأكثر من مستوى أساسي جدًا، ولذلك لم تكن لدينا لغة يمكننا التواصل من خلالها بطريقة ذات معنى. في العراق، كان تاجرًا ثريًا للغاية، يعيش في فيلا فخمة مع الكثير من الخدم. وكان العديد من الوزراء في الحكومة العراقية من زبائنه. وعندما جاء إلى إسرائيل، كان عليه أن يترك كل شيء وراءه. ولم يتعاف حقًا من هذه الصدمة. لم يتكلم، وكان هذا الصمت يهيمن على علاقتي به. ‏
‏بينيت: على الرغم من هذا الحرج، وبعد الكثير من السنوات في إنجلترا، تستمر في تعريف نفسك بأنك عربي يهودي. ماذا تعني لك هذه الفئة؟ وما الذي يعنيه لأبناء جيلي، الذين ولدوا في إسرائيل، أن يعرّفوا أنفسهم أيضًا بأنهم عرب يهود؟
شلايم:‏‏ اكتشفت مفهوم العربي اليهودي فقط أثناء كتابة مذكراتي، عندما كنت أحاول أن أفهم حياتي المبكرة. كنت أدرك دائمًا أن الفلسطينيين هم الضحايا الرئيسيون للصهيونية. ولكن عند كتابة هذا الكتاب، اكتشفت أن للصهيونية فئة أخرى من الضحايا: يهود الأراضي العربية. بدأت أرى أوجه التشابه بين تطهير الصهيونية العرقي للفلسطينيين ومحاولة جلب اليهود من كل أنحاء العالم إلى إسرائيل. ‏
‏جاءت جدتاي معنا أيضًا إلى إسرائيل. كانتا في الستينيات من عمريهما، ولم تتعلما العبرية أيضًا. وقد عانتا حقًا في إسرائيل لأنهما انقطعتا عن شبكة دعمهما. اعتادتا التحدث بحنين كبير عن البلد القديم باعتباره جنة الله على الأرض. يقول المزمور 137: "على أنهار بابل هناك جلسنا، بكينا أيضًا عندما تذكرنا صهيون". وبالنسبة لجدتَيَّ، كانت التجربة في إسرائيل معكوسة تمامًا: "على أنهار صهيون هناك جلسنا. بكينا أيضًا عندما تذكرنا بابل".‏
كان أحد مصادر التأثير الرئيسية على تفكيري هو إيلا شوحط* ومجموعتها الأساسية من المقالات، ‏عن العربي-اليهودي، فلسطين، وخبرات نزوح أخرى" On the Arab-Jew, Palestine, and Other Displacements‏‏. لديها تصور إيجابي للغاية عن العربي-اليهودي. الواصلة/ الشرطة، (-)، تربطهما بدلاً من أن تضعهما بجوار بعضهما البعض. بدأت أفكر في تطوري، وانتهى بي المطاف إلى إعادة اختراع نفسي كعربي يهودي. ‏
‏إذن من هو العربي اليهودي؟ حتى أعبر عن هذا بشكل بسيط، أنا عربي يهودي، وأنت لست عربيًا يهوديًا، لأنني عشت في بلد عربي، شكَّل الواقع الاجتماعي لعائلتي في بغداد: كنا نتحدث العربية فقط في المنزل. كان أسلوب حياتنا وثقافتنا وأدبنا كلها عربية. كانت موسيقانا مزيجًا من الموسيقى اليهودية والعربية. كان لدينا من القواسم المشتركة مع العراقيين المسلمين والعراقيين المسيحيين أكثر مما لدينا مع إخواتنا في الدين من أوروبا الشرقية. وبهذا المعنى الوجودي والثقافي الحقيقي جدًا، كنا عربًا يهودًا. أعرف أن الفكرة مثيرة للجدل، ويقول الإسرائيليون أنها مستحيلة، لكنني لا أرى السبب. أنا وعائلتي مثال على ما يعنيه أن تكون عربيًا يهوديًا.‏
بينيت:‏‏ أقدر حقيقة أنك تستخدم عبارة "إعادة اختراع" عندما تتحدث عن اعتناق هوية العربي اليهودي، خاصة وأن الخلاصات الفكرية -في عمل [أستاذ اللغة العربية الإسرائيلي] رؤوفين سنير، على سبيل المثال- تدعي أنه لا أحد يعرِّف نفسه ‏‏حقًا‏‏ في العراق بأنه عربي. كان الناس عراقيين، وربما كانت العروبة مسألة ضمنية، ولكن لم يكتب أحد حقًا عن كونهم عربًا، سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين أو يهودًا -على الأقل حتى العام 1948.‏
‏شلايم:‏‏ هذه نقطة مهمة جدًا. لم يفكر اليهود في العراق في أنفسهم على أنهم غرباء. كانوا عراقيين، أقلية من بين أقليات كثيرة. بشكل عام، انسجمت مجموعات الأقليات المختلفة، ولم يكن اليهود استثناءً. كانت لدى أوروبا مشكلة يهودية، لكن العراق لم يكن لديه مثل ذلك. كان هناك يهود من جميع الطبقات الاجتماعية، وطبقة عاملة كبيرة ومجتمع يهودي فقير، وكانوا بذلك جزءًا لا يتجزأ من نسيج المجتمع العراقي. كان صعود القومية، سواء القومية العربية من جهة، أو القومية اليهودية من جهة أخرى، هو الذي ميز اليهود على أنهم مختلفون عن الأقليات الأخرى. ولعبت الصهيونية دورًا أساسيًا في تغيير وضع اليهود في الدول العربية من خلال منحهم بعدًا متعلقًا بالأرض: بمجرد أن وُجدت دولة يهودية في إسرائيل، أصبح من الممكن للقوميين العرب أن يقولوا أن اليهود لا ينتمون إلى مجتمعاتهم. ‏
بينيت:‏‏ أنا مهتم بعوامل الدفع التي أدت إلى نزوح اليهود العراقيين. على مر السنين، أصبحت أكثر انتقادًا للمجتمع العراقي والحكومة العراقية خلال تلك الفترة. كنت أفكر وأكتب عن محنة اليهود العراقيين لسنوات عديدة حتى الآن وقاومت دائمًا الحكايات التي قيلت لنا عن بطولية الصهيونية التي جلبتهم إلى إسرائيل، كما فعل العديد من العراقيين في إسرائيل، بغض النظر عن توجههم السياسي. ولكن في ضوء الأدلة التي تم الكشف عنها مؤخرًا من وثائق مجلس الشيوخ العراقي والشرطة في ذلك الوقت، أعتقد أن الوقت قد حان لإعادة التفكير في معنى هذا النزوح "الطوعي". لقد كان طردًا. ليس هناك شك في أن دولة إسرائيل المنشأة حديثًا أغرت اليهود وعقدت صفقات من وراء ظهورهم. ولكن مع ذلك، قام العراق بترحيل يهوده.‏
شلايم:‏‏ كان العامل الحاسم [في نزوح اليهود من العراق] بعد العام 1948 هو اضطهاد الدولة. وفي حين كانت هناك زيادة في العداء الشعبي تجاه اليهود بعد حرب 1948، لم يكن الشارع هو الذي يقود الحكومة. كانت هي التي أخذت زمام المبادرة في تحديد اليهود كغرباء، وبدأت في اتخاذ تدابير ضدهم: فصل اليهود من الخدمة الحكومية، وفرض قيود على التجار والمصرفيين اليهود، ووضع كوتا لعدد اليهود الذين يمكنهم الالتحاق بالجامعة. لقد استخدمت اليهود ككبش فداء لتعويض الهزيمة في الحرب من أجل فلسطين ولإخفاقاتها في الداخل. كانت هذه عوامل دفع مهمة للغاية دفعت اليهود إلى الخروج. لكنني، بعد قولي هذا، لا أتفق مع استنتاجك بأنه كان طردًا. في العام 1948، كانت إسرائيل مسؤولة إلى حد كبير عن تحويل 750.000 فلسطيني إلى لاجئين. كان ذلك طردًا. لم يتم طرد عائلتي والجالية اليهودية في العراق، حتى مع أننا كنا ضحايا للصراع العربي الإسرائيلي. هناك فرق.‏
بينيت:‏‏ كان هناك الكثير من الناس منذ بدء عملية السلام الذين حاولوا خلق التكافؤ بين اليهود العراقيين بشكل خاص، أو يهود الشرق الأوسط بشكل عام، والفلسطينيين من أجل قول أن مطالبات الأولين تلغي مطالبات الأخيرين. أنا لا أحاول تفعيل هذه المعادلة هنا. بعد كل شيء، لم يأت اليهود العراقيون إلى إسرائيل كلاجئين. لقد تم استيعابهم في إسرائيل كمواطنين. ولكن في نهاية المطاف، أود أن أزعم أننا ربما نحتاج إلى استكشاف فكرة ما يعنيه أن يكون المرء مطرودًا. ‏
‏تاريخيًا، كانت الحركة الصهيونية في أوساط يهود العراق ضعيفة جدًا. أقل من حوالي 1 في المائة من المجتمع انضم إلى الحركة الصهيونية. وانضم العديد منهم فقط بعد الفرهود [مذبحة حدثت في العام 1941 وقتل فيها العراقيون حوالي 180 يهوديًا] ثم انشقوا عنها بعد فترة وجيزة. في العام 1948، كان معظم السكان ما يزالون غير مبالين بالصهيونية. ثم فجأة، في غضون تسعة أشهر، غادر 93 في المائة من المجتمع اليهودي في العراق في جسر جوي درماتيكي للغاية. كان السبب المباشر هو عدة تفجيرات في أماكن يهودية، مثل كنيس يهودي ومقهى في بغداد. ما رأيك في هذه التفجيرات اليوم؟
شلايم:‏‏ أنا أخصص في كتابي فصلاً كاملاً لموضوع الهجرة الجماعية وأسبابها ودور التفجيرات الخمسة في خدمة أهداف يهودية في العامين 1950 و1951 في ذلك على وجه الخصوص. منذ أن كنت صبيًا، كان جميع أقاربي وجميع العراقيين الذين أعرفهم مقتنعين بأن هذه كانت مؤامرة لاقتلاعهم، ومقدمة للمعاملة والاستقبال السيئين للغاية اللذين تلقوهما في إسرائيل. وقد نفت إسرائيل دائمًا أي تورط لها في التفجيرات الخمسة. وكانت هناك لجنتان للتحقيق؛ وهو ما برأها تمامًا من أي تورط. قام بإلقاء قنبلة يدوية في مقهى يهودي قومي عربي يميني، عضو في "حزب الاستقلال"، للتعجيل برحيل اليهود. وكانت القنبلة الأكثر شهرة هي قنبلة يدوية ألقيت في فناء كنيس مسعودة شمتوب، مما أسفر عن مقتل أربعة يهود -وهي الحالة الوحيدة التي مات فيها يهود بالفعل. وهذا التفجير أيضا لم تنفذه الصهيونية السرية. [‏‏ملاحظة محرر جويش كرنتس: يستشهد كتاب شلايم بشهادة تنسب هذا الهجوم إلى صالح الحيدري، وهو مسلم سني من أصول سورية، لأسباب جنائية وليست سياسية‏‏]. لكنني وجدت أدلة لا يمكن دحضها على أن الحركة السرية الصهيونية كانت مسؤولة عن التفجيرات الثلاثة الأخرى.
‏في العام 2017، أجريت مقابلة مع صديق لوالدتي في رمات غان، وهو يهودي عراقي مسن، كان صهيونيًا ومؤيدًا لحزب الليكود، اسمه يعقوب كركوكلي. كان عضوًا في الحركة الصهيونية السرية. أخبرني عن أنشطتهم في تنظيم نقل اليهود القانوني، ثم غير القانوني، إلى إسرائيل، وتزوير الوثائق وجوازات السفر، ودفع الرشاوى للمسؤولين الإسرائيليين والعراقيين. أخبرني عن زميله المدعو يوسف البصري، وهو محام يهودي في العشرين من العمر وصهيوني متحمس ذهب إلى إسرائيل في العام 1949، لكنه أعيد بعد ذلك إلى بغداد كعميل إسرائيلي. وطبقًا لكركوكلي، فإن البصري كان مسؤولاً عن ثلاثة تفجيرات. وكان المسؤول عنه هو ماكس بينيت، وهو ضابط مخابرات إسرائيلي مقيم في طهران. (في تلك الأيام، كانت لإيران الشاه علاقات سرية مع إسرائيل). وقدم كركوكلي في وقت لاحق تقريرًا من صفحة واحدة صادرًا عن شرطة بغداد كدليل، ذُكر فيه اسم البصري وتحدث عن استجوابه ومحاكمته، حيث اتهم بالتورط في ثلاثة من التفجيرات. وحكم عليه بالإعدام وشنق، ويبدو أن كلماته الأخيرة كانت "عاشت دولة إسرائيل".
لن أسمي الوثيقة دليلًا حاسمًا: إنها مكتوبة باللغة العربية على قطعة عادية من الورق بلا تاريخ ولا ترويسة رسمية ولا أسماء. ولكن في وقت لاحق، اتصلت بصحفي عراقي يدعى شامل عبد القادر كان قد ألف كتابًا باللغة العربية لم يترجم إلى الإنجليزية بعنوان "‏‏تاريخ الحركة الصهيونية في العراق ودورها في هجرة اليهود في 1950-1951". ‏‏أرسلت له تقريري المكون من صفحة واحدة، وأكد أنه جزء من تقرير شرطة بغداد عن التفجيرات. ولديه نسخة من الملف، تتكون من 258 صفحة. لم تكن الوثيقة صفحة واحدة مأخوذة من الملف، بل كانت مجموعة من التفاصيل المأخوذة من أجزاء مختلفة من الملف. وهي تظل بالتأكيد حقيقية وأصيلة. لذلك أستطيع أن أقول من دون أدنى شك أن الحركة السرية الصهيونية، بمشاركة إسرائيلية، كانت مسؤولة عن ثلاثة تفجيرات. ولا أدعي أن التفجيرات كانت العامل الرئيسي وراء النزوح، لكنني أعتقد أنها كانت أحد العوامل العديدة التي يجب أخذها في الاعتبار.‏
ينيت:‏‏ أود أن أضيف أن يهودا تاجار، عميل الموساد في العراق في ذلك الوقت، الذي اعتقلته الشرطة العراقية وسجنته، اعترف في مقابلة مع [الصحفي البريطاني] آرثر نيسلين في العام 2006 بأن الموساد كان مسؤولاً عن أحد التفجيرات. ويجدر أيضًا تذكر أن ماكس بينيت كان متورطًا في وقت لاحق في فضيحة حدثت في مصر في منتصف خمسينيات القرن العشرين، حيث قام يهود محليون يعملون كعملاء صهاينة بزرع قنابل في دار للسينما ومقهى وأماكن أخرى. وفي تلك الحالة، كان هدف إسرائيل هو دق إسفين بين الولايات المتحدة ومصر.
‏شلايم: ‏‏اعتُقل بينيت في القاهرة العام 1954 وانتحر في السجن. وكما حدث في بغداد في العامين 1950 و1951، كانت هناك عملية إسرائيلية لتزوير الجناة، واضطر وزير الدفاع في ذلك الوقت، بنحاس لافون، إلى الاستقالة. وعلى الرغم من أنه لم يفعِّل الحلقة بنفسه، فإنه شهد في أحد التحقيقات بأن عمليات "العلم الزائف" هذه كانت غبية وغير إنسانية، وبأن هذا كله بدأ في العراق. وأسوأ جزء في هذه القصة هو أنه كان هناك يهود عراقيون ومصريون محترمون للغاية عمدت إسرائيل إلى استغلالهم وتحولوا إلى جواسيس وإرهابيين. بعضهم دفع الثمن بحريته، والبعض الآخر بحياته، وجميعهم فقدوا أوطانهم.
بينيت:‏‏ سمع الكثير منا اسمك لأول مرة في سياق مَن يُسمون بـ"المؤرخين الجدد" في إسرائيل، الذين تحدوا التأريخ الصهيوني التقليدي، لكنك كنت دائمًا مختلفًا إلى حد ما بما أنك عملت خارج إسرائيل. هل تعتقد أنه كان بإمكانك أن تجد مكانك في الأكاديميا الإسرائيلية، خاصة كمزراحي؟‏
‏شلايم: ‏‏يمكنني الإجابة عن هذا السؤال بشكل محدد للغاية بقول أنني قضيت سنة تفرغ في العام 1981 في القدس. وقد استمتعت بالحياة في إسرائيل، وقدمت طلبًا رسميًا للحصول على وظيفة أستاذ مشارك في العلاقات الدولية في الجامعة العبرية، لكنهم لم يردوا علي أبدًا. كان هذا سوء أخلاق، على أقل تقدير. لكنني كنت قد تعلمت بالفعل أن العراقي لا يمكن أن يكون أكاديميًا في إسرائيل. أتذكر عندما كان عمري 14 أو 15 عامًا، كانت هناك فضيحة تتعلق بروني غاباي، وهو يهودي عراقي كتب في العام 1959 أحد أقدم الكتب عن النكبة [طرد الفلسطينيين من ديارهم في العام 1948]. كان قد أكمل أطروحة الدكتوراه في جامعة السوربون، ثم ذهب إلى الجامعة العبرية للقاء العميد، بنيامين أكزين، الذي قال له على ما يبدو: "أي علاقة لعراقي بدكتوراه"؟‏
بينيت: ‏‏ما هي الطرق التي شكلَت بها تجاربك الشخصية في نشأتك كطفل في بغداد، وتواجدك في إسرائيل خلال الخدمة العسكرية، ثم الانتقال إلى لندن، وجهة نظرك كمؤرخ للمنطقة؟‏
آفي شلايم وعمره سنتان، برفقة والديه وأخته في بغداد، العراق، 1947 - (أرشيفية)
‏شلايم:‏‏ يعتقد الناس أنه في هذا الصراع، هناك إسرائيليون من جهة وجميع العرب من جهة أخرى، وأن العداء بينهم حتمي لا مفر منه. هذا هو السبب في أنني أركز بشدة على مفهوم العربي اليهودي. ويُظهر التاريخ الذي أصفه في هذا الكتاب أنه كان هناك وقت أمكن فيه لليهود والمسلمين والمسيحيين أن يعيشوا معًا في سعادة ووئام. بالنظر إلى الاستعمار الإسرائيلي والفصل العنصري في الضفة الغربية، من الصعب جدًا التفكير في حل سلمي لهذا الصراع، لكن التفكير في الماضي يمكِّنني من التفكير في مستقبل أفضل للمنطقة. وقد توصلت اليوم إلى استنتاج أن حل الدولتين للصراع قد مات، وأن الحل هو دولة واحدة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط، بحقوق متساوية لجميع مواطنيها، بغض النظر عن الدين والعرق. هذه الرؤية النبيلة لشرق أوسط جديد ترتكز إلى حد كبير على تاريخ عائلتي ومجتمعي في العراق.‏
‏*تسفي بن-دور بينيت‏‏ Zvi Ben-Dor Benite: أستاذ في قسم التاريخ وقسم الدراسات الشرق أوسطية والإسلامية في جامعة نيويورك. وهو مؤلف ‏‏كتب "طريق محمد: التاريخ الثقافي للمسلمين في أواخر عهد الصين الإمبراطورية"؛ و"‏‏القبائل العشر المفقودة: تأريخ للعالم"؛ ‏‏و"هلال الصين: الإسلام والأمة بعد الإمبراطورية‏"‏. وهو أيضا محرر ‏‏"الفكر اليهودي الشرق أوسطي".‏
‏*جوناثان شامير‏‏ Jonathan Shamir: زميل مجلة ‏‏ "تيارات يهودية‏‏"، ونائب رئيس التحرير السابق ‏‏لصحيفة "هآرتس‏‏".‏
*أفي شلايم Avi Shlaim: (مواليد بغداد، 31 تشرين الأول/ أكتوبر 1945): مؤرخ يهودي عراقي يحمل الجنسيتين البريطانية والإسرائيلية، وهو أستاذ العلاقات الدولية في جامعة أوكسفورد، وأحد المؤرخين الجدد.
‏*نشر هذا الحوار تحت عنوان: Weeping for Babylon.
هامش المترجم:
*إيلا حبيبة شوحط‏‏ Ella Habiba Shohat: أستاذة إسرائيلية أميركية، عراقية المولد، للدراسات الثقافية في ‏‏جامعة نيويورك‏‏، حيث تدرّس في أقسام الآداب والسياسة العامة ودراسات الشرق الأوسط والدراسات الإسلامية. كتبت وحاضرت في مواضيع ‏‏المركزية الأوروبية‏‏، ‏‏والاستشراق‏‏، ‏‏وما بعد الاستعمار‏‏، ‏‏والقومية العابرة للحدود‏‏، ‏‏وثقافات الشتات‏‏،‏ والثقافة ‏‏العراقية اليهودية‏‏.

نيسان ـ نشر في 2024-06-30 الساعة 07:19

الكلمات الأكثر بحثاً