حفلة التصفيق.. الدلالات النفسية لخطاب نتنياهو في الكونغرس
نيسان ـ الجزيرة ـ نشر في 2024-07-28 الساعة 08:38
نيسان ـ دون استدراكات كثيرة، وبلا تبرير أو تلكؤ أو التفات إلى الماضي، يفتتح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خطابه بقوله “هذا ليس صراع الحضارات، هذا صراع بين البربرية والتحضر”.
بحسب ألف باء علم النفس المعرفي، فإن ما يقوله المرء في البداية يُحدد جوهر الرسالة ومُبتغاها، يُعرَف هذا بانحياز إلقاء المرساة (Anchor Bias)، وهو انحياز إدراكي لا واعٍ يصف مَيل الناس التلقائي إلى التمسك بأول معلومة يتلقّونها، والارتكاز عليها لتفسير باقي الحديث وفهم كل التفاصيل اللاحقة من خلال الرسالة الأولى التي أُلقيت إليهم.
بهذا المُفتتح البسيط والمباشر حول حقيقة الصراع ستتأطر الأذهان لاحقا، وستعجز عن استشكال أي أزمة أخلاقية قد تُمليها عليهم ضمائرهم. المهم التقاطه هُنا أن خطاب نتنياهو في مطلعه كان يتحدث عما هو قادم، عن الحاضر والمستقبل، وليس عن الماضي والسابق، وهذا التأطير لتوجيه تطلعات الجماهير ومسامعهم وأبصارهم نحو القادم فيه توكيد غير واعٍ على المُضي قُدما في حرب الإبادة على غزة أكثر مما فيه التفات ومراجعات للماضي وتجاوزاته، وجرائم الحرب التي زخرت بها الأشهر التسعة الماضية منذ بداية الحرب في السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
دعنا ننقل التقرير إلى خطوة أخرى متقدمة في التحليل النفسي، إذ يمكن ملاحظة أن جميع مضامين الخطاب الذي ألقاه رئيس الوزراء الإسرائيلي واحتفى به أعضاء الكونغرس يُمثِّل الوصفة الرئيسية والتشخيص الفعلي لأولئك الذين يُعانون من قلق الموت. بعبارات أدق، محاور الخطاب الذي تبنّاه نتنياهو واستند إليه تتشابه حد التطابق مع المحاور ذاتها التي تحملها الجماعة والأفراد الذين يشعرون بتهديد وجودي بالاستئصال والزوال. ولكي نفهم ذلك، سنعود خطوة إلى الوراء.
هل تساءلت يوما: كيف يتصرف البشر عند تعرُّضهم لتهديد حقيقي أو كارثة مصيرية مثل حرب هائلة أو وباء فيروسي أو زلزال مدمر وكُل ما يُشكِّل تهديدا وجوديا مُحاطا بالموت واللايقين؟
ثمة نظرية شهيرة في علم النفس الاجتماعي وعلم النفس الوجودي تبحث في ذلك، تُسمى بنظرية إدارة الذعر (Terror Management Theory – TMT). تستخدم الشعوب والحضارات المُهدَّدة بقلق الزوال والموت إستراتيجيتَين رئيسيتين لتجاوز خوفها من الكارثة أو الموت:
في مشهد يندر أن تراه في الأروقة الغربية، نشهد تصفيقا حارا لخطاب نتنياهو منذ دخوله وعند كل جملة وعبارة يقولها، وهو مشهد لا يتكرر كثيرا، اللهم إلا إذا فتحت مقطعا لأحد قادة الدول "الاستبدادية" التي سترى معها كيف تُسارع الجماهير إلى التصفيق الحار عقب كل كلمة وعبارة بُغية إظهار الولاء والاحتفاء المبالغ فيه.
والسؤال النفسي هنا: لماذا يقوم الأشخاص بردود أفعال لا تتناسب من حيث النوع ولا المقدار مع الموقف الأساسي الذي يحصل أمامهم؟
ثمة إجابات عديدة عن ردود الأفعال غير اللائقة، سواء كان عدم التناسب كميا أم نوعيا، كإنسان يأخذ بالضحك الهستيري عند استقبال خبر وفاة والدته، أو كإنسان يُفرِط في السعادة أمام خبر يَعُدُّه معظم الناس عاديا، وكذلك هو الحال في خطاب الكونغرس، حين يكون التصفيق مُبالغا فيه ولا يفصل بين التصفيق والآخر سوى ثوانٍ معدودة. ويتطلب تفسير هذه الظاهرة الخوض في مختلف النظريات النفسية والأبحاث الحديثة في مجالات علم النفس والتحليل النفسي.
يمكن فهم ردة الفعل الهستيرية هذه من خلال حِيَل الدفاع النفسي بحسب التحليل النفسي بصيغته الفرويدية الكلاسيكية. تلعب آليتَا الدفاع النفسي اللتان تسميان بالإزاحة و"التكوين العكسي للشعور" دورا جوهريا في تفسير هذه السلوكيات. حين يُظهر الناس ردودَ أفعالٍ مبالغا فيها مثل التمجيد والتصفيق أكثر من المعتاد على تصريح سخيف من القائد، يُمكن للتكوين العكسي للشعور أن يُفسر عملية إعادة توجيه المشاعر السلبية نحو أهداف أكثر أمانا، وفي سياق التمجيد المُفرط للقائد أو الشخص المُتحدث، قد يُساعد مثل هذا التصفيق الحار الأتباع على حل المشاعر المعقدة مثل الخوف أو الذعر أو الاستياء وتحويله في سياق مشروع مثل فعل الثناء، مما يخلق منفذا مقبولا اجتماعيا لهذه المشاعر.
تلعب إزاحة المشاعر وتحويلها غاية وظيفية تتمثل في تقليل القلق والحد من المخاوف التي لا يُمكن السيطرة عليها، عن طريق تقليل التوتر الداخلي الناجم عن المشاعر المتضاربة حول سلطة القائد وأفعاله، بهذا المعنى فإن رد الفعل هذا هو آلية دفاعية للحفاظ على التوازن النفسي وتقليل سطوة المشاعر المتضاربة.
من المثير للاهتمام هنا أن الجزء الأكثر حرارة من التصفيق أتى تعبيرا عن مباركة وموافقة بالإجماع على مقولة رئيس الوزراء الإسرائيلي التي تستحضر سياسات التوحش أو ما يُسمى في الإطار الغربي مبدأ "Dog-eat-dog"، الذي يعني بالعربية "حرب البقاء" أو "صراع الكل ضد الكل". فالتعبير عن أن الصراع ليس صراعا بين حضارتين إنما هو إيذان بحقبة ما قبل حضارية، أو بأن ما سيكون هو استثناء عن الظروف الحضارية التقليدية التي اعتدنا مُشاهدتها، أي أنها رِدّة نحو الحلبة الداروينية من جديد، وهي ضرورة بطبيعة الحال لإنقاذ قيم الحضارة الغربية، التي فجأة صار معقلها الأوحد والأخير هو الكيان المحتل، وهو دمج حضاري صرّح به نتنياهو في مواضع عدة من خطابه عن الحلف الغربي الإسرائيلي باعتبار إسرائيل جناحا متقدما للدفاع عن القيم الغربية في الشرق الأوسط.
بحسب ألف باء علم النفس المعرفي، فإن ما يقوله المرء في البداية يُحدد جوهر الرسالة ومُبتغاها، يُعرَف هذا بانحياز إلقاء المرساة (Anchor Bias)، وهو انحياز إدراكي لا واعٍ يصف مَيل الناس التلقائي إلى التمسك بأول معلومة يتلقّونها، والارتكاز عليها لتفسير باقي الحديث وفهم كل التفاصيل اللاحقة من خلال الرسالة الأولى التي أُلقيت إليهم.
بهذا المُفتتح البسيط والمباشر حول حقيقة الصراع ستتأطر الأذهان لاحقا، وستعجز عن استشكال أي أزمة أخلاقية قد تُمليها عليهم ضمائرهم. المهم التقاطه هُنا أن خطاب نتنياهو في مطلعه كان يتحدث عما هو قادم، عن الحاضر والمستقبل، وليس عن الماضي والسابق، وهذا التأطير لتوجيه تطلعات الجماهير ومسامعهم وأبصارهم نحو القادم فيه توكيد غير واعٍ على المُضي قُدما في حرب الإبادة على غزة أكثر مما فيه التفات ومراجعات للماضي وتجاوزاته، وجرائم الحرب التي زخرت بها الأشهر التسعة الماضية منذ بداية الحرب في السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
دعنا ننقل التقرير إلى خطوة أخرى متقدمة في التحليل النفسي، إذ يمكن ملاحظة أن جميع مضامين الخطاب الذي ألقاه رئيس الوزراء الإسرائيلي واحتفى به أعضاء الكونغرس يُمثِّل الوصفة الرئيسية والتشخيص الفعلي لأولئك الذين يُعانون من قلق الموت. بعبارات أدق، محاور الخطاب الذي تبنّاه نتنياهو واستند إليه تتشابه حد التطابق مع المحاور ذاتها التي تحملها الجماعة والأفراد الذين يشعرون بتهديد وجودي بالاستئصال والزوال. ولكي نفهم ذلك، سنعود خطوة إلى الوراء.
هل تساءلت يوما: كيف يتصرف البشر عند تعرُّضهم لتهديد حقيقي أو كارثة مصيرية مثل حرب هائلة أو وباء فيروسي أو زلزال مدمر وكُل ما يُشكِّل تهديدا وجوديا مُحاطا بالموت واللايقين؟
ثمة نظرية شهيرة في علم النفس الاجتماعي وعلم النفس الوجودي تبحث في ذلك، تُسمى بنظرية إدارة الذعر (Terror Management Theory – TMT). تستخدم الشعوب والحضارات المُهدَّدة بقلق الزوال والموت إستراتيجيتَين رئيسيتين لتجاوز خوفها من الكارثة أو الموت:
في مشهد يندر أن تراه في الأروقة الغربية، نشهد تصفيقا حارا لخطاب نتنياهو منذ دخوله وعند كل جملة وعبارة يقولها، وهو مشهد لا يتكرر كثيرا، اللهم إلا إذا فتحت مقطعا لأحد قادة الدول "الاستبدادية" التي سترى معها كيف تُسارع الجماهير إلى التصفيق الحار عقب كل كلمة وعبارة بُغية إظهار الولاء والاحتفاء المبالغ فيه.
والسؤال النفسي هنا: لماذا يقوم الأشخاص بردود أفعال لا تتناسب من حيث النوع ولا المقدار مع الموقف الأساسي الذي يحصل أمامهم؟
ثمة إجابات عديدة عن ردود الأفعال غير اللائقة، سواء كان عدم التناسب كميا أم نوعيا، كإنسان يأخذ بالضحك الهستيري عند استقبال خبر وفاة والدته، أو كإنسان يُفرِط في السعادة أمام خبر يَعُدُّه معظم الناس عاديا، وكذلك هو الحال في خطاب الكونغرس، حين يكون التصفيق مُبالغا فيه ولا يفصل بين التصفيق والآخر سوى ثوانٍ معدودة. ويتطلب تفسير هذه الظاهرة الخوض في مختلف النظريات النفسية والأبحاث الحديثة في مجالات علم النفس والتحليل النفسي.
يمكن فهم ردة الفعل الهستيرية هذه من خلال حِيَل الدفاع النفسي بحسب التحليل النفسي بصيغته الفرويدية الكلاسيكية. تلعب آليتَا الدفاع النفسي اللتان تسميان بالإزاحة و"التكوين العكسي للشعور" دورا جوهريا في تفسير هذه السلوكيات. حين يُظهر الناس ردودَ أفعالٍ مبالغا فيها مثل التمجيد والتصفيق أكثر من المعتاد على تصريح سخيف من القائد، يُمكن للتكوين العكسي للشعور أن يُفسر عملية إعادة توجيه المشاعر السلبية نحو أهداف أكثر أمانا، وفي سياق التمجيد المُفرط للقائد أو الشخص المُتحدث، قد يُساعد مثل هذا التصفيق الحار الأتباع على حل المشاعر المعقدة مثل الخوف أو الذعر أو الاستياء وتحويله في سياق مشروع مثل فعل الثناء، مما يخلق منفذا مقبولا اجتماعيا لهذه المشاعر.
تلعب إزاحة المشاعر وتحويلها غاية وظيفية تتمثل في تقليل القلق والحد من المخاوف التي لا يُمكن السيطرة عليها، عن طريق تقليل التوتر الداخلي الناجم عن المشاعر المتضاربة حول سلطة القائد وأفعاله، بهذا المعنى فإن رد الفعل هذا هو آلية دفاعية للحفاظ على التوازن النفسي وتقليل سطوة المشاعر المتضاربة.
من المثير للاهتمام هنا أن الجزء الأكثر حرارة من التصفيق أتى تعبيرا عن مباركة وموافقة بالإجماع على مقولة رئيس الوزراء الإسرائيلي التي تستحضر سياسات التوحش أو ما يُسمى في الإطار الغربي مبدأ "Dog-eat-dog"، الذي يعني بالعربية "حرب البقاء" أو "صراع الكل ضد الكل". فالتعبير عن أن الصراع ليس صراعا بين حضارتين إنما هو إيذان بحقبة ما قبل حضارية، أو بأن ما سيكون هو استثناء عن الظروف الحضارية التقليدية التي اعتدنا مُشاهدتها، أي أنها رِدّة نحو الحلبة الداروينية من جديد، وهي ضرورة بطبيعة الحال لإنقاذ قيم الحضارة الغربية، التي فجأة صار معقلها الأوحد والأخير هو الكيان المحتل، وهو دمج حضاري صرّح به نتنياهو في مواضع عدة من خطابه عن الحلف الغربي الإسرائيلي باعتبار إسرائيل جناحا متقدما للدفاع عن القيم الغربية في الشرق الأوسط.


