'ولي دونكم أهلون' صعلكة المحبين في نص راشد عيسى
نيسان ـ الدستور ـ نشر في 2024-08-09 الساعة 11:06
x
نيسان ـ زياد صالح الزعبي
يستعير راشد عيسى عنوان نصه «نوفيلا رعوية» شطر بيت من قصيدة «لامية العرب» الشهيرة للشنفرى، ويترك للقارئ استكمال بقية النص، وهو نص يمثل خروجا وتمردا عنيفا على مجتمع محكوم بالعنف والنفي لكل من يراه غير خاضع لثروته أو لسلطته. وبيت الشنفرى:
ولي دونكم أهلون سيد عملس
وأرقط زهلول وعرفاء جيأل
والبيت في جزء من شطره الأول يحمل فكرة الاستبدال والخروج على مجتمعه ويؤكد إيجاد مجتمع وأهل جدد ينتمي إليهم، وهم الحاضرون في الصيغة اللغوية الغريبة الوحشية: الذئب الخبيث السريع، والنمر الأرقط، والضبع الشرس. ونلحظ هنا أن الشنفرى اختار أهله الجدد من الحيوانات المتوحشة المفترسة التي رأى أنهم الأهل الذين لا يذيعون سره، ولا يخذلونه. وهذا اختيار معبر تعبيرا حادا عن حالة انكسار العلاقة بين الشاعر وقومه الذين يجد بديلهم في عالم آخر؛ عالم الحيوانات المتوحشة المفترسة التي رأى فيه الشنفرى البديل للأسرة أو القبيلة أو النظام الاجتماعي الذي أعلن خروجه عليه، ولذا فإنه يعلن رحيله وانفصاله عنه، لأنه لم يعد قادرا على احتمال الظلم والأذى، فيأتي إعلانه عن مجتمعه الجديد إعلانا يجسد انفصاله العنيف الذي سيقوده إلى إيجاد مكان في هذا الكون يمنحه معنى وجوده، ويخلصه من صور الظلم والكراهية والاحتقار. فهذه الكائنات المتوحشة المفترسة غدت ممثلة لصور الحفاظ والحماية التي افتقدها عند البشر، فكان عليه أن يفر إلى هناك، وأن يصبح خارج المكان وبعيدا عن الناس.
وراشد عيسى حين يضع عنوان «لي دونكم أهلون...» فإنه يعلن أن ليس أمامه سوى الفرار من هنا والذهاب إلى هناك حيث يمكن أن يجد مكانا يعيش فيه، مكانا يمنحنه صور الإنسانية المفقودة، مكانا فيه لمن خاف القلى متعزل، وفيه يقيم ألفة خيالية مدهشة مع الكائنات الحية: الحيوانات، والبشر، بل والجمادات كذلك، ألفة تراوح بين واقع وخيال، وتجعلنا ندرك أن المحبة قادرة على أنسنة الكائنات كلها، وتقريبها منا وتقريبنا منها، فما اعتدنا توحشه يغدو أليفا ودودا محبا يفارق ما نظن أنه طبيعته، فما أن تمنح نفسك للآخرين حتى ترى كيف يمنحونك ذواتهم، فتعيش في كنف محبتهم ورعايتهم وحنانهم. ستغدو لك أم وحبيبة مكان الأم البيولوجية، ستحل امرأة من هناك مكان الأم والحبيبة، ويغدو شيخ القبيلة ورجاله الذين يحل بينهم صورا للسلام والمحبة، ونماذج إنسانية فائقة تمثل ردا على نموذج متفرد في المحبة التي منحها إياهم «فرخ الجن عسال» الشخصية الرئيسة في النص الذي تعلق بالمكان الجديد الغريب وكائناته، فجذب إليه البشر والحيوانات والكائنات الغريبة التي يعرفها أول مرة. لقد تحول المكان الهامشي المعزول الغريب إلى مكان للسلام والأمن والدعة المقرونة بالرضا والقناعة.
هنا تحضر صورة الشنفرى معراة من العنف ومسربلة بالمحبة التي تحل مكان العنف وتقوم بدوره. هنا في المكان الغريب منح عسال نفسه وماله للآخرين، وغدا نموذجا غريبا في أرض غريبة، جذب إليه البشر والحيوانات ومظاهر الطبيعة الصامتة، وهي حال تناقض حال الشنفرى الذي مارس العنف في أقصى صوره، فهو لم يتورع عن القتل وتلبس صورة الجن الذي يظهر ويختفي دون أن يحس به أحد، في مقابل عسال الذي مثل روحا محكوما بالمحبة والبذل الذي يجاوز المألوف في عالم البشر.
- لكن راشد عيسى يختار في «رعويته» طريق الرشد والسلام والمحبة والسخرية، فيقدم لنا نصا ممتعا مرة يجعلنا نضحك معه، ويشعرنا بقسوة البشر من حوله أخرى، فهو يغدو حينا «فرخ الجن» بعد أن سابقا حفيد الجن، وهذا غرام لطيف بالجن وتمثله، غرام يخلقه وينتجه عنف اقتصادي اجتماعي يحول بينه وبين الدراسة في الجامعة، فيلجأ إلى طريق وعالم بديل ناء غريب تعمره الكائنات التي لم تغادر الطبيعة بعد، ولم تكن قد عرفت ما تخبئه الصحراء من زيت أسود، فيغدو في هذا العالم الراعي والمحب الذي يبذل ماله ونفسه للآخرين.
فعسال الشخصية الرئيسة في النص يظهر بدءا بناب ذئب تحت إبطه ورثه عن أبيه عن جده؛ ليرد عنه الشر ويحول بينه وبين عيون الحساد، هكذا يجد القارئ نفسه أمام نموذج مسكون بهواجس أفعال الشعوذة الأسطورية التي كانت تمارس في الواقع. هذه الأفعال المنبثقة من واقع النكبة الفلسطينية التي ألجأت المشردين من الشعب ومنهم عائلة عسال إلى العيش في مغارة عاش فيها عسال سنوات عمره الأولى. ومن هنا وبدءا بالصفحة الأولى من نص راشد يدرك القارئ أنه أمام نص يمزج الواقع بالمتخيل، ويدخل البعد السيرذاتي في الخطاب السردي، وهذا ما يدفع إلى الربط بين عسال وراشد على نحو تتداخل فيه الصورتان والصوتان، كما يتداخل الواقع بالمتخيل.
حين يقتلك الأب
تبرز في البنية الاجتماعية سطوة الأب وعنفه غير المبرر سوى كونه ينبثق من بنية سيكولوجية معقدة يحكمها جنون العظمة والنرجسية المعمية التي تجعل صاحبها غير قادر على رؤية الاخرين أو العناية بهم، بل يراهم منافسين ينبغي التخلص منهم، حتى لو كانوا أولاده، مما يدفعه إلى ممارسة العنف في أقصى وأقسى صوره، وهذا ما ينسحب كذلك على الأم التي تمارس عنفا يوائم عنف الأب الذي تعيش في كنفه كدجاجة مذعورة، فهي لا تتورع عن أن تشي بالصبي إلى أبيه؛ ليضربه ويفرغ حقده على الحياة به، بل إنها ظلت تنادي» عسال» بفرخ الجن مقرنة ذلك بعبارة « ربي يقصف عمرك». هذه البيئة العائلية المرعبة التي وجد فيها عسال نفسه تدفعه إلى البحث عن بديل وجده ابتداء في البقرة الهولندية التي يتنافس مع عجلها على عب الحليب من ضرعها. هذا السلوك الطفولي المبكر ينبئ عن سعي للفرار من عالم البشر القساة إلى عالم يمكن أن يمنحك بعض إشباع وسكينة، وهو عالم الحيوان؛ العالم الذي يغنيه عن الحاجة إلى رعاية الأب أو الأم.
بحثا عن « أهلون»:
حين تملك الإرادة فلا بد لك من البحث عن الخلاص من «هنا»: المكان والناس والقسوة والعنف، لتصل إلى «هناك» حيث تستطيع أن تجد ذاتك، وأن ترسم ملامح كونك كما تريده، ستتخلص من قسوة جرحت جسدك وروحك، وتفلت من فاقة أثقلتك إلى غنى تصنعه، ومن بؤس ممض إلى دعة مطمئنة. هذا ما مثله راشد عيسى في شخصية عسال التي تتماهى مع الذات - المؤلفة في آفاقها المتخيلة حينا وفي واقعها المشظى أحيانا. فعسال، فرخ الجن هذا، يفلت من واقعه المر ليرسم ملامح لواقع « حلو» جديد هناك، يفلت من المغارة والأب والأم والمجتمع والبؤس بفضل معرفة وإدراك يمكنه من فهم ذاته ومحيطه، والذهاب بعيدا، سيترك حياة المدينة مارا بدءا بالعاصمة عمان التي تشعره بالعنف مضاعفا في صورة يد فارغة تجعله محكوما بفكرة وحيدة « الرحيل» إلى مكان أثير هو الصحراء.
ذهب عسال في رحلة عامرة بالأحداث الطريفة التي تتولد من شخصيته وبؤسه وفقره ورضاه وقناعته، وقدرته على احتضان الناس الذين يلقاهم، والطبيعة التي يعاينها لأول مرة، فهو يصل الرياض على متن طائرة وفي جيبه دينار واحد، ولكنه يلقى هنا من يفهم حاله، فهو المدرس البائس الذي سيذهب إلى قرية نائية في الصحراء حيث يكتشف فيها ذاته من خلال قدرة ورؤية وإرادة تمكنه من التواصل الفعال مع الناس والحيوانات والجمادات. هنا يدخل عسال عالما جديدا.
عسال يجد أهلا
في قرية صحراوية نائية لا يزيد عدد بيوتها على أربعة عشر بيتا يجد عسال طريقه الحق إلى حياة يشكلها هو ، ويكون معالمها، ويرسم ملامحها من خلال علاقته بالمكان وأهله وكائناته، فهو يدرك أنه هنا سيجد ذاته، سيحب الناس ويغدق عليهم من القليل الذي يملك، في فعل مناقض لفعل أبيه به، وهو ما جعل الناس في المكان الغريب البدائي الخشن يحبون شخصا جاء طلبا للعمل وللمال في بلاد النفط ، ولكنه يتنازل عن كل ما يملك لأهله الجدد، فيجد أما وحبيبة مناير، ويجد شيخ القرية يكرمه ويقربه، ويعمل في بيئة بائسة يسكنها البؤس والفقر على تغيير ملامحها، وهو بهذا يؤمن بأن المحبة تؤنسن حتى الكائنات المتوحشة، وهو ما يجد القارئ صوره ماثلة في النص، فمأوى عسال يغدو مأوى للحمام للقط والحمامة والكلب والخفاش، بل إن أشياء المأوى مثل السراج يقرر أن عسال منحه حياة بهيجة، أما قبر حاتم الطائي فيدرك لطف هذا الشاب العربي، وكذلك قبر أمه الذي خاطبه عسال «أنت أعظم امرأة أنجبت أعظم رجل»، وهذه المقولة تمثل عسال الذي آمن بأن الكرم فضيلة تلم الناس من حولك وتخلد ذكرك، وهو الفعل الذي مارسه عسال حين تنازل عما يملك للناس والكائنات الحيوانية ورأى كيف غدت تدور في فلكه ودودة محبة.
لقد عمل عسال في البيئة الغريبة النائية على جعل الطريق سالكة، وعلى جلب الماء الذي يحيي كل شيء وعلى جعل المدرسة تبدو مكانا مختلفا. والأهم من هذا كله أنه «حول قلب مناير الأم والحبية إلى حديقة للطيور المغردة فلغته معها وهداياه لها جعلها تغدو زهرة خزامى، إذا نامت تقافزت كلمات عسال تحت لحافها كما فراخ القطا تتعلم الطيران أول مرة». إنه الشعر يا راشد وإنك الشاعر المحب الذي داعب الكائنات بحب وكرم جعلها تهفو إليه.
يستعير راشد عيسى عنوان نصه «نوفيلا رعوية» شطر بيت من قصيدة «لامية العرب» الشهيرة للشنفرى، ويترك للقارئ استكمال بقية النص، وهو نص يمثل خروجا وتمردا عنيفا على مجتمع محكوم بالعنف والنفي لكل من يراه غير خاضع لثروته أو لسلطته. وبيت الشنفرى:
ولي دونكم أهلون سيد عملس
وأرقط زهلول وعرفاء جيأل
والبيت في جزء من شطره الأول يحمل فكرة الاستبدال والخروج على مجتمعه ويؤكد إيجاد مجتمع وأهل جدد ينتمي إليهم، وهم الحاضرون في الصيغة اللغوية الغريبة الوحشية: الذئب الخبيث السريع، والنمر الأرقط، والضبع الشرس. ونلحظ هنا أن الشنفرى اختار أهله الجدد من الحيوانات المتوحشة المفترسة التي رأى أنهم الأهل الذين لا يذيعون سره، ولا يخذلونه. وهذا اختيار معبر تعبيرا حادا عن حالة انكسار العلاقة بين الشاعر وقومه الذين يجد بديلهم في عالم آخر؛ عالم الحيوانات المتوحشة المفترسة التي رأى فيه الشنفرى البديل للأسرة أو القبيلة أو النظام الاجتماعي الذي أعلن خروجه عليه، ولذا فإنه يعلن رحيله وانفصاله عنه، لأنه لم يعد قادرا على احتمال الظلم والأذى، فيأتي إعلانه عن مجتمعه الجديد إعلانا يجسد انفصاله العنيف الذي سيقوده إلى إيجاد مكان في هذا الكون يمنحه معنى وجوده، ويخلصه من صور الظلم والكراهية والاحتقار. فهذه الكائنات المتوحشة المفترسة غدت ممثلة لصور الحفاظ والحماية التي افتقدها عند البشر، فكان عليه أن يفر إلى هناك، وأن يصبح خارج المكان وبعيدا عن الناس.
وراشد عيسى حين يضع عنوان «لي دونكم أهلون...» فإنه يعلن أن ليس أمامه سوى الفرار من هنا والذهاب إلى هناك حيث يمكن أن يجد مكانا يعيش فيه، مكانا يمنحنه صور الإنسانية المفقودة، مكانا فيه لمن خاف القلى متعزل، وفيه يقيم ألفة خيالية مدهشة مع الكائنات الحية: الحيوانات، والبشر، بل والجمادات كذلك، ألفة تراوح بين واقع وخيال، وتجعلنا ندرك أن المحبة قادرة على أنسنة الكائنات كلها، وتقريبها منا وتقريبنا منها، فما اعتدنا توحشه يغدو أليفا ودودا محبا يفارق ما نظن أنه طبيعته، فما أن تمنح نفسك للآخرين حتى ترى كيف يمنحونك ذواتهم، فتعيش في كنف محبتهم ورعايتهم وحنانهم. ستغدو لك أم وحبيبة مكان الأم البيولوجية، ستحل امرأة من هناك مكان الأم والحبيبة، ويغدو شيخ القبيلة ورجاله الذين يحل بينهم صورا للسلام والمحبة، ونماذج إنسانية فائقة تمثل ردا على نموذج متفرد في المحبة التي منحها إياهم «فرخ الجن عسال» الشخصية الرئيسة في النص الذي تعلق بالمكان الجديد الغريب وكائناته، فجذب إليه البشر والحيوانات والكائنات الغريبة التي يعرفها أول مرة. لقد تحول المكان الهامشي المعزول الغريب إلى مكان للسلام والأمن والدعة المقرونة بالرضا والقناعة.
هنا تحضر صورة الشنفرى معراة من العنف ومسربلة بالمحبة التي تحل مكان العنف وتقوم بدوره. هنا في المكان الغريب منح عسال نفسه وماله للآخرين، وغدا نموذجا غريبا في أرض غريبة، جذب إليه البشر والحيوانات ومظاهر الطبيعة الصامتة، وهي حال تناقض حال الشنفرى الذي مارس العنف في أقصى صوره، فهو لم يتورع عن القتل وتلبس صورة الجن الذي يظهر ويختفي دون أن يحس به أحد، في مقابل عسال الذي مثل روحا محكوما بالمحبة والبذل الذي يجاوز المألوف في عالم البشر.
- لكن راشد عيسى يختار في «رعويته» طريق الرشد والسلام والمحبة والسخرية، فيقدم لنا نصا ممتعا مرة يجعلنا نضحك معه، ويشعرنا بقسوة البشر من حوله أخرى، فهو يغدو حينا «فرخ الجن» بعد أن سابقا حفيد الجن، وهذا غرام لطيف بالجن وتمثله، غرام يخلقه وينتجه عنف اقتصادي اجتماعي يحول بينه وبين الدراسة في الجامعة، فيلجأ إلى طريق وعالم بديل ناء غريب تعمره الكائنات التي لم تغادر الطبيعة بعد، ولم تكن قد عرفت ما تخبئه الصحراء من زيت أسود، فيغدو في هذا العالم الراعي والمحب الذي يبذل ماله ونفسه للآخرين.
فعسال الشخصية الرئيسة في النص يظهر بدءا بناب ذئب تحت إبطه ورثه عن أبيه عن جده؛ ليرد عنه الشر ويحول بينه وبين عيون الحساد، هكذا يجد القارئ نفسه أمام نموذج مسكون بهواجس أفعال الشعوذة الأسطورية التي كانت تمارس في الواقع. هذه الأفعال المنبثقة من واقع النكبة الفلسطينية التي ألجأت المشردين من الشعب ومنهم عائلة عسال إلى العيش في مغارة عاش فيها عسال سنوات عمره الأولى. ومن هنا وبدءا بالصفحة الأولى من نص راشد يدرك القارئ أنه أمام نص يمزج الواقع بالمتخيل، ويدخل البعد السيرذاتي في الخطاب السردي، وهذا ما يدفع إلى الربط بين عسال وراشد على نحو تتداخل فيه الصورتان والصوتان، كما يتداخل الواقع بالمتخيل.
حين يقتلك الأب
تبرز في البنية الاجتماعية سطوة الأب وعنفه غير المبرر سوى كونه ينبثق من بنية سيكولوجية معقدة يحكمها جنون العظمة والنرجسية المعمية التي تجعل صاحبها غير قادر على رؤية الاخرين أو العناية بهم، بل يراهم منافسين ينبغي التخلص منهم، حتى لو كانوا أولاده، مما يدفعه إلى ممارسة العنف في أقصى وأقسى صوره، وهذا ما ينسحب كذلك على الأم التي تمارس عنفا يوائم عنف الأب الذي تعيش في كنفه كدجاجة مذعورة، فهي لا تتورع عن أن تشي بالصبي إلى أبيه؛ ليضربه ويفرغ حقده على الحياة به، بل إنها ظلت تنادي» عسال» بفرخ الجن مقرنة ذلك بعبارة « ربي يقصف عمرك». هذه البيئة العائلية المرعبة التي وجد فيها عسال نفسه تدفعه إلى البحث عن بديل وجده ابتداء في البقرة الهولندية التي يتنافس مع عجلها على عب الحليب من ضرعها. هذا السلوك الطفولي المبكر ينبئ عن سعي للفرار من عالم البشر القساة إلى عالم يمكن أن يمنحك بعض إشباع وسكينة، وهو عالم الحيوان؛ العالم الذي يغنيه عن الحاجة إلى رعاية الأب أو الأم.
بحثا عن « أهلون»:
حين تملك الإرادة فلا بد لك من البحث عن الخلاص من «هنا»: المكان والناس والقسوة والعنف، لتصل إلى «هناك» حيث تستطيع أن تجد ذاتك، وأن ترسم ملامح كونك كما تريده، ستتخلص من قسوة جرحت جسدك وروحك، وتفلت من فاقة أثقلتك إلى غنى تصنعه، ومن بؤس ممض إلى دعة مطمئنة. هذا ما مثله راشد عيسى في شخصية عسال التي تتماهى مع الذات - المؤلفة في آفاقها المتخيلة حينا وفي واقعها المشظى أحيانا. فعسال، فرخ الجن هذا، يفلت من واقعه المر ليرسم ملامح لواقع « حلو» جديد هناك، يفلت من المغارة والأب والأم والمجتمع والبؤس بفضل معرفة وإدراك يمكنه من فهم ذاته ومحيطه، والذهاب بعيدا، سيترك حياة المدينة مارا بدءا بالعاصمة عمان التي تشعره بالعنف مضاعفا في صورة يد فارغة تجعله محكوما بفكرة وحيدة « الرحيل» إلى مكان أثير هو الصحراء.
ذهب عسال في رحلة عامرة بالأحداث الطريفة التي تتولد من شخصيته وبؤسه وفقره ورضاه وقناعته، وقدرته على احتضان الناس الذين يلقاهم، والطبيعة التي يعاينها لأول مرة، فهو يصل الرياض على متن طائرة وفي جيبه دينار واحد، ولكنه يلقى هنا من يفهم حاله، فهو المدرس البائس الذي سيذهب إلى قرية نائية في الصحراء حيث يكتشف فيها ذاته من خلال قدرة ورؤية وإرادة تمكنه من التواصل الفعال مع الناس والحيوانات والجمادات. هنا يدخل عسال عالما جديدا.
عسال يجد أهلا
في قرية صحراوية نائية لا يزيد عدد بيوتها على أربعة عشر بيتا يجد عسال طريقه الحق إلى حياة يشكلها هو ، ويكون معالمها، ويرسم ملامحها من خلال علاقته بالمكان وأهله وكائناته، فهو يدرك أنه هنا سيجد ذاته، سيحب الناس ويغدق عليهم من القليل الذي يملك، في فعل مناقض لفعل أبيه به، وهو ما جعل الناس في المكان الغريب البدائي الخشن يحبون شخصا جاء طلبا للعمل وللمال في بلاد النفط ، ولكنه يتنازل عن كل ما يملك لأهله الجدد، فيجد أما وحبيبة مناير، ويجد شيخ القرية يكرمه ويقربه، ويعمل في بيئة بائسة يسكنها البؤس والفقر على تغيير ملامحها، وهو بهذا يؤمن بأن المحبة تؤنسن حتى الكائنات المتوحشة، وهو ما يجد القارئ صوره ماثلة في النص، فمأوى عسال يغدو مأوى للحمام للقط والحمامة والكلب والخفاش، بل إن أشياء المأوى مثل السراج يقرر أن عسال منحه حياة بهيجة، أما قبر حاتم الطائي فيدرك لطف هذا الشاب العربي، وكذلك قبر أمه الذي خاطبه عسال «أنت أعظم امرأة أنجبت أعظم رجل»، وهذه المقولة تمثل عسال الذي آمن بأن الكرم فضيلة تلم الناس من حولك وتخلد ذكرك، وهو الفعل الذي مارسه عسال حين تنازل عما يملك للناس والكائنات الحيوانية ورأى كيف غدت تدور في فلكه ودودة محبة.
لقد عمل عسال في البيئة الغريبة النائية على جعل الطريق سالكة، وعلى جلب الماء الذي يحيي كل شيء وعلى جعل المدرسة تبدو مكانا مختلفا. والأهم من هذا كله أنه «حول قلب مناير الأم والحبية إلى حديقة للطيور المغردة فلغته معها وهداياه لها جعلها تغدو زهرة خزامى، إذا نامت تقافزت كلمات عسال تحت لحافها كما فراخ القطا تتعلم الطيران أول مرة». إنه الشعر يا راشد وإنك الشاعر المحب الذي داعب الكائنات بحب وكرم جعلها تهفو إليه.