اتصل بنا
 

طلع البدر علينا: أنشودة الهجرة في الموسيقى السيمفونية

نيسان ـ نشر في 2024-09-17 الساعة 10:52

x
نيسان ـ ضوء القمر (طلع البدر) مقطوعة سيمفونية للبيانو والأوركسترا أصدرها مالك جندلي عام 2015، تم تسجيلها في موسكو بمصاحبة الأوركسترا الروسية الفيلهارمونية بقيادة المايسترو سيرجي كوندراشيف. تندرج هذه المقطوعة في إطار عمله على حفظ التراث العربي وتقديمه عالمياً من خلال الأعمال السيمفونية الجادة، وتوظيف المقامات الشرقية والألحان العربية بطريقة أكاديمية ضمن قوالب ونظريات علم الهارموني للموسيقى الكلاسيكية. ذهب مالك جندلي هذه المرة إلى نشيد قديم يحفظه كل عربي مسلم منذ طفولته «طلع البدر علينا من ثنيات الوداع.. وجب الشكر علينا ما دعا لله داع.. أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع.. جئت شرّفت المدينة مرحباً يا خير داع». ذلك النشيد الذي استقبل به الأنصار من أهل يثرب أو المدينة المنورة المهاجرين من أهل مكة مع الرسول الكريم محمد منذ ما يزيد على 1400 عام. كان استقبال الأنصار للرسول والمهاجرين بهذا النشيد على وقع الدفوف فرحاً وترحيباً، وكان أيضاً بمثابة إعلان عن بداية ملحمة سوف يُضرب بها المثل في معاني وقيم الإخاء والإيثار، والبذل والعطاء ونصرة المظلوم المهجّر قسراً من أرضه ودياره.
وظّف الموسيقار مالك جندلي لحن النشيد في مقطوعته الموسيقية البحتة، دون كلمات وغناء، وقد يشعر السامع أحياناً بأن المقاطع الخاصة بثيمة طلع البدر تبدو كمجموعة من المرددين، أو أنها تحل محل الكورال، كأن الموسيقى هي من تقوم بالإنشاد، كما أن التقطيع والتصاعد والعلو النغمي يوحي بأن الكورال أوبرالي في هذه الحالة، وأنه يدخل لمواكبة القطعة الموسيقية بخطوطها اللحنية الأخرى. تتكرر ثيمة طلع البدر وتتعدد صورها وتحويراتها المختلفة والتنويعات من حولها، لحن النشيد القديم نابع في الأصل من الكلمات ذاتها وإيقاعها الشعري وميزان الأبيات وتنغيم الصوت عند الغناء، والمعروف أن نشيد طلع البدر عندما غناه الأنصار قديماً لم تكن تصاحبه أي موسيقى سوى ضربات الدفوف.
عند الاستماع إلى لحن النشيد في هذا العمل، تستطيع الأذن العربية على وجه الخصوص، أن تتعرف عليه فوراً، ذلك أنه لا يوجد تغيير يُضيع ملامح اللحن ويجعله عصياً على التمييز والتتبع، لكننا في الوقت نفسه نستمع إلى طلع البدر في شكل موسيقي جديد تماماً، حيث حولّه مالك جندلي إلى أسمى أشكال الموسيقى العالمية، وأرفعها وأعقدها تركيباً، وعالجها بأسلوب أكاديمي وفق نظريات التأليف الموسيقي، يستطيع كل سامع أن يتذوق جمال هذا الأسلوب السيمفوني بهارمونيته البديعة وثرائه الأوركسترالي ونسيجه البوليفوني والكونترابنطي.
مالك جندلي
يحمل هذا العمل إلى جانب قيمته الفنية الجمالية رسالة غاية في الأهمية، فهو يقدم إلى العالم بلغة الموسيقى السيمفونية الرفيعة أقدم أنشودة مرتبطة بتاريخ الإسلام منذ بدايات عهده، ويوضح أن المسلمين كغيرهم من البشر على هذه الأرض كان احتياجهم إلى الفن احتياجاً فطرياً من أجل التعبير عن أنفسهم وترجمة مشاعرهم، سواء كان ذلك عن طريق النغم أو الرسم أو الشعر والغناء، فالإنسان كان يبحث عن الموسيقى دائماً، وإن لم تتوفر لديه آلات العزف كان يصنع الموسيقى بأي شكل ممكن حتى إن كان من خلال الغناء والكلام الموزون المنغم.
نشيد طلع البدر نشيد قصير يسير على وتيرة منتظمة، ولحنه هو لحن الكلمات وإيقاعها وتنغيم إلقائها، هذا اللحن وظفّه مالك جندلي في مقطوعته الموسيقية كثيمة رئيسية أو كثيمة أولى، حيث يتحول هذا النشيد هنا إلى موسيقى سيمفونية رفيعة في أدق وأحكم صورها الأوركسترالية والهارمونية، يستمع إليها المتلقي العربي فيتذوق جمالاً أخاذاً جديداً لأنشودة يحفظها عن ظهر قلب، ويستمع إليها المتلقي الغربي فيتعرف على وجه من وجوه الثقافة العربية الإسلامية، وعلى جانب فني متأصل فيها، ويعرف قصة هذه المقطوعة السيمفونية الرائعة ومن أين جاء إلهامها. قام مالك جندلي بتوزيع المقطوعة على عدة آلات موسيقية، فهناك البيانو الذي يقوم هو بالعزف عليه، وهناك من آلات الأوركسترا مجموعة الهوائيات الخشبية التي تضم (آلتي فلوت، آلتي أوبوا، آلتي كلارينيت، آلتي باصون) ومجموعة النحاسيات النفخية التي تضم (4 أبواق فرنسية، 2 ترومبيت، 3 ترومبون، آلة توبا واحدة) بالإضافة إلى التيمباني وعدة آلات أخرى من الآلات الإيقاعية، والهارب ومجموعة الوتريات التي تضم الكمان الأول والثاني والفيولا والتشيللو والكونتراباص، تقوم كل آلة من الآلات الموسيقة بأداء دورها، وفق النظام المحدد والأثر المطلوب خلقه في نفس المتلقي في هذه اللحظة أو تلك.
يستغرق عزف المقطوعة 4 دقائق ونصف الدقيقة، يستمتع خلالها المتلقي بجماليات الموسيقى المختلفة، وبراعة المعالجة للنشيد القديم وإعادة تقديمه في هذا الشكل الموسيقي العالمي، حيث الهارموني وتآلف الأنغام، وتعدد الأصوات المسموعة والنسيج البوليفوني الرائع، والكونترابنط، حيث الخطوط اللحنية المستقلة التي تُسمع معاً. تبدأ المقطوعة بالخط اللحني الأساسي أو الأول الذي تؤديه الوتريات بتوقيع منتظم، ومن ثم تلتحق به عدة خطوط لحنية أخرى، يكون أولها ثيمة طلع البدر أو لحن النشيد المعروف، حيث يكون مقسماً بين الكلارينيت والوتريات في البداية، ثم يدخل البيانو كلحن جديد بنغمات معارضة لما نسمعه من بقية ثيمة طلع البدر، بعد ذلك يبرز صوت البيانو المنفرد ليعزف الثيمة الثانية الأساسية في المقطوعة، وهي ثيمة جميلة ذات لحن عذب مشرق وضاء، يعزفها البيانو للمرة الأولى منفرداً، ثم تنضم إليه الوتريات كأنها تردد من خلفه أو تشتبك معه وتحاوره.
تشهد المقطوعة بعد ذلك دخولاً قوياً للنحاسيات، يضفي طابعاً ملحمياً درامياً على اللحن، تقطع حدته أنغام الكمان البارزة والوتريات، مع نغمات الكمان والفلوت نستمع إلى البيانو المنفرد من جديد، وهو يعزف ثيمته الخاصة أو الثيمة الثانية، والثيمة الثانية موسيقى مالك جندلي وتأليفه الخاص الذي يعكس تأثره بنشيد طلع البدر وتأملاته الخاصة في الموقف الجليل المرتبط بهذا النشيد ويصطحب معه السامع ويدعوه للتأمل أيضاً في تلك المسافة الزمنية التي تفصلنا عن وقت الهجرة، كما تبدو هذه الثيمة أيضاً كسباحة في نور القمر ومعالجة لفكرة البدر، أو القمر المكتمل كموضوع فني، فتمام القمر واكتماله بدراً يعني تمام النور والليل المضيء بما له من تأثير في النفس البشرية والانغماس في مشاعر لانهائية، تنتهي الثيمة الثانية هنا بحوار بين البيانو والأوركسترا يؤدي إلى تصاعد محدود، يعقبه صوت الفلوت الذي يمنح الموسيقى إحساساً شرقياً إلى حد ما بسبب قرب صوته من صوت الناي، كما أنه يخلق بعض الأجواء التأملية التي قد توحي للبعض بالروحانية، يعود البيانو إلى عزف الثيمة الثانية بدرجة أكثر هدوءاً وبطأً، ثم تعزف الأوركسترا ثيمة طلع البدر بتلوين جديد، ويعزف البيانو في الوقت نفسه جملاً من الثيمة بتحوير مختلف، تتصاعد الموسيقى من البيانو والأوركسترا على السواء ويمضيان معاً في عزف ثيمة طلع البدر، ومع تقاطعات اللحن والتصاعد وضربات البيانو القوية المتفرقة تنتهي المقطوعة بعزف جملة من ثيمة طلع البدر، يتم تمديدها والذهاب بها نحو لحن موسيقي آخر ممتد وعدة ضربات تؤدي إلى الذروة الختامية.
كاتبة مصرية

نيسان ـ نشر في 2024-09-17 الساعة 10:52

الكلمات الأكثر بحثاً