إلياس خوري: فروسية العاشق الأبدي وحكاية الحب الباقي
نيسان ـ القدس العربي ـ نشر في 2024-09-24 الساعة 08:17
x
نيسان ـ لا أجد مدخلاً، لا وصفا، أفضل للحديث عن الصديق والأخ والحبيب إلياس خوري سوى صفة العاشق الأبدي: العاشق للحياة، العاشق لفلسطين، العاشق للأدب والشعر والعاشق للجمال والعاشق للحرية. وفي صفة العاشق من الدلالات ما يحيل ويكشف علاقة إلياس بالكون الذي يحيط به. إذ أن من صفات العاشق الأولى، الجنون، وعندما أقول الجنون فإني أقصد ذلك الاندفاع غير المحسوب والمتهوّر نحو شخص الحبيب. ذلك الاندفاع الذي لا تفسير له، والذي يرفض الانصياع للربح والخسارة والمنفعة، وعليه ليس صدفة أن نقول عن فلان إنه «وقع» في الحب، لأن الحب وقوع وتعثر، لكنه تعثر يحررنا من التخطيط والتفكير العقلاني. وهكذا اندفع الياس نحو الحياة، دون استئذان وشرّع أبوابه لها وتركها تدخل إليه، عانقها فعانقته. وهكذا كانت علاقته مع أصدقائه وأحبائه، التي تميزت بالعفوية والتلقائية وغياب المصالح والخطط الاستراتيجية. إن هذا العشق الدائم، وهذه الجاذبية الغامضة التي كانت تغويه جعلته يسير خلف بوصلته الأخلاقية أينما اتجهت، كما يذهب العاشق وراء قلبه دون حساب. هذا الاندفاع المتدفق لم يكن يحصل لولا دخوله إلى نوع من الغيبوبة التي كان ينسى فيها نفسه، فيركض وراء الفكرة والحلم، كمن نسي جسده في البيت. وعندما ينسى الإنسان نفسه يصبح أكثر رشاقة، يحلّق بسهولة لأن الحمولة خفيفة، والطريق الشاق يصير سهلاً لأن المرء لا يحصي الخسائر. إن التحام الشجاعة بالأخلاق، والأخلاق بالشجاعة ما يثير فينا الافتتان والإعجاب والحماسة، وقد يكون العرب أول من أوجدوا كلمة واحدة تشير إلى امتزاج الصفتين معا ألا وهي صفة المروءة.
الشجاعة من دون الأخلاق تبقى عمياء، والأخلاق من دون الشجاعة بليدة جوفاء وجبانة، أما اجتماعهما معا، كما اجتمعا في شخص إلياس فقد جسّد نوعا من المروءة. إن التئام الأخلاق بالشجاعة، والعدالة بالقوة قادر على أن يبعث في نفس المرء شعورا بالكرامة المتأصلة، وتأكيدا على العنفوان الإنساني النبيل، الذي يرد الروح ويطمئنها ولو مؤقتًا بأن الدنيا بخير، وأن في الحياة من القيم ما يجعلها تستحق أن تعاش ما يجعلها جميلة أيضا.
إلا أنه من غير الممكن أن نفهم هذا الالتئام بين البوصلة الأخلاقية الصائبة مع الشجاعة التي يتطلبها المضي في أعقاب هذه البوصلة، إلا إذا فهمنا إلياس خوري، باعتباره عاشقا مجنونا ومجنونا عاشقا، يركض وراء الحرية كما يركض العاشق نحو شخص الحبيب، لا يلتفت يسارا أو يمينا، يركز في موضوع عشقه وينحبس فيه. يرجئ العالم قليلاً وفي الطريق إلى هناك لا يدع شيئا يشتت انتباهه أو ذهنه. وينغمس بكليته وبجوارحه، ناسيا يافطات الطرق والإشارات الضوئية معرضا نفسه للخطر. إن هذا الفيض من الحب، الذي تدفق في كل مكان، وفاضت به الطرقات من بيروت إلى القدس مرورا بالجليل، وملأ وسائل الاتصال، وهذا المزيج من الشعور بالحب والخسارة، من الامتنان واليتم معا، ما هو إلا تعبير عن خسارة تلك الفروسية التي كان يمثلها إلياس في شخصه، والتي نخاف جميعا أن تندثر من حياتنا، والتي نفتقدها نحن القراء والمحبين والمعجبين. لقد كان إلياس من أولئك القلائل الذين يزودون اللغة بالمعنى، لأن الكلام كان عنده تعبيرا عن موقف، وليس محاولة لإخفاء الموقف. والموقف هو حيث يقف الإنسان لا حيث يختبئ. وحين تكون الكتابة موقفا، فإنها قادرة على شحن الكلمات بالمعنى. وإلياس كان من أولئك الذين يزرعون المعنى ويروون الكلمات بالمواقف، فكأن اللغة تمتلئ بكلماته من جديد وتستعيد عافيتها.
إن شعور الكثيرين منا باليتم المعنوي والرمزي، هو خوف من خواء اللغة وسقوطها في هاوية اللغو، لتصبح أداة لتخفي أفكارنا لا أن تكشفها، وكذلك خوفنا من أن تبقى الحقيقة خرساء، مما قد يذكرنا بصمتنا نحن القراء، نحن الذين كنا نختبئ وراء كلماته التي قيلت نيابة عنا.
إن شجاعة إلياس هي شجاعة العاشق الذي في الطريق إلى معشوقه ضل الطريق إلى نفسه أو نسيها. يبعثر نفسه في الناس وكأن عشقه هو الجسر الدائم للحياة وللآخرين الذين أحبهم. ولمن حالفه الحظ وكان صديقا لإلياس فإنه بلا شك تعلم درسا في الصداقة والحب. تدفق تلقائي للأنا في الآخرين، وانتحار المطر في بطن الأرض، فكأنه كان يمتلئ بما يعطي ويغنى بما يوزع.
وبعض من سحر إلياس هو ذلك الطابع الانتحاري الجميل في شخصه، وعندما أقول الانتحاري، فإني أقصد أن إلياس لم يكن يخاف الخسارات أبدا. طبعًا لم يكن يحب الخسارات ـ وإلا لكان مازوخيا ـ لكنه لم يكن يخشاها أبدا، أي أنه كان يراهن على ما أعتقد بأنه قضية عادلة آمن بها حتى لو اعتقد أنها معركة خاسرة. لم يحدد مواقفه على أمل أن يكون في عداد الطرف الرابح بعد انتهاء المعركة، ولم يقلقه أبدا أن يكون في طرف الخاسرين، إلا أن علينا الاعتراف بأن هذا الأمر ليس مفهوما ضمنا، وأحيانا يكون عصيا على الفهم، خاصة إذا شئنا أن نفكر عقليا وبشكلٍ عملي. فإذا اعتقدنا أن الحياة قصيرة وفانية وأن الموت حتمي، فبأي منطق يراهن المرء على قضايا عادلة حتى لو كانت خاسرة؟ متى وكيف سينتصر الخاسرون؟ متى ومن سيكافئ العادلين الخاسرين؟
هناك الكثيرون جدا الذين يحسبون حساباتهم جيدا، ويهتمون جدا أن لا يراهنوا على أي قضية قد تكون خاسرة، كي يضمنوا مقاعدهم إلى جانب الفائزين بعد المعركة، وبالتالي فإن مثل هؤلاء قادرين طبعا على إقناع غيرهم بمبادئ معينة يبشرون بها، لكنهم غير قادرين على إقناع غيرهم بأنهم هم أنفسهم مقتنعون بما يبشرون به، لأنهم بأنفسهم على غير استعداد أن يراهنوا على ما يبشرون به. لكن هناك بالطبع الكثيرون الذين يراهنون على المستقبل، وعلى القضايا العادلة حتى لو كانت خاسرة. إن من يؤمن بالمسيح والآخرة سوف يردد معه: «طوبى للفقراء لأنهم سيرثون الأرض». وإذا كنا ماركسيين فإننا سنؤمن بالحتمية التاريخية، وأنه في نهاية الأمر لا شيء يذهب هباء، وأن التاريخ يسير بنا إلى الأمام، وإذا كنا قوميين فإننا سنردد معهم أن شعلة الحياة التي تنطفئ فيك سوف تبقى متوهجة مشتعلة إلى الأبد في روح ونبض شعبك.. إلا أنه من المذهل حقا أن إلياس لم يكن مؤمنا دينيا بالآخرة، ولا أن الفقراء سوف يرثون الأرض، ولم يكن ماركسيا يؤمن بالحتمية التاريخية، ولا قوميا يؤمن بروح الأمة الخالدة إلى الأبد.
لم يؤمن بذلك، ومع ذلك راهن على المستقبل ولم يراهن على الحاضر، راهن على الأدب، ولم يراهن على السياسة، راهن على العدالة والحرية، ولم يراهن على القوة والسلطة، هل هذه سذاجة طفولية؟ على ما أعتقد فإن هذا هو سر سحر إلياس خوري، أي أنه راهن على قيم دون إيمانه بحتمية انتصارها، راهن على مستقبل كان يعرف أنه قد لا يراه ولن يكون شاهدا عليه، وكل ذلك دون عقيدة دينية، ماركسية أو قومية. كأن إلياس برهانه، في وقوفه في منطقة الخطر تحت سيف الخسارة المشهر فوق رأسه، يصنع القيم التي يؤمن بها، لأنه لا إثبات نظريا فكريا على وجود القيم، سوى استعدادنا أن ندفع ثمنها، وبالتالي فإن إلياس في حياته أثبت أن القيم ليست وهماً إنما هي حقيقية. طبعا، هي ليست حقيقية كالأحجار والأشجار، لكنها حقيقية كالحب، إذ أنه وإن كان الحب وهماً، لكنه وهم يجعل العشاق المجانين تقطع المحيطات، وبالتالي حقيقياً.
إلياس خوري لا يتكئ إذن إلا إلى وهم وإلى طيف ويحولهما إلى حقيقة متجسدة في شخصه، وهو بذلك يتحول إلى ما يشبه الساحر الذي يستطيع أن يحلق بالهواء، دون أن يتكئ إلى أي شيء سوى إلى حلم بعيد وإلى بصيص من الأمل.
إذن إنه الحب الذي يصنع المعجزة…
ألم يقل لنا إلياس مرة في إحدى مقابلاته: «في النهاية لا يبقى سوى الحب». نطمئنك عزيزي إلياس أنك أعطيتنا الكثير مما يكفي لنغرق فيه جميعا.
رائف رزق .. كاتب فلسطيني
الشجاعة من دون الأخلاق تبقى عمياء، والأخلاق من دون الشجاعة بليدة جوفاء وجبانة، أما اجتماعهما معا، كما اجتمعا في شخص إلياس فقد جسّد نوعا من المروءة. إن التئام الأخلاق بالشجاعة، والعدالة بالقوة قادر على أن يبعث في نفس المرء شعورا بالكرامة المتأصلة، وتأكيدا على العنفوان الإنساني النبيل، الذي يرد الروح ويطمئنها ولو مؤقتًا بأن الدنيا بخير، وأن في الحياة من القيم ما يجعلها تستحق أن تعاش ما يجعلها جميلة أيضا.
إلا أنه من غير الممكن أن نفهم هذا الالتئام بين البوصلة الأخلاقية الصائبة مع الشجاعة التي يتطلبها المضي في أعقاب هذه البوصلة، إلا إذا فهمنا إلياس خوري، باعتباره عاشقا مجنونا ومجنونا عاشقا، يركض وراء الحرية كما يركض العاشق نحو شخص الحبيب، لا يلتفت يسارا أو يمينا، يركز في موضوع عشقه وينحبس فيه. يرجئ العالم قليلاً وفي الطريق إلى هناك لا يدع شيئا يشتت انتباهه أو ذهنه. وينغمس بكليته وبجوارحه، ناسيا يافطات الطرق والإشارات الضوئية معرضا نفسه للخطر. إن هذا الفيض من الحب، الذي تدفق في كل مكان، وفاضت به الطرقات من بيروت إلى القدس مرورا بالجليل، وملأ وسائل الاتصال، وهذا المزيج من الشعور بالحب والخسارة، من الامتنان واليتم معا، ما هو إلا تعبير عن خسارة تلك الفروسية التي كان يمثلها إلياس في شخصه، والتي نخاف جميعا أن تندثر من حياتنا، والتي نفتقدها نحن القراء والمحبين والمعجبين. لقد كان إلياس من أولئك القلائل الذين يزودون اللغة بالمعنى، لأن الكلام كان عنده تعبيرا عن موقف، وليس محاولة لإخفاء الموقف. والموقف هو حيث يقف الإنسان لا حيث يختبئ. وحين تكون الكتابة موقفا، فإنها قادرة على شحن الكلمات بالمعنى. وإلياس كان من أولئك الذين يزرعون المعنى ويروون الكلمات بالمواقف، فكأن اللغة تمتلئ بكلماته من جديد وتستعيد عافيتها.
إن شعور الكثيرين منا باليتم المعنوي والرمزي، هو خوف من خواء اللغة وسقوطها في هاوية اللغو، لتصبح أداة لتخفي أفكارنا لا أن تكشفها، وكذلك خوفنا من أن تبقى الحقيقة خرساء، مما قد يذكرنا بصمتنا نحن القراء، نحن الذين كنا نختبئ وراء كلماته التي قيلت نيابة عنا.
إن شجاعة إلياس هي شجاعة العاشق الذي في الطريق إلى معشوقه ضل الطريق إلى نفسه أو نسيها. يبعثر نفسه في الناس وكأن عشقه هو الجسر الدائم للحياة وللآخرين الذين أحبهم. ولمن حالفه الحظ وكان صديقا لإلياس فإنه بلا شك تعلم درسا في الصداقة والحب. تدفق تلقائي للأنا في الآخرين، وانتحار المطر في بطن الأرض، فكأنه كان يمتلئ بما يعطي ويغنى بما يوزع.
وبعض من سحر إلياس هو ذلك الطابع الانتحاري الجميل في شخصه، وعندما أقول الانتحاري، فإني أقصد أن إلياس لم يكن يخاف الخسارات أبدا. طبعًا لم يكن يحب الخسارات ـ وإلا لكان مازوخيا ـ لكنه لم يكن يخشاها أبدا، أي أنه كان يراهن على ما أعتقد بأنه قضية عادلة آمن بها حتى لو اعتقد أنها معركة خاسرة. لم يحدد مواقفه على أمل أن يكون في عداد الطرف الرابح بعد انتهاء المعركة، ولم يقلقه أبدا أن يكون في طرف الخاسرين، إلا أن علينا الاعتراف بأن هذا الأمر ليس مفهوما ضمنا، وأحيانا يكون عصيا على الفهم، خاصة إذا شئنا أن نفكر عقليا وبشكلٍ عملي. فإذا اعتقدنا أن الحياة قصيرة وفانية وأن الموت حتمي، فبأي منطق يراهن المرء على قضايا عادلة حتى لو كانت خاسرة؟ متى وكيف سينتصر الخاسرون؟ متى ومن سيكافئ العادلين الخاسرين؟
هناك الكثيرون جدا الذين يحسبون حساباتهم جيدا، ويهتمون جدا أن لا يراهنوا على أي قضية قد تكون خاسرة، كي يضمنوا مقاعدهم إلى جانب الفائزين بعد المعركة، وبالتالي فإن مثل هؤلاء قادرين طبعا على إقناع غيرهم بمبادئ معينة يبشرون بها، لكنهم غير قادرين على إقناع غيرهم بأنهم هم أنفسهم مقتنعون بما يبشرون به، لأنهم بأنفسهم على غير استعداد أن يراهنوا على ما يبشرون به. لكن هناك بالطبع الكثيرون الذين يراهنون على المستقبل، وعلى القضايا العادلة حتى لو كانت خاسرة. إن من يؤمن بالمسيح والآخرة سوف يردد معه: «طوبى للفقراء لأنهم سيرثون الأرض». وإذا كنا ماركسيين فإننا سنؤمن بالحتمية التاريخية، وأنه في نهاية الأمر لا شيء يذهب هباء، وأن التاريخ يسير بنا إلى الأمام، وإذا كنا قوميين فإننا سنردد معهم أن شعلة الحياة التي تنطفئ فيك سوف تبقى متوهجة مشتعلة إلى الأبد في روح ونبض شعبك.. إلا أنه من المذهل حقا أن إلياس لم يكن مؤمنا دينيا بالآخرة، ولا أن الفقراء سوف يرثون الأرض، ولم يكن ماركسيا يؤمن بالحتمية التاريخية، ولا قوميا يؤمن بروح الأمة الخالدة إلى الأبد.
لم يؤمن بذلك، ومع ذلك راهن على المستقبل ولم يراهن على الحاضر، راهن على الأدب، ولم يراهن على السياسة، راهن على العدالة والحرية، ولم يراهن على القوة والسلطة، هل هذه سذاجة طفولية؟ على ما أعتقد فإن هذا هو سر سحر إلياس خوري، أي أنه راهن على قيم دون إيمانه بحتمية انتصارها، راهن على مستقبل كان يعرف أنه قد لا يراه ولن يكون شاهدا عليه، وكل ذلك دون عقيدة دينية، ماركسية أو قومية. كأن إلياس برهانه، في وقوفه في منطقة الخطر تحت سيف الخسارة المشهر فوق رأسه، يصنع القيم التي يؤمن بها، لأنه لا إثبات نظريا فكريا على وجود القيم، سوى استعدادنا أن ندفع ثمنها، وبالتالي فإن إلياس في حياته أثبت أن القيم ليست وهماً إنما هي حقيقية. طبعا، هي ليست حقيقية كالأحجار والأشجار، لكنها حقيقية كالحب، إذ أنه وإن كان الحب وهماً، لكنه وهم يجعل العشاق المجانين تقطع المحيطات، وبالتالي حقيقياً.
إلياس خوري لا يتكئ إذن إلا إلى وهم وإلى طيف ويحولهما إلى حقيقة متجسدة في شخصه، وهو بذلك يتحول إلى ما يشبه الساحر الذي يستطيع أن يحلق بالهواء، دون أن يتكئ إلى أي شيء سوى إلى حلم بعيد وإلى بصيص من الأمل.
إذن إنه الحب الذي يصنع المعجزة…
ألم يقل لنا إلياس مرة في إحدى مقابلاته: «في النهاية لا يبقى سوى الحب». نطمئنك عزيزي إلياس أنك أعطيتنا الكثير مما يكفي لنغرق فيه جميعا.
رائف رزق .. كاتب فلسطيني