اتصل بنا
 

أمتنا.. من المسألة الشرقية إلى الشرق الأوسط الكبير

نيسان ـ نشر في 2015-11-29 الساعة 22:49

نيسان ـ

في واقع الأمر.. لا يمكن دراسة المشروع المتعلق بالتغيير الحضاري العربي الإسلامي إلا في ضوء الذاكرة التاريخية والحضارية للمشاريع المتعلقة بالأمة العربية والإسلامية، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن التعرف على هذا المشروع التغييري العربي الإسلامي لا يمكن أن يتم إلا من خلال رؤية هذا المشروع ضمن اجتهادات المشروعات الأخرى وضمن سياقات البيئة الكلية المحيطة بها جميعًا.

وفي إطار ذلك نستند إلى فكرة محورية ترقى لأن تكون في مرتبة المسلمات مفادها: أن "الأمة" حينما تحمل معنى الجامعية والقوة فهي "الأمة - الوسط" التي تقوم بدورها في عملية الشهود الحضاري، وحينما تحمل معاني الضعف والاستضعاف فهي "الشرق- الأوسط" أو "المسألة الشرقية" أو "الشرق- الأوسط - الكبير" أمة مشهودة تعد موضوعًا لا طرفًا على مستوى المكانة الحضارية.

إن حضور مفهوم "الأمة" يعني "الأَمّ" وهو القصد والوجهة، فالأمة محل القصد والقبلة والاتجاه. وحينما يبرز مفهوم جديد لا يُعنَى "بالأمة الوسط" وإنما "بالشرق الأوسط" مضافًا إليه صفة "الكبير"، فإنما يشير ذلك إلى معانٍ جغرافية، ويشير إلى أن مَن أطلق صفة "الكبير" (الولايات المتحدة) إنما يحدد عناصر اهتمامه هو ومجاله الحيوي فيما يعتبره يحقق مصالحه هو، ويحقق عناصر استراتيجيته الكونية في منطقة تعتبر عقدة استراتيجية، ولكن هذا يحوّل الأمة من قَصْدٍ، ومن بشرٍ قاصد، ومن مقصود وفكرة ورسالة، إلى "مكان" مُصمَتٍ يراه الخارجُ كيفما شاء وكيفما تصور، وكأنه مساحة خالية من البشر الفاعل أو الفكرة الجامعة، إنه – بهذا - مجال للفك والتركيب وإعادة التشكيل وهندسة المنطقة في إطار تتحكم فيه "هندسة الإذعان".

يبدو أن هذه الملاحظة المسكونة بمفهوم "الشرق" ظلت تلازم نوعين من الكتابات:
نوع أول تمثله كتابات "الاستشراق / الغربي والأمريكي" التي برزت بشكل مبكر، ثم ما زالت تتماثل وتتكشف للعيان بأبعادها "الما بعد معرفية" وغاياتها "الما بعد علمية".

إن هذه الكتابات لعبت دور الممهِّد المعرفي والعلمي لمشاريع الاستعمار قديمها وجديدها، وفي هذا يشكك إدوارد سعيد: "في قدرة إنجلترا على احتلال مصر بمثل هذه الطريقة المؤسّسة جيدًا وتلك المدة الطويلة التي احتلتها لولا ذلك الاستثمار المكين في الدراسات الشرقية"، إن المشروع الذي طُرح مؤخرًا من خلال إدارة بوش الابن بشأن "الشرق الأوسط الكبير"؛ لم ينشأ من فراغ، وأنه إذا كان قد اكتسب ملامحه التي تم طرحه من خلالها على أساس من التطورات التي يحياها عالمنا المعاصر -سواء على مستوى المنطقة أو على مستوى تفاعلات النظام الدولي - إلا أنه يجد جذوره في عدد من الأصول الاستشراقية عبر عنها بعض المستشرقين؛ وعلى رأسهم برنارد لويس. بالطبع ليس لويس وحده، وليس هو المحرك الوحيد لكل المسألة، إلا أنه يقدم نموذجًا مثاليًا على هذا الحلف غير المقدس.

أما النوع الثانى فيتمثل في كتابات تتواصل مع عناصر الذاكرة الحضارية والتعرف على حقيقة الواقع الدولى المعاصر ويشيرالدكتور جورج قرم؛ وهو يحتل موقعًا مميزًا بين الباحثين الذين تناولوا موضع العلاقة التاريخية بين أوروبا والشرق، وأصدر عددًا من الكتب التي تلامس هذا الموضوع بشكل أو بآخر مثل كتابه الشهير "انفجار المشرق العربي" الذي صدر قبل عشرين عامًا وطُبع بالعربية والفرنسية أكثر من مرة، وكتابة الجديد "شرق وغرب: الشرخ الأسطوري" الذي صدر مترجمًا بالعربية في العام 2003.

إن هذا الاهتمام النظري والبحث في الخبرات التي تشكلها العلاقة بين شرق وغرب، والاقتراب من الوضع القائم الآن الذي يأخذ فيه "الشرق" دلالة جديدة إثر تأكد "الهيمنة الأمريكية" على المستوى العالمي، وتفرد القطب الأوحد في المنظومة الدولية، والإمبراطورية الكونية الأمريكية، والتي تعيد تعريف قضايا كثيرة بما في ذلك ما يُدعى "الشرق".

ورغم أن "قرم" أصدر كتابه الأخير والحرب على العراق قد دقت طبولها، وقبل سقوط بغداد؛ إلا أن هذا الاهتمام النظري امتلك منطق البرهنة الواقعية على الأرض، ولم يجد أي صعوبة كي يبرهن على أن "الشرق في المخيلة الأمريكية مرتبط بالإدارة السياسية ورجال الإعلام والمتنفذين من الأكاديميين، أكثر مما هو مرتبط بواقع الشرق الفعلي..."، فالولايات المتحدة "تخترع الشرق الذي تريد"، آخذة في الاعتبار "مصالحها والفضاء المحتمل لمناوراتها السياسية المستقبلية":

لقد أدى خطاب الغرب المتعصب عن نفسه والمتمركز حول ذاته إلى تعيين ذاته رسولًا لهداية الشرقيين الضالين، إلى درجة يحتفل فيها الغربيون اليوم والولايات المتحدة بشكل خاص "بعودة الله"، ذلك أن القومية الأمريكية تمتد بجذورها إلى البروتستانتية والعهد القديم. وسواء كشف الغرب عن تمسكه بالدين أو عن التحرر منه، فإنه أنتج في الحالتين معًا دينًا خاصًا به هو "دين القوة" الذي يجعل من الغرب عالمـًا "مقدَّسًا"، ومن الشرق عالمًا غريبًا عن القداسة ومفعمًا بالآثام.

وظهر دين القوة هذا - الذي أوكل إلى الولايات المتحدة الدفاع عن المقدسات الغربية - بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر من أيلول؛ حيث قبلت الأيدلوجيات العلمانية الغربية بالمزاعم والسياسات الأمريكية: الهدف مقدَّس، والوسائل علمانية.

عزز من هذه الرؤية "النصرُ الأمريكي في الحرب الباردة": "فوكاياما ونهاية التاريخ"، الذي جعل من غرب النهضة الأوروبية غربًا يهوديًا / مسيحيًا، صورته المركبة هي دولة إسرائيل، التي لا تسمح لها "غربيتها" بأن توصم بأنها دولة عنصرية أو عدوانية؛ فهي من الغرب ولها دور الغرب في هداية العالم الضالّ. في هذا الانقلاب تصالَحَ التاريخُ العلماني والتاريخ الديني للغرب، وأصبح "الآخر" هو المسلم المكروه، وأصبح الغرب يتعامل مع الإسلام بصفته عقيدة كلية متصلبة، تنضح عنفًا، وتتنفس لا عقلانية كاملة.

إنها الذاكرة التي تحمل معاني الشرق الأوسط الذى لم يكن مكانًا جغرافيًا يضيق ويتسع بل عبر عن رؤية سياسية من خارج المنطقة، تستهدف الجغرافيا تقسيمًا وإضعافًا وتجزئة، إن المشروع الإسلامي بما يحمله من علاقة مع قلبه العربي إذا ما فطن لخطورة هذه المشاريع يمكنه أن يشكل حائط الصد في مواجهة التحديات والمخاطر.

مصر العربية

نيسان ـ نشر في 2015-11-29 الساعة 22:49

الكلمات الأكثر بحثاً