اتصل بنا
 

استراتيجية وحدة الساحات ومستقبل الطائفة الشيعية

نيسان ـ نشر في 2024-10-13 الساعة 13:54

نيسان ـ برزتْ "وحدة الساحات" كاستراتيجية جيوسياسية إيرانية لتطويق "إسرائيل"؛ عبر تطويقها بجبهات مناوئة من فصائل وحركات وتنظيمات مُعادية عقائديًا وقوميًا لها؛ وهي استراتيجية لم تتشكل استجابةً لاحتياجات نفوذية آنية بل نتيجةً للتفاعلات الإقليمية المعقدة ضمن التقاطعات والتعامدات والتعارضات المشاريعية بين القوى الدولية والإقليمية.
كيف تبلورت استراتيجية وحدة الساحات؟
تُدرك المؤسسة الدينية الحاكمة في إيران إدراكًا مؤسَسًا على استقراءات عقائدية وتاريخية واستراتيجية أن لدى "إسرائيل" عقدة الدخيل الكياني، أي الكيان الدخيل الذي يحاصره ويحصره أعداؤه المتربصون؛ وهي العقدة السيكوـسياسية التي استحكمت بقادة "إسرائيل" ومؤسسيها بمختلف منابتهم الإيديولوجية وأفكارهم ورؤاهم؛ فـ"إسرائيل" مصابةٌ بـ{برانوايا وجودية} إن صح التعبير، ودون الإياب إلى المسببات التاريخية والمادية لهذه البرانويا؛ فإن الشعور الحيوي بالتهديد الوجودي يتبدى في مُجمل السلوكيات السياسية والعسكرية والأمنية لإسرائيل.
وبالعودة إلى استراتيجية وحدة الساحات؛ فقد تبلورت هذه الاستراتيجية تبلورًا حقيقيًا في لبنان، وعلى وجه الدقة؛ بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، فالخمينية السياسية ارتأت أن تدعم حزبًا وليدًا مكونًا من جيل ينتمي إلى طبقات فقيرة ومسحوقة ومستضعفة درس في حوزات النجف وقم، وتأثر تأثرًا ملموسًا بالآئمة الذين شكلوا باعثَ إلهام لهم، وهكذا نشأ "حزب الله" الذي شرع بمقاومة الوجود العسكري الإسرائيلي في لبنان وصولًا إلى الانسحاب الإسرائيلي في الخامس والعشرين من أيار عام 2000 وحتى هذه الآونة.
ونظرًا للتطور الكمي والنوعي لدى "حزب الله"، وقدرته الفائقة على فرض نفسه كفصيل سياسي يمثل طائفة دينية كبيرة في ظروف إقليمية ومحلية ساهمتا مساهمةً فاعلةً في ذلك؛ فإن إيران التي لم تضن بدعمها العسكري والمادي والخبراتي على حليفها الاستراتيجي في لبنان؛ ارتأت أن تستنسخ التجربة وتعممها في قطاع غزة بعد سيطرة حركة حماس عليه عام 2007، وجماعة أنصار الله {الحوثيون} في اليمن، والفصائل العسكرية- العقائدية في العراق، وطبعًا كان للجنرال الراحل قاسم سليماني وعدد من قادة الحرس الثوري الإيراني قصب السبق في هذا الشأن، فزيارة سليماني السرية إلى قطاع غزة، وإشرافه المباشر على إنشاء الأنفاق العسكرية تؤكد أن "وحدة الساحات" استراتيجية مُتبناة لدى المؤسسة الدينية الحاكمة في إيران وذراعها الضارب ألا وهو الحرس الثوري.
تناهى إلينا مصطلح "وحدة الساحات" كاستراتيجية جيوسياسية منذ عدة سنوات، ولكنه ظل مصطلحًا عائمًا وعموميًا إلا أن تمثل بشكل فيزيقي ملموس بالتعبيرات الواقعية لدى المسوؤلين الإيرانيين مثل وزير الخارجية الإيراني الراحل أمير عبداللهيان الذي شارك بحياكة هذه الاستراتيجية؛ عبر لقاءاته واجتماعاته الدورية والمتكررة مع قادة حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي وأنصار الله، وليس أدل على ذلك؛ من الاجتماع الاستثنائي الذي عقد بينه وبين الأمين العام لحزب الله الراحل حسن نصرالله ونائب رئيس حركة حماس الراحل صالح العاروري والأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي زياد نخالة قبل عملية "طوفان الأقصى" بأيام.
وبعد عملية "طوفان الأقصى" في السابع من تشرين الأول الماضي؛ وُضعت استراتيجية "وحدة الساحات" موضَع الاختبار والقياس، وكانت "إسرائيل" والولايات المتحدة الأمريكية تترقبان وتراقبان حتى انقشع الغبار بإعلان "حزب الله" فتح جبهة الإسناد في الثامن من الشهر ذاته ضمن قواعد اشتباك تُراعي الحسابات الداخلية في لبنان، والاعتبارات الإقليمية في المنطقة ككل؛ وهو ما أحاط هذه الاستراتيجية بالشك والارتياب، خصوصًا، مع تنامي النزعات الشكوكية حول تأثير جبهة الإسناد اللبنانية على مجريات المعارك في قطاع غزة؛ وهو ما عبر عنه مسؤولون في حركة حماس، أبرزهم؛ خالد مشعل، يرافق ذلك؛ خطاب إعلامي ودعائي مغذ لتلك النزعات.
مرةً أخرى؛ تعرضت استراتيجية "وحدة الساحات" للاختبار الحاسم، لكن النزعات الشكوكية تقلصت رويدًا رويدًا بعد قصف جماعة {أنصار الله} لـ"إسرائيل"، وإعلانها منع مرور السفن المتجهة إليها {أي إسرائيل} عبر مضيق باب المندب، وسرعان ما شرعت الفصائل العسكرية في العراق بإطلاق المُسيرات المفخخة إلى "إسرائيل"، وبإصدار البيانات التي تجسد "وحدة الساحات"، لكن المصداقية التطبيقية لـ"وحدة الساحات" تمثلت بالتطور الدراماتيكي في الجبهة اللبنانية، وانتقال إيران من مرحلة "الصبر الاستراتيجي" إلى "الردع الاستراتيجي" بعد استهداف سفارتها في دمشق في شهر نيسان من العام الماضي تحولًا في مجرى الصراع الإقليمي، بالتوازي مع تسارع التطورات الميدانية في قطاع غزة وجبهات الإسناد في جنوب لبنان واليمن والعراق.
أما عملية اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس اسماعيل هنية في مقر إقامته بالعاصمة الإيرانية طهران خلال مشاركته في حفل تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان وما تلاها من عمليات اغتيال استهدفت قيادات وكوادر متقدمة في حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي فقد أسست لتساؤلات دقيقة حول استراتيجية "وحدة الساحات" وطاقتها الاستيعابية لتلك الاغتيالات التي رامت "إسرائيل" ومعها الولايات المتحدة الأمريكية إلى تذرير "وحدة الساحات" وتفكيكها ليس كاستراتيجية تحررية- عقائدية متناهية المركزية فحسب؛ بل كشبكة تعاضد عابرة للطائفية {شيعة-سنة} ضد المراكز الكولونيالية وأطرافها.
وقد سعت "إسرائيل" إلى التفكيك الجغرافي والسياسي لاستراتيجية "وحدة الساحات"؛ من خلال محاولة إبرام اتفاقات تهدئة تفصل جبهات الإسناد عن جبهة قطاع غزة، ولكنها لم تغفل أيضًا أن أية موافقة من حزب الله أو أنصار الله على ذلك؛ قد يؤدي إلى احتضار تلك الاستراتيجية وتبددها، لذلك؛ اتخذت "إسرائيل" قرارها باغتيال الأمين العام لحزب الله وقيادات الحزب السياسية والعسكرية، والشروع بعملية برية تضمن من خلالها إنشاء منطقة نفوذ تمتد حتى ما وراء النهر الليطاني، وبينما "إسرائيل" تتهيأ لبناء وقائع جيوسياسية في لبنان؛ فإن عينيها ترنو إلى الفصائل العسكرية- العقائدية في العراق، والتي أبلغتها إيران بأن تحت الميكروسكوب الإسرائيلي، أما فيما يرتبط بجماعة أنصار الله؛ فإن المقاربة الأمريكية- الإسرائيلية بشأنها تتمايز عمن سواها.
تساؤل حول مستقبل الطائفة الشيعية؟
لا يسعنا التكهن بمستقبل استراتيجية "وحدة الساحات" أو استشراف مآلاتها في واقع حال يموج بالتطورات المتسارعة والمكثفة، وفي أتون صدام المشاريع الإقليمية وتصارعها؛ يتراءى تساؤل يستدعي التمحيص: ما مستقبل الطائفة الشيعية في حال استطاعت إسرائيل ومعها الولايات المتحدة الأمريكية تفكيك استراتيجية وحدة الساحات؟
يمكننا الاستدلال على عدد من المؤشرات التي تُجيب على تساؤلنا وهي:
- تفويض حزب الله لرئيس مجلس النواب اللبناني والزعيم الشيعي نبيه بري بإدارة المفاوضات المتعلقة بلبنان ما بعد جبهة الإسناد.
- صراع مراكز القوى في طهران، وتغلغل الإصلاحيين داخل بنية المؤسسة الحاكمة، وعلى سبيل المثال لا الحصر؛ عودة محمد جواد ظريف السياسية.
- اجتماع الثلاثي {مقياتي- بري- جنبلاط} حول الترتيبات المتعلقة بلبنان ما بعد جبهة الإسناد، أو ما بعد حزب الله كما يتعامل حزب القوات اللبنانية بقيادة سمير جعجع.
وهي مؤشرات لا تختلف أو تتخالف مع مؤشرات أخرى، أهمها؛ أن مستقبل الطائفة الشيعية كقوة إقليمية لها امتدادتها مرتبط بمصير استراتيجية "وحدة الساحات".

نيسان ـ نشر في 2024-10-13 الساعة 13:54


رأي: كريم الزغيّر

الكلمات الأكثر بحثاً