لمن أكتب؟
مريم عرجون
كاتبة جزائرية
نيسان ـ نشر في 2024-10-24 الساعة 21:01
نيسان ـ لمن أكتب؟ ولِمَ أكتب؟ لم أحاول قط أن أعرف لمن أكتب؟
جبت في الأرض أجمع من كل العلوم والفنون الحقائب، و ما كان لي في السعي سوى حروب ليس فيها حوارب، أرى فيها ألف معنى للكتابة ولست أدري ما الذي أنا كاتب، أجلس ملطخة بالأسئلة وهي تعبث بي في لجّةِ الوجدان المضطرب، الذي كَدَّسَ جمجمتي بالصدوع، والفكر، والليل يمشي داخلي هوناً يرق، ويرق، أحاولُ بما تبقى لي أن أقاومَ السؤال الذي ردني لنفسي ردا عنيفا، ثم استوت نفسي في جلستها وقالت مرة أخرى: لمن تكتبي هذا الذي تكتبيه؟
أبحث بين أكداس كتب التاريخ، ونُقُوشِ التَّضَارِيس، والشمس، والإنسان، والرمل، ومن كتب العبادة، والصلاة، ولا أجد غير لغة أحزان عربية من الكتب الموبوءة، على مدِّ البَصَرْ مفرداتها مقصورة مكسورة لتلغي جميع المفردات، لأكتب للعالم، للشعوب، لرجال السياسة لرجال العلم، لأهل الدين، لأهل السلطان، أكتب للذين لا ندري كيف نشؤوا، أكتب للذين لا يزالون يترفعون، و يتعبدون أنفسهم، وهم في خلال ذلك علماء بائسون إلا من عصم الله، أنا أكتب للذين فتنتهم النعم، والترف، والملذات، إلى شعوب هاجها ما يهجيها، أنا أكتب للذين تلعق بطونهم، وعقولهم باسم الدين نارًا حامية، اكتب عن الوطن المتاح كيف يضحك، وكيف لا يحب الرؤى و لا يحب الحنين، المثخن بالأنين و مفعما بالسراب الجميل، أكتب لذي أنس ذهنهم ثاقب، وليس لهم سمع ولا بصر، أكتب عن كل منعطف عربي حزين، وعن بلاد الحزن التي يقهر فيها حتى الجنين، و للعالم المخنوق بالأضواء التي تتوالى فيه المشاهد عن مدن الخراب، وعن مسامعهم وعقولهم التي لا تبيت على شفع ولا تغدو على وتر، أكتب عن بلاد جرداء اختلطت بالأشلاء و امتلأت شوارعها جثثاً وأنصاف الأحياءِ، أكتب عن هذا الغراب الغبي على ماذا يفتش في هذا الحطام فينا، هذا الغراب الغبي، المتسلل من الحدائق، والفنادق، والخنادق، ومن حقول الموت كالطوفان، ليشرب نبيذه الأسود من دم الأكفان، أيفتش عن العروبة التي صارت فينا بالقواضب تحصد، و آلَت بقايا من غبار، أم عن الديار التي تجردت منا و آلت إلى سوطِ نارْ، أكتب ولكن من يسمع من يهتم؟ والجميع يرتدي قناع البطولة، أكتب لأنني لا أستطيع الصمت أمام هذا الموت البطيء، أمام هذا الوطن الذي يحتضر أو ربما مات ولم يدفن بعد، أكتب لأن الحزن أكبر من أن أحتمله وحدي، ولأنني ربما أجد في الكتابة وسيلة للتعبير عن الألم الذي يملأ قلبي، أكتب لأنني أرفض أن أكون جزءًا من هذا الصمت القاتل، ولأن الكتابة هي الوسيلة الوحيدة المتبقية لي لأصرخ بألم المدن الملبدة بالخيبة، والأوطان الموحشة التي تسكنها الظلال، والتاريخ العابر الذي صار جزءا من هويتنا الجديدة، والعروبة التي غزاها الطغاة، ولم تعد سوى اطلال لماض مجيد، و صارت وهما يتلاشى في هواء ملطخ بالخذلان، يذكرني ويذكر من تبقى من الحالمين مثلي، باننا كنا يوما أصحاب حضارة، وثقافة، وكرامة، أكتب لأن الكلمات وإن كانت عاجزة عن احياء ما مات إلا أنها قادرة على إبقاء الذاكرة حية.
أكتب لأعبر عن الحب، الحزن، الأمل، والخيبة للجميع، ولنفسي، ولعالمٍ لا يسمع إلا الصراخ، وللإنسانية جمعاء التي لم تعرف أبدا ليلا بهذا الطول، وهذا السواد، وبهذا التوحش كما تعرفه هذه الأيام، وكلما لاحظت اليقين المهزوز لمدعي العقائد من حولي شعرت بشيء من الفخر لرسوخ فكري وسموه.
فهل يجب أن أكتب عن أحشاء إنسان تحترق، وشعوب كأسمال بالية تتمزق، أم لرجل واحد فقط من غمار هذا الخلق، الذي جاء من علق صبحٍ وفي غَسقِ، هذه هي الكتابة إذن.
قالت : أ لرجل واحد فقط أ مِن قلة أنتم؟
لا ولا أرى فيمن أراهم إلا حفاء الوثير، بل كغيث من الوهن يصلي في العراء، يستريحون ﻓﻲ مقاعد الجبن، يُتابعون الطرب الحزين ﻓﻲ مسارح أوطانهم وينحنون للريح، كي لا تُطفئَ السراج.
جبت في الأرض أجمع من كل العلوم والفنون الحقائب، و ما كان لي في السعي سوى حروب ليس فيها حوارب، أرى فيها ألف معنى للكتابة ولست أدري ما الذي أنا كاتب، أجلس ملطخة بالأسئلة وهي تعبث بي في لجّةِ الوجدان المضطرب، الذي كَدَّسَ جمجمتي بالصدوع، والفكر، والليل يمشي داخلي هوناً يرق، ويرق، أحاولُ بما تبقى لي أن أقاومَ السؤال الذي ردني لنفسي ردا عنيفا، ثم استوت نفسي في جلستها وقالت مرة أخرى: لمن تكتبي هذا الذي تكتبيه؟
أبحث بين أكداس كتب التاريخ، ونُقُوشِ التَّضَارِيس، والشمس، والإنسان، والرمل، ومن كتب العبادة، والصلاة، ولا أجد غير لغة أحزان عربية من الكتب الموبوءة، على مدِّ البَصَرْ مفرداتها مقصورة مكسورة لتلغي جميع المفردات، لأكتب للعالم، للشعوب، لرجال السياسة لرجال العلم، لأهل الدين، لأهل السلطان، أكتب للذين لا ندري كيف نشؤوا، أكتب للذين لا يزالون يترفعون، و يتعبدون أنفسهم، وهم في خلال ذلك علماء بائسون إلا من عصم الله، أنا أكتب للذين فتنتهم النعم، والترف، والملذات، إلى شعوب هاجها ما يهجيها، أنا أكتب للذين تلعق بطونهم، وعقولهم باسم الدين نارًا حامية، اكتب عن الوطن المتاح كيف يضحك، وكيف لا يحب الرؤى و لا يحب الحنين، المثخن بالأنين و مفعما بالسراب الجميل، أكتب لذي أنس ذهنهم ثاقب، وليس لهم سمع ولا بصر، أكتب عن كل منعطف عربي حزين، وعن بلاد الحزن التي يقهر فيها حتى الجنين، و للعالم المخنوق بالأضواء التي تتوالى فيه المشاهد عن مدن الخراب، وعن مسامعهم وعقولهم التي لا تبيت على شفع ولا تغدو على وتر، أكتب عن بلاد جرداء اختلطت بالأشلاء و امتلأت شوارعها جثثاً وأنصاف الأحياءِ، أكتب عن هذا الغراب الغبي على ماذا يفتش في هذا الحطام فينا، هذا الغراب الغبي، المتسلل من الحدائق، والفنادق، والخنادق، ومن حقول الموت كالطوفان، ليشرب نبيذه الأسود من دم الأكفان، أيفتش عن العروبة التي صارت فينا بالقواضب تحصد، و آلَت بقايا من غبار، أم عن الديار التي تجردت منا و آلت إلى سوطِ نارْ، أكتب ولكن من يسمع من يهتم؟ والجميع يرتدي قناع البطولة، أكتب لأنني لا أستطيع الصمت أمام هذا الموت البطيء، أمام هذا الوطن الذي يحتضر أو ربما مات ولم يدفن بعد، أكتب لأن الحزن أكبر من أن أحتمله وحدي، ولأنني ربما أجد في الكتابة وسيلة للتعبير عن الألم الذي يملأ قلبي، أكتب لأنني أرفض أن أكون جزءًا من هذا الصمت القاتل، ولأن الكتابة هي الوسيلة الوحيدة المتبقية لي لأصرخ بألم المدن الملبدة بالخيبة، والأوطان الموحشة التي تسكنها الظلال، والتاريخ العابر الذي صار جزءا من هويتنا الجديدة، والعروبة التي غزاها الطغاة، ولم تعد سوى اطلال لماض مجيد، و صارت وهما يتلاشى في هواء ملطخ بالخذلان، يذكرني ويذكر من تبقى من الحالمين مثلي، باننا كنا يوما أصحاب حضارة، وثقافة، وكرامة، أكتب لأن الكلمات وإن كانت عاجزة عن احياء ما مات إلا أنها قادرة على إبقاء الذاكرة حية.
أكتب لأعبر عن الحب، الحزن، الأمل، والخيبة للجميع، ولنفسي، ولعالمٍ لا يسمع إلا الصراخ، وللإنسانية جمعاء التي لم تعرف أبدا ليلا بهذا الطول، وهذا السواد، وبهذا التوحش كما تعرفه هذه الأيام، وكلما لاحظت اليقين المهزوز لمدعي العقائد من حولي شعرت بشيء من الفخر لرسوخ فكري وسموه.
فهل يجب أن أكتب عن أحشاء إنسان تحترق، وشعوب كأسمال بالية تتمزق، أم لرجل واحد فقط من غمار هذا الخلق، الذي جاء من علق صبحٍ وفي غَسقِ، هذه هي الكتابة إذن.
قالت : أ لرجل واحد فقط أ مِن قلة أنتم؟
لا ولا أرى فيمن أراهم إلا حفاء الوثير، بل كغيث من الوهن يصلي في العراء، يستريحون ﻓﻲ مقاعد الجبن، يُتابعون الطرب الحزين ﻓﻲ مسارح أوطانهم وينحنون للريح، كي لا تُطفئَ السراج.
نيسان ـ نشر في 2024-10-24 الساعة 21:01
رأي: مريم عرجون كاتبة جزائرية