اتصل بنا
 

إلا تشويه الآراء والمواقف

كاتب مصري

نيسان ـ نشر في 2015-12-01 الساعة 19:25

نيسان ـ

أومن أن الكاتب لا يسجل أفكاره في الفراغ، بل ينشط في مجال عام فيه قراء وزملاء لهم آراؤهم المعتبرة وفيه حملة مواقف الـ مع والضد المسبقة، وفيه أيضا أصحاب الفكرة الأصوب والمعلومة الأدق والتحليل الأكثر اكتمالا. لذا، يظل لزاما على الكاتب أن يشتبك مع الآراء والمواقف المحيطة به، وأن لا يتورط في خطيئة الاستعلاء على القراء والزملاء ويغلق أبواب الحوار معهم.
ومنذ شرعت (في ايلول/سبتمبر 2015) في الإسهام في «القدس العربي» بمقال رأي أسبوعي يراوح بين تناول قضايا بلاد العرب وبين التركيز على الشأن المصري، وبعض القراء الأعزاء تارة يزعم أن معارضتي للسلطوية الحاكمة في مصر طال انتظارها منذ صيف 2013، وتارة أخرى يدعي إنني كنت من بين الصامتين على انتهاكات الحقوق والحريات وعلى هيمنة المكون العسكري – الأمني على شؤون الحكم وإماتته للسياسة. ولأن الزعم والادعاء هذين تربطهما بحقيقة آرائي ومواقفي المعلنة تناقضات جلية، فقد آلمني حضورهما لدى بعض القراء بشدة، وفتشت في دفاتر كتاباتي السابقة (وجلها في جريدة الشروق المصرية) لعلي آتي قرائي في «القدس العربي» منها بدليل كاشف وأؤسس لحوار ممتد معهم جوهره احترامي للرأي الآخر وعدم استنكافي الاشتباك معه وثقتهم في رفضي للمعايير المزدوجة. ومن بين مقالات ونصوص عديدة، فضلت اليوم أن أعيد نشر مقال «مصر بعد 3 يوليو 2013.. السياسة بين افتتاحية الريحاني واقتباس دانتي المزعوم» والذي نشر في 9 تشرين الثاني/نوفمبر 2013 في «الشروق» المصرية نظرا لما أرى به من تفاصيل تحليلية أكدتها أحداث العامين الماضيين ولم تنفها أبدا. وإلى نص المقال، رفضا لتشويه آرائي ومواقفي وأملا في بناء علاقة ثقة متبادلة مع القراء:
أيها البائسون التعساء – والافتتاحية الندائية هذه جاءت على لسان العبقري نجيب الريحاني في فيلم «سلامة في خير» حين طلب منه بهويته المنتحلة كالأمير «كندهار» مخاطبة الحضور الأرستقراطي في حفل بهيج ودس في يديه للإلقاء بدلا من النص المكتوب المعد سلفا للحفل نصا آخر كان يفترض أن يلقيه على أيتام ومشردين ومساكين في ملجأ. «الفراش الأول»، وظيفة سلامة الفعلية، يخاطب بهويته المنتحلة كأمير «علية القوم» مشوها هويتهم إلى أرباب ملاجئ لا حول لهم ولا قوة.
ولدت الهويات الزائفة، الفراش- الأمير المخاطب (بكسر الطاء) والأرستقراطيين-المشردين المخاطبين (بفتح الطاء)، في فيلم «سلامة في خير» مشهدا كوميديا رائعا وأنتج اصطدامها مضمونا إنسانيا ساخرا. أما في السياسة فإن زيف الهويات يغتال الحقيقة ويشوه الوعي العام ويباعد بمأساوية بين المواطن وبين الإدراك الموضوعي لأزمات الدولة والمجتمع وبينهما وبين مواجهة الأزمات بفاعلية وطلب التقدم والرخاء والحرية.
وفي مصر، تحمل لنا اللحظة السياسية الراهنة الكثير من نماذج الهويات الزائفة التي تثبت عودتها إلى الواجهة ومساحات النفوذ الواسعة المتاحة لها، من بين أمور أخرى، انتكاس مسار التحول الديمقراطي الذي بدأ مع ثورة يناير/كانون الثاني 2011. هكذا تتحدث النخب الحكومية والحزبية والإعلامية والاقتصادية والمالية المؤيدة لترتيبات ما بعد 3 يوليو/تموز 2013 بهوية زائفة عن الدستور العصري وسيادة القانون وضمانات الحقوق والحريات وتداول السلطة، بينما سياقات الحقيقة تخبر عن بنيان دستوري غير ديمقراطي وسيادة قانون لا تحترم وانتهاكات للحقوق وقيود على الحريات لا تتراجع ولا ترتب مساءلة ومحاسبة وإصلاح وهيمنة للمكون العسكري – الأمني على الدولة والسياسة تعصف فعليا بفرص تداول السلطة وعسكرة للمخيلة الجماعية تقضي على دور المدنيين. هكذا تأتي الوفود الرسمية من بلدان عربية لا ديمقراطية فيها ولا حريات سياسية ولا انتخابات دورية ولا توازن ورقابة بين السلطات لتتباحث مع النخب الحكومية والحزبية المصرية بشأن روابط الأخوة والعلاقات الاقتصادية والتجارية وكذلك بشأن «إجراءات التحول الديمقراطي»، فينتحل الطرفان هوية ديمقراطية ليست لهما ويشوهان في الوعي العام واقع استمرار هيمنة (أو عودة هيمنة) السلطويات العربية على الدول والمجتمعات والسياسة والمواطن. هكذا تتحدث بعض الحكومات الغربية عن متابعتها «لمسار التحول الديمقراطي في مصر» وارتياحها «للخطوات التي تقطع» ومناشدتها المزيد من «الالتزام بالحريات»، فتدعي لذاتها بذلك زيفا هوية «دعم الديمقراطية في الخارج» وتغتال حقيقة ركضها الدائم وراء مصالحها الاستراتيجية والأمنية والاقتصادية وتضحيتها بالحريات حين تتعارض مع المصالح هذه وتمكن بالتبعية النخب الحكومية والحزبية المصرية من تنويع إضافي زائف لمستويات ومقولات خطابها بشأن إجراءات التحول الديمقراطي.
وهكذا يرفع الإخوان مع حلفائهم في اليمين الديني اليوم لواء مفاهيم الشرعية الديمقراطية ورفض تدخل الجيش في السياسة وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان وحرية وعلنية العمل العام والتعبير السلمي عن الرأي، ولو كان الإخوان التزموا هذه المفاهيم كمكونات رئيسية لهويتهم السياسية بين 11 فبراير/شباط 2011 و30 يونيو/حزيران 2013 لنجحوا في بناء توافق وطني حول إجراءات ديمقراطية تدمج ولا تقصي ولمكنوا الحزب العلني (الحرية والعدالة) وليس الجماعة السرية من تصدر عملهم السياسي ولابتعدوا عن التورط في صياغة تحالفات مع المكون العسكري – الأمني تتناقض مع شروط البنيان الديمقراطي والعدالة الانتقالية ولامتنعوا عن محاولة السيطرة الانفرادية على الدولة ومؤسساتها عوضا عن الإصلاح والشراكة ولقبلوا التعددية وصانوا حقوق الإنسان والحريات. ولو كان الإخوان التزموا بهذه المفاهيم كمكونات لهوية حقيقية وليست زائفة قبل 30 يونيو 2013 لوجدوا اليوم على الأرجح أصواتا أكثر ترفض انتكاس التحول الديمقراطي وعودة هيمنة المكون العسكري- الأمني وانتهاكات حقوق الإنسان التي تطالهم والانتقاص المدان من حرياتهم بل ونزع إنسانيتهم الذي تحول إلى واقع مع فض اعتصاماتهم بالقوة وفي ظل الترويج لفاشية الإقصاء وذيوع فولكلور التشفي الشعبي، دون أن ترتب هذه العلاقة الارتباطية المفترضة إعفاء المساومين على الديمقراطية ومبرري الانتهاكات والمتورطين في الترويج لهيمنة المكون العسكري-الأمني وتشويه الوعي والصامتين طمعا في قبول شعبي والمتحايلين أملا في الحفاظ على مكاسب سياسية من المسؤولية الأخلاقية أو تسقط واجب الدفاع المبدئي عن حقوق الإنسان والحريات.
أسوأ مكان في الجحيم سيكون محجوزا لهؤلاء الذين يبقون على الحياد في أوقات المعارك الأخلاقية العظيمة – والاقتباس هذا ينسبه في السياق المصري الراهن بعض الكتاب والسياسيين والشخصيات العامة إلى شاعر وفيلسوف القرون الوسطى الإيطالي دانتي، ويدعون أنه يرد في قصيدته «الكوميديا الإلهية»، ويستدعونه للتدليل من جهة على «الضرورة الأخلاقية» لتأييد ترتيبات ما بعد 3 يوليو/تموز 2013 و»الحرب على الإرهاب» و»مواجهة الدولة للعنف»، ومن جهة أخرى لإثبات «لا أخلاقية» من يدفعهم رفضهم للإرهاب وللعنف عامة إلى نقد العنف الرسمي كما ينقدون العنف الأهلي وإلى المطالبة بالتزام سيادة القانون والحقوق والحريات حتى في «أوقات المعارك الأخلاقية العظيمة» وإلى الابتعاد عن التعويل الأحادي على الحلول الأمنية والبحث عن بناء التوافق والعيش المشترك والمخارج السياسية.
الطريف في الأمر، بداية، هو أن تنسيب هذا الاقتباس لدانتي والزعم أنه يرد في الكوميديا الإلهية يمثلان معا تورطا دون تحر للدقة في خطأ شائع تسبب به الرئيس الأمريكي الأسبق جون كنيدي حين أشار في خطاب ألقاه في 1963 في عاصمة ألمانيا الغربية السابقة (بون) وتناول فيه الصراع بين الغرب الحر والكتلة السوفييتية الشيوعية إلى أن «دانتي قال يوما أن أكثر الأماكن سخونة في الجحيم محجوزة لهؤلاء الذين يبقون على الحياد في أوقات الأزمات الأخلاقية»، وبإشارته هذه وبقليل من التحوير اللغوي تحولت هذه الكلمات وإلى اليوم إلى عبارة ذائعة الصيت عالميا ونسبت زيفا كاقتباس إلى دانتي و»كوميديته» على الرغم من عدم ورودها فيها.
وللدقة، الوارد بشأن المترددين وغير القادرين على اتخاذ الواضح من المواقف، وفي موقع وحيد في الكوميديا الإلهية – القصيدة المكتوبة كرحلة إلى الجحيم وكحوار بين دانتي ومعلمه أو سيده بالمعنى الديني – هو كالتالي (ترجمتي الشخصية من النص الألماني للكوميديا الإلهية إلى العربية): «وقلت، أنا الذي التف الرعب حول رأسه: سيدي ما هذا الذي أسمعه الآن؟ من هؤلاء الذين يهزمهم الألم؟ وقال هو لي: هذا المسار البائس تأخذه الأرواح الحزينة لهؤلاء الذين امضوا حياتهم دون ذم أو مدح (…) هم الآن في معية أولئك الذين لم يعصوا الإله ولم يطيعوه، بل تنحوا جانبا لذواتهم (…)تطردهم السموات لكي لا تصبح أقل عدلا، ولا يستقبلهم الجحيم، بل ولا يريدهم الشر لأنه لن يحصل منهم على المجد».
وفقا لقراءتي المتواضعة، ترتبط المضامين التي يعبر عنها دانتي في الموقع المذكور أعلاه في الكوميديا الإلهية، بالثلاثية الدينية طاعة الإله – الشرك والمعصية – حالة اللامبالاة التي تدفع بعض البشر إلى تجاهل التدبر في حكمة الخلق ومغزاها وتختزل حياتهم إلى ركض أناني ومسعور وراء المنافع الذاتية. بعبارة أخرى، تنعدم الصلة بين أفكار وعبارات دانتي في قصيدته ذات البنيان المعرفي الديني (المسيحي)، والتي أنتجت في سياق تاريخي مضطرب (القرن الرابع عشر) بهدف فرض سيطرة المقدس والديني على البشري والدنيوي، وبين مسألة الحياد في أوقات المعارك أو الأزمات الأخلاقية العظيمة التي أقحمها في ستينيات القرن الماضي رئيس أمريكي ويستسيغ استدعاءها منذ حينها زيفا ودون تحر للدقة بشأن فهم السياقات المعرفية والتاريخية الكثير من الأصوات والأقلام بغية الانتصار لمواقف سياسية بعينها تتفاوت من الانحياز إلى الغرب الحر في مواجهة الشيوعية (كنيدي) إلى تأييد الدول في «حروبها ضد الإرهاب» (الخطاب الرسمي المصري اليوم ومقولات مؤيديه).
بعيدا عن اقتباس دانتي المزعوم، لا يمكن إنكار حقيقة أن الدول والمجتمعات والإنسانية جمعاء تدخل بانتظام في معارك أخلاقية عظيمة وكون المبادئ والقيم التي نؤمن بها كبشر تختبر في هذه المعارك كما يختبر اتساقنا معها كقواعد مجردة. وبالإسقاط على الواقع المصري واللحظة السياسية الراهنة، يصبح التمسك بالعدل والمساواة والحرية والكرامة الإنسانية والسلمية والعيش المشترك والتعددية وقبول الآخر والدفاع عنها برفض دولة الظلم التي لا تحترم القانون – الترجمة المجردة للعدل وللمساواة – وبرفض انتهاكات الحقوق والحريات وبصون الكرامة الإنسانية والسلم الأهلي في مواجهة عنف المجموعات أو العنف الرسمي الذي يتغول مع الممارسات الأمنية وبالمطالبة ببناء التوافق والعيش المشترك دون تمييز أو اضطهاد أو إقصاء بمثابة مكونات رئيسية للموقف الأخلاقي غير المحايد ولهوية سياسية غير زائفة.

القدس

نيسان ـ نشر في 2015-12-01 الساعة 19:25

الكلمات الأكثر بحثاً